هدى ابلان في " اشتغالات الفائض "

بين وميض الاسئلة .. وتوهج الذات

 

 

عبد الرحمن مراد

أصبح النص الشعري الحديث يتشكل من خلال منظومة من العلائق للعناصر البانية له , وهو نتاج تاريخ طويل من الإبدالات التي تغيرت معها مواطن القراءة , مثلما تغيرت قيم وعناصر الإبداع من حيث الشكل أو المضمون .
ويمكن أن يقال أن شعرية النص الحديث تكمن في المفارقة أو الفجوة التي يعرفها كمال ابو ديب , في كتابة الذي بعنوان ( في الشعرية ) بالقول :
” إن الفجوة هي مسافة التوتر , لا تنشأ من وجود المادة اللغوية معزولة بل من وجودها العلائقي , أي من شبكة العلاقات القائمة بين المادة اللغوية وبين النص الذي تتحرك المادة فيه وتتفاعل معه” .
وقصيدة الومضة التي تشتغل على المفارقة أو الفجوة أو التكثيف والإيحاء والإيجاز لم تأت من خارج الذائقة الجمالية العربية ولكنها كانت إبدالاً حمل سؤالاً ووهجاً شعرياً حديثاً , جاء ذلك الإبدال من مماثل تأريخي توافق أرباب الصناعة على تسميته بالتوقيعات وهو يختلف عن جذره التاريخي من حيث الشعرية ذات الوجه المكثف والمشع في البنى والعلائق التي يقوم عليها النص , فالومضة الشعرية , ذات تصرخ وتسأل وصورة خاطفة دالة على قدرة عالية في الخلق والابتكار , وفي المتخيل الذي يشع بتكثيف دلالي من خلال البنية الرأسية والأفقية للنص الذي ينساب بتلقائية وتداعي مفرط , لكنها تلقائية وليست اعتباطية , فهي ذات مرجعية لها منطقها وقوانينها الخاصة , فمنطقها يقوم على التجربة والمعاناة , وقوانينها لها ارتباط بالعناصر المكونة للنص , فالشعرية فيها تتأسس على الصفاء والألق وهو الأمر الذي قد نلاحظه من خلال قراءتنا لمجموعة ( اشتغالات الفائض ) للشاعرة هدى أبلان .
ولعل المتأمل في عنوان المجموعة قد يدرك عمق الرؤية للشاعرة , وأصالة التجربة , وأبعاد المعاناة , فاشتغال الفائض في الحيز الوجودي للإنسان أصبح اغتراباً يفصل بين الذات وبين نشاطها ومنتجها , وبينها وبين محيطها المادي , كما يؤكد ذلك النص الذي حملت المجموعة اسمه حيث تقول الشاعرة في النص :-

حين يندلق من يديك اللون
وتفيض الأشياء عن إطار اللوحة
وتخرج الريشة شاهرة رأس ( بيكاسو )
أو ربما أصابع ( آمنة النصيري)
تذكر أن الخيبات وحدها ستتجمّع
لتصنع لوحةً فائضةً عن الحاجة
***
فالنص هنا أصبح مكتملاً مبنى ومعنى , وهو قائم على بيان معاناة الفنان في محيطه وفي ذاته , فاللوحة قد تصبح عملاً فائضاً عن الحاجة , ومبدعها يشعر باغترابه عن محيطه الذي لا يتفاعل مع نشاطه , فالفائض اشتغال عبثي , وخيبة أمل في واقع منفصل عن الذات, وذيل النص التالي هو مسافة التوتر والقلق بين الفائض وضرورة الفن في الحياة :-
المجد للوحة اللقيطة
المعجونة من عرق الرسامين ونفاياتهم
المجد للوحة التي تلطخ فيك كل شيء
إلا القلب
هذا القليل من الدم الذي يصنع حمرة العالم .
***
وهنا تصل اللغة إلى ذروة اشتعالها , “فاللقيطة” تتشظى دلالياً في شبكة واسعة من العلائق الاجتماعية والثقافية لتخلق لذاتها عالماً دلالياً خاصاً , والمحكي من المفردات “معجون , عرق الرسامين, نفاياتهم, تلطخ ” تكتنز بالشعرية من خلال سياقها الدلالي والإيحائي الذي يهجو غياب القيمة والذائقة الجمالية ويرثي الذات المبدعة في محيطها الذي تشعر باغترابها فيه , ولا أمل لها إلا احساسها بقيمة فنها وقدرتها وطاقتها الإبداعية والابتكارية التي ستصنع (حمرة العالم ) أي خجلة , فالمفارقة هنا تقوم على الحضور الإبداعي وغياب الذائقة الجمالية التي لا تسبر غور الفن كحياة مركزة وكقيمة مثلى .
أما الفائض التالي التي تستشعره الذات المبدعة في محيطها ويشتغل عليه النص فهو ( الحب ) الذي يصدمه واقعه برؤية فائضة عن الحاجة إلية كما يدل على ذلك النص :-
حين يندلق من عينيك الحب ….
هناك رؤية فائضة عن الحاجة .
سترى الضوء في الطعنة .
النسيان في جثث أصدقائك
لسان طفل في تأتأة السياسيين
العفة في الليل
الاجتهاد في الشيطان
***
فالرؤية هنا التي ترى الحب فائضاً ترتكز على المقومات التالية :-
– الضوء : وهو يدل على “الوضوح الانكشاف” , وقد يفضي الى “الطعنة « التي تعني النزيف —->وكل ذلك يفضي الى نتيجة واحدة وهي … (الفناء , العدم) .
– لسان الطفل : ويدل على “ البراءة والنوايا الحسنة” وهو يفضي الى “تأتأة السياسيين” وتلك الحالة دالة على طفولة السياسي وبالتالي على …( العجز) .
– العفة : وتدل على “ الطهر والنقاء” وهي حالة قد تفضي الى “ الليل” الدال على الوحشة ….( ظلام الرؤية) .
– الاجتهاد …> العمل الانتاج …> الشيطان …> (المراوغة , الفسق) .
***
إذن النتيجة لتلك الرؤية الفائضة التي تتجاوز الحب هي :
(الفناء , الركام , العجز , فساد الرؤية , الخروج عن نسق الحياة واحتمالاتها )
وفي المقابل فإن الحب يملك طاقة حيوية وفاعلة تكشف خبايا الذات وتتجاوز به لحظة ألمها , ويعزز قيم البراءة والنوايا الحسنة , ويحمل في تكوينه روح الطهر والنقاء , ويفجر طاقة الإنتاج والابتكار , وهذه المفارقة تصنع سؤال الحياة من خلال توهج الذات في عتمة واقعها الذي تستهجنه في النص المذال التالي :-
هكذا الحب النافر يثقب عينيك
ويضيف أذيالاً للخيبة
* * *
فالحب الفائض ليس إلا ذيلاً مضافاً إلى حالة الانكسار والخيبة التي يعاني منها الإنسان ليتسع الجرح أكثر, وتتسع فجوة الحياة ,كما يوحي بذلك هذا المقطع من ذات النص (اشتغالات الفائض ) حيث تقول :-
سيخرج الفائضون عن لحظة الحبو
يبكون أحذيتهم التي تقطعت
مدنهم التي جلتها في شهوة المعرفة
ميادين الموت التي نسفها قلبك
***
لك ………
استدارة خاطفة في رقصة الحياة …
التقطتها عدسة فائضة عن الوجه
لتعلق في جدار فائض في البيت
في شارع فائض في الوطن .
***
فالفائضون عن لحظة الحبو / البداية .., هم أولئك الذين يرفضون الأهداف الثقافية , ويتعرضون لعملية التفكيك ، وعلى إثر ذلك فقدوا المعيارية , وشعروا بالعدم , وتقطعت بهم الاسباب , وفي المقابل فالاستدارة الخاطفة تستهدف القيام ببناء اجتماعي كبير جديد تكون المستويات الثقافية فيه معدلة, ولو باشتغال ذلك التعديل في حيز مكافئ جزئي لكنه نوعي – كجدار في بيت , أو شارع في وطن – فالمعادل الموضوعي هو الشعور بالآدمية المفقودة , والخروج من بند القيمة الفائضة من حسابات السوق إلى القيمة الفعلية المتفاعلة ( الشعور بالقيمة ) وتلك الاستدارة لا بد لها من التكرار في احتفاء صامت فائض عن تحمل الجوع وحيداً باعتبار الجوع هو الفراغ الذي بشعر به الانسان المبدع كما يوحي بذلك هذا المقطع النصي :-
واستدارة تليق بالتكرار في عرس صامت
يفيض عن قدرتك على تحمل الجوع وحيداً
لابد من شاهد كي يترجح الموت بينكما
يد تنطفئ …..
ويد ترفع قفاز الحكاية .
***
فالشاهد هنا يرمز إلى الحد الفاصل بين ثنائية النهاية / البداية , نهاية من فقدوا المعيارية , وشعروا بالعدم , وبداية من يقومون بتعديل المستويات الثقافية , وقالوا بالتجديد وتمردوا على السائد بحثاً عما هو أفضل خوف الفناء أو الاغتراب عن المجتمع ولعل استشعار هذا المآل جعل الشاعرة تصرخ في مجموعتها قائلة :-
هكذا كل شيء يذوب من شدة النفي
من الايدي المرفوعة للنكران
من هندسة الزيف في عيون تبتكر الضلال
فلتوزع الحياة حريرها الأبيض على كل الجهات
ولتخل الساحة للموت
الذي سيحكمنا بكل هذه الأناقة .
***
فالشاعرة هنا تنظر إلى الواقع باعتباره واقعاً متعسفاً لا يمتاز بالشرعية , وتشعر أن وجودها فيه صار وجوداً عديماً مغترباً فائضاً عن الحاجة , وغياب (الأنا ) هنا دلالة على المطلق , فالقضية التي تطرحها مجموعة ( اشتغالات الفائض ) قضية اجتماعية تشتغل على الثنائيات : المعيارية / والتمرد , والحضور / والغياب , والقيمة الفائضة ، والقيمة الفاعلة والفعلية والجوهرية , وتجهد كل الجهد في خلق أهداف ثقافية جديدة عن طريق بعث روح التمرد حتى يمكننا تطوير المعيارية بتفجير الطاقة الكامنة للثورة التي تعيد تشكيل البناء الاجتماعي والمعياري .
***
والمتأمل في المجموعة الشعرية، يجد أن معجمها ينتمي إلى المحكي اليومي , وقد تجولت تلك المفردات إلى شعرية عالية بقوة الخيال الإبداعي الذي تمكن من رسم المفارقات ومساقة التوتر في شبكة العلاقات بين النص واللغة , وكان لتلقائية البناء وانسيابية الإيقاع وقع مؤثر على المتلقي، حيث استطاعت الشاعرة أن تنقله الى الشعرية في سياقها الدلالي الإيحائي , ومن خلال قدرتها على تفجير الطاقة الكامنة في اللغة بصورة تدل على القدرة والتمكن وامتلاك ناصية الصنعة , الأمر الذي يجعلنا نقول ونحن مطمئنون إن مجموعة ( إشتغالات الفائض ) للشاعرة المبدعة هدى أبلان , تؤسس لمرحلة إبداعية وفنية جديدة تجعل الشاعرة أكثر تفرداً وامتلاكاً لنفسها الخاص , وصوتها الإبداعي والرؤيوي الدال عليها .

 

 

تقرأون كذلك :

المجلات الأدبية بين الاستمراريـة والانقطاع

الغموض الأدبي

حكايةُ نص

تأملات في كتاب “رحلة خلف القضبان”

امتزاج المعقول اللامعقول شعبيا

أمريكا الشيطانُ الأكبرُ

شاعر الموقف والرسالة

فنانونا والتراث ..

الروائي/وجدي الأهدل: مجتمعنا لا يفرَّق بين دور الأديب ودور الـمـــهرَّج!!

لعبة الظلال.. رواية فلسلفة الحب بصدق فني باذخ

الشعر في مواجهة العدوان

الأصبحي في عمل سردي جديد يستقرئ مشهد تقدم ورفاهية الصين بعيون عربية

الصنعة الشعرية

خيالك .. يلهو مع تمرّده

تماسك السرد والإخلال بالتاريخ

سوسيولوجيا المفكر

 

قد يعجبك ايضا