وجدي الأهدل
الغموض أحد الأمور المحببة في الأدب، بشرط أن يكون هذا الغموض صادقاً وليس مفتعلاً.
الوضوح يمنح النص فرصة الحضور مرة واحدة وكفى، أما الغموض فيمنح النص حضوراً مراوغاً وملتبساً وبالتالي فتح الباب لقراءات لا نهائية.
إذا كان “الغموض” مصطنعاً ولا يهب القارئ أيّ معنى فهذا مجرد خطأ تقني من المؤلف.
ينبغي أن يُفجر “الغموض” متوالية من الاحتمالات في ذهن القارئ، شيء يشبه العصف الذهني، بما يُثري النص ويُضيف إليه مساحة لم تكن في الحسبان.
“الغموض” هو أن يُحدث المؤلف فراغاً في النص، فيقوم القارئ النشط بالتفاعل مع هذا الفراغ وتعبئته بخياله الذاتي وخبرته الشخصية.
القارئ الخامل سوف ينزعج من هذا “الفراغ” وربما يحتج على المؤلف، وقد يتهمه بالتقصير ومخالفة الاتفاق الضمني بأن يضع كل شيء في مكانه، أيّ كما هو متوقع سلفاً، هذا القارئ الخامل ينفر من تشغيل خياله الخاص لإكمال اللوحة التي رسمها المؤلف في روايته أو قصته القصيرة. يرى القارئ الخامل نفسه كزبون في مطعم يجب تملقه وإرضاء ذوقه، وهذا النوع من القراء منتشر جداً، وغالباً ما يؤثر ذوقهم الأدبي في سوق النشر، وفي صعود روايات إلى قوائم الأكثر مبيعاً تتسم بالوضوح إلى درجة أنه يمكن الاكتفاء بقراءة عنوانها لتخمين محتواها، وربما وسمها بالأوفر خظاً في حصد الجوائز.
لاشك أن القارئ الخامل الخيال يتسبب بطريقة غير مباشرة في انحدار الكتابة الروائية وحصرها ضمن حدود معينة لا يمكن تجاوزها، وبالتدريج يتدنى مستوى الكتابة الروائية في محاولة لاهثة لتوفير سبل الراحة القصوى للقارئ.
في عالم متملق يسعى إلى توفير الراحة للقارئ، فإن الروائي سوف يُحجم عن تجاوز الأنماط التقليدية من الخيال الأدبي، لأنه يخشى أن يجد عمله منبوذاً من القراء والنقاد ومُحكمي الجوائز.. وسوف يقوم بوعي أو بدون وعي بتطويع أسلوبه الأدبي ليتماشى مع السائد من الأساليب الأدبية المضمونة النجاح.
يحرص المؤلف المنهجي على الدقة والوضوح الشديدين، لكن هذا النوع من المؤلفين الذين يتفانون في خدمة القارئ يُفقدون الأدب سحره.
المؤلف المغامر الذي هو عكس المؤلف المنهجي يخوض الكتابة كمغامرة، مُشركاً معه القارئ في هذه الورطة، وهو مستعد لتحمل النتائج كيفما كانت، فما يعنيه هو إقلاق الراحة الذهنية للقارئ ودفعه للتفاعل.
“الغموض” لا يأتي نتيجة الصنعة الأدبية، ولكنه ناتج عن شعور حقيقي ينتاب المؤلف حول موقف أو شخصية ما، وهو ذاته أول من يصطدم بهذا “المجهول” ولا يجد له تفسيراً، لذلك يتساوى المؤلف وقارئه في مقاربة غموض النص الأدبي، فلا يمتلك أحدهما أفضلية على الآخر.
“الغموض” الأدبي يطرح نفسه في النص كحالة شعورية مبهمة، قد تعجز اللغة المتداولة عن تبديد الضباب من حولها.
أحياناً قد يواجه المؤلف بطلب تفسير واضح لما يقصده فيعتذر محرجاً، لأنه حقاً لا يمتلك أيّ تفسير لما حدث.. وإذا جازف بطرح تفسير فإنه على الأرجح سيبدد جمالية عمله الأدبي.
حين يبدو أن المؤلف لا يعلم ما الذي يدور بالضبط، فإن هذا دليل على تواضعه الأدبي، وهو تواضع إيجابي لا يُقلل من موهبته، وأشبه ما يكون بتواضع العالم الذي لا يتحرج من قول إنه لا يعلم.
Next Post
قد يعجبك ايضا