لعبة الظلال.. رواية فلسلفة الحب بصدق فني باذخ

 

الغربي عمران

منى عارف أديبة إسكندرانية.. تفاجئ قراءها بين فينة وأخرى.. بإصداراتها المتنوعة.. سرد.. قراءات نقدية، وهي من الأسماء المكرسة بتجدد إبداعها وتنوع أنشطتها ومشاركاتها.
حظيت في آخر زيارتي لمدينة النور والسلام الإسكندرية بعدد من إصداراتها ومن بينها رواية تلامس عبق مصر وبهائها.. مركزة على حروب النصف الأخير من القرن المنصرم.. وأثرها على الإنسان والحياة في مصر.
مع الصفحات الأولى للرواية.. تهت.. فلا أسماء ولا ما يدلني على نوع السارد.. هل هو عليم أم مشارك.. لأكتشف بأن الكاتبة أرادت للقارئ ذلك التوهان.. بعد أن أجادت لعبة سردية من لعب الكاتبة.. حين جعلت سردها وبوح شخصيات غير معلومة تقودنا لنكتشف كينونة من يسرد.. وما يبوح وينوح.. إذ استمررت في البحث عن دليل تحت الحاجة للمعرفة.. لأجد أن أول اسم يُذكر منصور في صفحة”20”. وهو إحدى الشخصيات المحورية، ليأتي الاسم الثاني هند ضمن سياق المتن في صفحة 26.. مع أنه سبق أن وضع كعنوان في صفحة 11.. لكن ذلك العنوان لم يدلل على أنها من تسرد.. وإن كان بضمير أنثوي الاسم الثالث عم صابر في صفحة29، ثم العميد بدران43 صفحة والموظف صادق أفندي صفحة44 والصحفي فهمي جرجس ذكر اسمه لأول مرة صفحة 59، إذاً هي لعبة قصدتها الكاتبة أم لم تقصدها إلا أنها كانت جاذبة.. وجديدة على القارئ.. في الوقت الذي تعودنا دلق الأسماء من أول صفحة.. بل وتكاثرها حتى إرباك القارئ.. في رواية عارف.. جاءت تلك الشخصيات في محلها ووفق أدوار هامة لا غنى عنها.. فهند معلمة وباحثة.. ومنصور ضبط شارك في معارك مصر بداية بـ 97م مرورا بالعبور والنصر.. وهو الآن مسؤول أمني في قصر القبة الأثري.. يتبعه ضمن مكتبة عم صابر.. وصادق أفندي.. وبدران شخصية عسكرية ضمن القيادات الأمنية اعلى من منصور.. وفهمي جرجس.. صحفي يسلط قلمه على مواطن الخلل بجرأة لافتة. وجميع تلك الشخصيات تواجدت على مسرح الأحداث قبل ذكر أسمائها.. فمثلاً هند تسرد من أول صفحة نائحة على حبيب تفتقده.. لكن اسمه كما ذكرنا لم يذكر ضمن سياق السرد إلا متأخرا.
منى عارف وتأخر ذكر أسماء شخصياتها فيه من الفن.. ولم تعتمد على كثرة الأسماء فروايتها التي تقترب من المائتين وخمسين صفحة لم تتجاوز العشر شخصيات.
لعبة فنية أخرى.. غير متاهة الأسماء.. هناك متاهة الأصوات، حين تتماهى فلا تميز من يسرد عليكم.. أم إحدى الشخصيات.. ليشد ذلك الأسلوب القارئ.. ويمكننا أن نحسبها تقنية لدى الكاتبة غير مخلة.. لنكتشف بعد أن يفشي النص سارده.. أن من يسرد شخصيات مشاركة.. وقد اتضح ان هند ومنصور من يتبادلان سرد الأحدث.. اضافة إلى شخصيات أخرى من خلال حوارات مطولة.
لعبة ثالثة انتهجتها الكاتبة.. حين ظل نواح هند وعلى مدى عشرات الصفحات وفقدها على شخص غير معلوم.. وظلت تردد جملة “بابا مات” في مطلع أكثر من جزء.. ما يقود القارئ إلى تساؤل.. هل تنوح على فقد والدها أم صديق أم… وهكذا ظل التشويق يقودنا حتى صفحة43.. لنعرف بأن منصور ضابط يعمل ضمن حراسة قصر القبة الأثري.. وأن هند المدرسة في أحد المعاهد.. وأنها حضرت إلى مكتبة لإعداد بحث حول أبطال مصر.. لتقدح بداية من صفحة51 شرارة المحبة من لحظة دخول هند مكتب الضابط منصور.
إلا أن بوح هند ظل من أول سطر في الرواية.. إذ دأبت الكاتبة على ذكر فقد هند للصديق والحبيب “قد تبدو اليوم اشياء بسيطة للغاية بالغة القيمة.. لمسة حنان على جدار القلب تدفئه.. وتقيه برد ليالي غياب يدوم.. ونهار خريف نتبادل فيه اللوم.. يحاصرنا الشجن.. وعمر الهوى قصير.. وكذلك هو جاء من حيث لا أدري ورحل.. تاركا كل هذا الأثر”، هذه الفقرة من صفحة 37، والعلاقة العاطفية بين هند الشابة والخمسيني منصور أحد محاور الرواية، إضافة إلى محور ثالث يتمثل في حروب مصر التي عالجتها الكاتبة بشكل بانورامي.. بدءاً من حرب الاستنزاف وصمود الشعب وتلاحمه.. إلى الهزيمة.. ثم العبور والنصر.. إلى اغتيال بطل النصر السادات.. ثم مرحلة الاسترخاء وتفشي الفساد بنهب المال العام.. وبيع القطاع العام وكل مقومات نهضة مصر.. وانتهاءً بظهور طبقة طفيلية.. لا هم لها إلا مصالحها الخاصة.
ومحور ثالث وأخير.. تمثل في البعد التاريخي.. من فرعوني إلى العهد الملكي.. وما مثله من رموز. إضافة إلى عدة ثيمات مثل: الفقد.. التطرف.. الفساد.. الهوية.
وإذا كان الجانب الموضوعي مهماً.. فإن الجانب الفني أهم.. إذ لا يمكن أن يكون النص نصاً فنياً إلا بتلك التقنيات والألاعيب السردية المشوقة والباعثة على الإدهاش.. فحين يعتمد الكاتب على الفكرة دون الاهتمام بإخراجها في قالب مشوق ومدهش.. يكون العمل باهتاً وغير مكتمل فنياً.. ومثل ذلك أعمال تحسب على الرواية كثيراً.
ومنى عارف هنا استطاعت أن تشرك القارئ في أكثر من لعبة فنية.. وكما ذكرنا سابقا التريث في كشف أسماء الشخصيات.. أسلوب تماهي الأصوات الساردة، غموض العلاقات بين شخصيات الرواية، معتمدة في مساحات واسعة من عملها على الايماء والإيحاء دون البوح المباشر. وتلك أروع فنيات لعبة الظلال.. والتي تستحق التوسع في تناولها من نقاد الدراسات الأكاديمية.
أمر آخر استخدام الرمزية.. فالوطن تمثل في هذا العمل بقصر القبة.. والفساد تجسد بتلك المزادات التي كانت تنظم لبيع مقتنياته الثمينة.. لتأتي اللطمة الكبرى ويعلن عن بيع القصر بأكمله في نهاية المطاف.. وهنا تصحو الكرامة دفاعا عن الوطن.. لتدور معركة بين من يسعون لبيع مصر.. وبين من يدافعون عن شرفها وتاريخها ومكاسبها وآثارها. رمزية أجادت مبدعتنا في اختيارها، ما أضفى على عملها بعداً وعمقاً كبيراً.
عالجت الكاتبة الهوية المصرية من خلال رمزية العلاقة بين الصحفي فهمي والضابط منصور.. لتبرز المواطنة المصرية بكل أبعادها.. في مواجهة تغول التطرف الذي لا يقبل التنوع والاختلاف.. لتأتي النتيجة الحتمية بسقوط فهمي شهيدا على يدي المتطرفين، مثله مثل كل من يخالفونهم الرأي أو من غير عقيدتهم.. لتأتي كلمات فرج فودة “سيصرخون ضد الغناء.. ويغني الشعب، سيصرخون ضد الموسيقى.. وسيطرب الشعب، سيصرخون ضد التمثيل وسيحرص الشعب على مشاهدته. سيصرخون ضد الفكر والمفكرين.. وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ويصرخون .. وسيملأون الدنيا صراخا.. وسترتفع أصوات مكبراتهم، وستنفجر قنابلهم وتفرقع رصاصهم.. وسوف يكونون في النهاية ضحايا كل ما يفعلون.. وسوف يدفعون الثمن غاليا.. حين يحتقرهم الجميع.. ويرفضهم الجميع.. ويطاردهم الجميع”.
في هذه الرواية توهجت ثقافة الكاتبة.. وأجزم بأنها قبل أن تبدأ بالصياغة قد مرت على عشرات الكتب.. فهاهي تضع تواريخ كثير من الأحداث الهامة بكل دقة.. خاصة العسكرية والتاريخية المصرية.. وكذلك تذكر عشرات المواقع والوقائع الحربية.. والقطع البحرية والكثير من العمليات في حربي الاستنزاف والعبور.. فلم تكن الرواية لدى الكاتبة مجرد حكي وتخييل.. بل ثراء معلوماتي.. وتفاصيل صغيرة حول أهم المعارك وتلك الأسلحة العسكرية المستخدمة فيها.. حيث قدمت الكاتبة لوحات فنية مشهدية.. بنسيج فني شيق.. وتحليل فلسلفي عميق.
لغة الرواية لغة فاتنة.. إلا أن تقاربها بين لغة هند ومنصور كان متشابهاً مترعاً بالعاطفة والمعاني النبيلة.. ونأتي لبعض الجمل العامة للتدليل “وتعلمت أنه لا أحد يعود من حث رحل.. من الذي سيظل يبحث عن الشموع عندما تشرق الشمس”، وعبارة أخرى “لا يهم كم مر من الوقت.. لأنه لا تحدده عقارب الساعة.. بل يتغير حسب نبضات القلب.. هو بطيء عندما ننتظر.. وسريع عندما نخاف.. طويل عندما نحزن.. وقصير عندما نفرح.. ويتوقف عندما لا نحب”.
كما أن هند كانت تستشهد بمقاطع من أغاني أم كلثوم لتقريب حالتها العاطفية والنفسية.. لتعبر عما يحمله قلبها.. وما يعتمل على مستوى الوعي الجمعي المصري.. وسأختار بداية ما وضع في بداية كل صفحات سرد هند “ياحبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء”،”أين مني مجلسٌ أنت به…”. “أغداً ألقاك؟ ياخوف فؤادي من غدٍ.. يا لا شوقي واحتراقي…”،” انت عمري اللي ابتدأ بنورك صباحه”.
ومثلما كان سرد هند يبدأ بتلك المقاطع.. أيضا نحا منصور نفس المنحى “كأن طاف بي ركب الليالي يحدث عنك في الدنيا وعني”، “ لسه فاكر؟ ولا فاكر كلمة حتعيد اللي كان”، “رجعوني عينيك لأيم اللي راحوا.. علموني أندم على الماضي وجراحو”. وهكذا اتخذت الكاتبة من مقاطع أم كلثوم كمؤشر لتلك العلاقة الحب الراقي دون أن يتخلله أي مشاهد لتلك الغرائز المصاحبة.
الكاتبة استخدمت أيضاً لعبة الشطرنج منذ أولى صفحات الرواية كدليل لتأكيد أن العلاقات والحياة برمتها ماهي إلا لعبة.. تتخللها نقلات ونقلات عبر مربعات العمر.. وأن الحياة نجاحات وهزائم.. وكأن فكرة الحرب سيطرت على الجميع.. فالكل في حالة نقل من مربع إلى آخر.
من الصعب الإلمام بجوانب الرواية فنيا.. وكذلك موضوعيا.. وما كتبته مجرد تحية لكاتبة أخلصت للفن والأدب.. فأعطته كل تفكيرها ووقتها لترسل من خلاله رسائل إنسانية لأم الدنيا وللإنسانية جمعاء.. مبشرة بقيم الخير والسلام والتسامح والمحبة.. بأسلوب مدهش.

قد يعجبك ايضا