إن صناعة المثقف غير متاحة أصلاً في بلادنا الخالية تقريباً من المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي
الروائي/وجدي الأهدل: مجتمعنا لا يفرَّق بين دور الأديب ودور الـمـــهرَّج!!
بإبداعه الباذخ الجمال استطاع أن يحتل مكانة رفيعة في المشهد الثقافي اليمني والعربي، وصار لإبداعه اطلالة متواصلة على المشهد الثقافي العالمي ،وذلك من خلال رواياته ومجاميع قصصه المدهشة المسكونة بالابداع والروعة والفن الجميل..
أتحدث عن الروائي والقاص المبدع وجدي الأهدل، من اجاد صناعة وإبداعاً ونسج سرده الفاتن والبديع وشيدّ معماره الروائي المميز ،مما جعله أحد أبرز كتاب الرواية اليمنية والعربية خلال السنوات الأخيرة، وصار لاسمه ذلك البريق الأصيل، وصار من الروائيين الذين تحصد أعمالهم الروائية العديد من الجوائز الرفيعة في الوطن العربي.. صاحب الإنجاز الروائي والقصصي الذي يحمل بصمة إبداعية خاصة ..بصمة وجدي الأهدل ..
عن هذا المبدع الكبير ،كان لي معه هذا اللقاء ،وهو لقاء أجريته معه قبل فترة ،وها أنذا أنشره في السطور التالية ،في محاولة لتسليط الضوء حول بعض محطات من حياة وإبداع الروائي الكبير والجميل وجدي الأهدل:
لقاء/محمد القعود
الإثارة والإبداع
• وجدي دائما متهم بالإثارة, في إبداعه , وفي القضايا التي يتناولها في إبداعه؟
شيء طيب أن يكتب المبدع أدباً مثيرا للاهتمام , ويبدو من طريقة طرحك للسؤال أنك تتهمني, وأنت تفترض سلفا أنني سأنفي هذه التهمة عن نفسي وأتبرأ منها، ورغم ذلك ستهزّ رأسك ولن تصدقني، فأنا من وجهة نظرك كاتب مثير، يصرّف بضاعته الأدبية عن طريق افتعال الإثارة، ولكي أطمئنك يا عزيزي فإنني أبشرك بقبولي التهمة، فأنا كاتب يبحث فعلاً عن الإثارة، وسأظل هكذا إلى آخر الخط!!
• يتهمك العديد من القراء بأن للجنس حضوره الكبير في أعمالك؟
– رائع!!
اختراق تابو الجنس
• التابوهات المحظورة، كيف اخترقتها؟ وما هي انعكاساتها على المبدع سلباً وإيجاباً؟
– لقد اخترقت التابوهات المحظورة بقلمي فقط، وأعتقد أن هذا اختراق مقبول ولائق، لأن ثمة آخرين يخترقون هذه التابوهات بأدوات مشبوهة وبممارسات شائنة تفوح منها رائحة الفضيحة، فمثلاً التابوه الجنسي أنا أخترقه بقلمي لا غير، في حين أن هناك من يخترقه بشيء آخر مختلف تماماً!، ولذا لا بد أن نميّز بين الإنسان الذي “يتخيّل” وبين الإنسان الذي يمارس في الواقع، فعلى سبيل المثال إذا رأى أحدهم مناماً فهل يعقل إذا رواه لنا أن نطالب بإقامة الحدّ عليه؟ إن الكتابة مثل الحلم لا نستطيع أن نتحكم بها فنجعلها وردية أو أن نفرض عليها قيوداً لتراعي أذواقنا في الحشمة، وأي إنسان مهما بلغ وقاره لن يجرؤ على الزعم بأنه لا يرى في أحلامه أموراً تنافي الحشمة والفضيلة، وأعرف أن بعض المستقيمين يشعرون بتأنيب الضمير حين يرون في أحلامهم أشياء معينة، وطبعاً هذا خطأ، لأن ما شاهدوه ليس حقيقياً، بل هو عالم افتراضي، والحل هو أن يكونوا متسامحين مع أحلامهم ، وعليهم أن يتقبلوها بسعة صدر، فهذه من وجهة نظري هي ضريبة الاستقامة، وبشأن الإبداع فإنني أرى أن يعامل معاملة الحلم، فهو في النهاية مجرد عالم افتراضي ليس له وجود مادي على أرض الواقع، وأن على المجتمع المستقيم تقبل فكرة دفع ضريبة رمزية تتمثل في السماح لمبدعيه بالتعبير عن المسكوت عنه .
أعداء المبدع
•من هم أعداء المبدع الذين يحدّون من إبداعه، المجتمع، الوظيفة، الرقابة… الخ؟
– أعداء المبدع هم الذين لا يفهمون الفرق الشاسع بين الحقيقة والخيال، فهناك فئة من الناس يقولون ما لا يفعلون، وهؤلاء هم المبدعون- بحسب توصيف القرآن الكريم-، وهناك فئة من الناس يقولون ما يفعلون , وهؤلاء البشر العاديون, وهناك الفئة الأكبر خطرا وهم الذين ” يفعلون ما لا يقولون ” فهم رجال الفعل الذين يفعلون الأفاعيل في الحياة اليومية, ويؤثرون على مصائر الملايين من البشر بأمزجتهم الانفصامية .
مناخ إبداعي
• ما دور البيئة في تشجيع المبدع على العطاء الإبداعي ؟
– يحتاج الإبداع إلى مناخ ملائم لينمو ويزدهر, وحالياً تشهد بلادنا نوعاً من الاستقرار السياسي , وهو ما انعكس بصورة جلية على المشهد الثقافي اليمني, ففي السابق قد يمر عام أو أكثر ولا تصدر في اليمن شماله وجنوبه, ولا حتى رواية واحدة, وأما الآن فيبدو الوضع مختلفاً ويوماً بعد يوم نشهد ولادة مبدعين جدد وكتب وإصدارات في شتى فروع المعرفة , وهذا أمر إيجابي ومؤشر طيب, ويستلزم منا الدفاع بشراسة عن حقنا في حرية التعبير والإصدار والنشر ومخاطبة أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع مع الحرص على حماية هذا “المناخ المواتي ” من الدخلاء الذين يحاولون إعادتنا إلى القرون الوسطى وعصور محاكم التفتيش في الضمائر .
السخرية والنميمة المضادة
• لماذا تطغى السخرية في أعمالك ؟
– ربما لأن الأدب اليمني والعربي عامة يفتقر إلى هذا الحس, رغم أنه عريق في أدبنا العربي القديم , لست أدري لماذا تغيب النكهة الساخرة من الأعمال المعاصرة, وللسخرية مظاهر واضحة وأخرى ملتوية , وليست السخرية مقترنة بالقفشة والظرافة بصورة دائمة فعندما نقرأ مثلا رواية ” في انتظار البرابرة ” للروائي الجنوب أفريقي ” كويتزي” نفاجأ بأن هذا الكاتب يسخر من مصطلح “البرابرة” الذي التصق دوما بالأقوام البدائية, فتراه يسقطه بحرفية عالية على “الرجل الأبيض حامل لواء الحضارة” إلى حد مقنع جداً للقارئ , وهذه سخرية عميقة نتحسسها في داخلنا وعلى مهل , إنها نوع من النميمة المضادة , وحين نأخذ في الاعتبار هذا النوع ” الباطني ” من السخرية سوف نفهم شطراً لا بأس به من الأعمال اليمنية الحديثة , وحتما تأتي قصائد البردوني في مقدمتها “.
حمار بين الأغاني
•روايتك “حمار بين الأغاني” جاء اسمها مستفزا للقارئ لماذا هذا العنوان ؟ ولماذا لم تثر أصداء في الوسط الثقافي؟ وكيف استقبلها النقاد والأدباء في اليمن؟
– هذا العنوان مستمد من مثل إيطالي شائع، ومعناه وجود شيء نشاز في المشهد، وقد قمت بتوظيف حوار جريء بين الروائي البرتو مورافيا والممثلة الايطالية صوفيا لورين في سياق الرواية لإغناء بعض المضامين التي أحسست أنها قد تغيب عن بال القارئ، وبشأن الاستقبال الفاتر لهذه الرواية من قبل الأدباء والنقاد في اليمن، فإن هذا من حسن طالعي، فأنا شخصياً وبعد تجربة رواية “قوارب جبلية” المريرة أفضل ألا يقرأني أحد، ولا الناشر نفسه، وأرى أن الكاتب الذي لا يقرأه احد هو إنسان محظوظ يفترض به أن يصلي ركعتي شكر لله، وأن يحرص على طاعة والديه، فمسألة أن تكون مقروءا في اليمن لن تمر مرور الكرام، وفيها قطع رأس أحيانا، ونفس هذا الشعور لمسته عند أفضل روائي خليجي معاصر وهو العزيز عبده خال ، الذي التقيته قبل سنوات في صنعاء وعبر لي عن ارتياحه لأنه يطبع رواياته في بريطانيا وألمانيا ولا تصل إلى يد القراء السعوديين إلا فيما ندر، لقد كنا مغتبطين بكوننا روائيين غير مقروئين.
الواقعية السحرية
• هناك من يتهمك بأنك تلجأ إلى الواقعية السحرية تشبهاً بكتاب الرواية في أمريكا اللاتينية، ما ردك؟ وما هو رأيك في هذا الاتجاه؟
– وهل الكتابة بأسلوب الواقعية السحرية جريمة يعاقب عليها القانون؟! أهي شيء مخل لا سمح الله بالأخلاق؟! من حيث المبدأ الكتابة بأسلوب الواقعية السحرية يتطلب مخيلة خصبة وطلاقة مدهشة على الابتكار والتجديد، وفيما يخصني أقول إنني لم أكتب بعد ما يؤهلني للانتماء إلى هذا التيار، ومحاولاتي في كتابة الرواية ما تزال بدائية.
• لماذا دائماً شخصياتك القصصية والروائية غريبة ولها ملامحها وحياتها القريبة من الفانتازيا؟
– أنت تعتقد أن معظم البشر طبيعيون، وهذا يعني دون شك أنك إنسان غريب وغير طبيعي بالمرة.. لذا سأضيفك أنت أيضاً إلى قائمة الشخصيات الفانتازية التي أنوي الكتابة عنها في المستقبل!
• بالمناسبة كيف تختار شخصياتك القصصية والروائية؟ وما هي المواصفات التي تضعها لها؟ وهل تخطط لها أدوارها ومساراتها؟
– أختار شخصياتي من الحياة، وأحاول أن أجد لها مكاناً مناسباً بداخل الرواية، ولكن لأنها من صلب الواقع فإنها قد تنمو في مسار غير الذي أردته لها.. المخطط النموذجي للشخصية لا أظن أحداً يعمل به، اللهم إلا إذا كان الروائي هو نفسه مصنوعاً من الورق.
• شخصياتك تلك، هل تلجأ إلى ترميزها واختزالها وإسقاطها على ما يناظرها في الواقع؟
– ليست الرواية مشغلاً لحياكة شخصيات خيالية على مقاس شخصيات حقيقية. هذه مهنة الخياطين، وليست مهنة الروائي. على كل حال يبدو أحياناً أن العكس هو الصحيح، وأن الروائي هو الذي يبدأ أولاً ثم يقلده الواقع! شيء لا يصدق، ولكن هذا ما يحدث، ثم يبدو وكأن الشاعر أو الروائي قد تنبأ بهذا الشيء أو ذاك.. إن هذا لشيء رهيب، ولذا ينبغي أن نقرأ جيداً ونحاول تلافي بعض الأمور.
• ما الشخصية الروائية أو القصصية التي تسعى دائماً إلى أن تكون موجودة في أعمالك؟
– الشخصية التي تسعى إلى معرفة نفسها.
ندرة الرواية اليمنية
• ما تفسيرك لندرة الرواية اليمنية؟ وماهي شروط ازدهار هذا الفن السردي؟
– كتابة الرواية بحاجة إلى شروط معينة.. منها المجتمع المستقر، ووجود نظام يتقبل النقد، وأن يعيش الروائي في مجتمع تعددي يقبل الآخر ويوفر الحماية للمختلف عنه في الرأي، وأن تتوفر حرية الاعتقاد والضمير والكلمة، وكما تلاحظ معظم هذه الشروط غير متوفرة في بلادنا، وتكاد تكون شروطاً تعجيزية.. وهذا يفسر قلة الإنتاج الروائي.
• هل استطاعت القصة اليمنية الحديثة أن توجد لها اتجاهات فنية محددة، وأن تستثمر الاتجاهات الفنية الحديثة في العالم؟
– بالطبع القصة القصيرة في اليمن تواكب الأساليب الحديثة في الكتابة، ولكنك تجد هذا التطور الأسلوبي عند عدد محدود من الكاتبات والكتاب، وأما الغالبية فيكتبون القصة القصيرة دون إلمام بالتقنيات الحديثة، فتظل مستوياتهم الفنية تراوح في مكانها. الذين يشكلون تيار الحداثة في كتابة القصة القصيرة هم أحمد زين وسمير عبدالفتاح ومحمد أحمد عثمان.
• النقد، ماذا قدم للقصة؟ وكيف ترى دور النقد بصورة عامة؟
– هناك كتابات نقدية متفرقة تظهر بين الفينة والأخرى، ولكنها تفتقد لصفة الشمول وميزة التأني في الطرح، وأستثني فقط الناقدة آمنة يوسف التي خالفت السائد، وأصدرت كتباً نقدية عن السرد اليمني تستحق الإشادة والتنويه.
صناعة المثقف
• المثقف اليمني إلى أي حد استطاع أن يؤدي دوره في المجتمع؟ وكيف ترى هذا المثقف؟ هل هو متفاعل مع قضايا محيطه؟
المثقف ليس نبتة برية تنمو في الخلاء من تلقاء نفسها.. ولكي تخلق مثقفاً فلا بد أن توجد مؤسسات ثقافية راسخة ينخرط فيها، بمعنى آخر إن صناعة المثقف غير متاحة أصلاً في بلادنا الخالية تقريباً من المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، وعلى سبيل المثال فإن غياب فن المسرح قد أدى إلى خسارة عدد لا يستهان به من المثقفين، بدءاً من المؤلفين المسرحيين ومروراً بالمخرجين والممثلين والفنيين والنقاد المسرحيين ووصولاً إلى جمهور المتفرجين، وقس على ذلك بقية فروع الثقافة التي كلما غاب فرع منها تضاءل عدد المثقفين في البلد وانكمش دورهم وتأثيرهم.
• ما هي الأسماء الشابة في القصة التي تجد أن لها سمات خاصة ولها نكهتها المميزة في كتابة القصة؟
– الجيل الشاب الذي يكتب القصة القصيرة هو الآن يقدم إضافات فنية مهمة، ولكن ظروف البلد وانصراف النقاد عن متابعة الجديد هو ما هضم حقهم في البروز والانتشار، الأسماء الجديرة بالذكر كثيرة، وليس من العدل ذكر بضعة أسماء وإهمال البقية.
تخطيط الرواية
• وجدي، كيف يخطط لكتابة روايته؟ كيف يجد المناخ الملائم لرسم شخصياته وإنجاز عمله الروائي والقصصي؟
– الروايات التي تمكنت من إنهائها هي التي بدأت أولاً بكتابة خاتمتها.. أو على الأقل كانت خاتمتها محسومة مسبقاً في ذهني، ذلك أن كتابة الرواية أشبه برحلة في صحراء تخلو من العلامات التي ترشدك إلى الطريق الصحيح، ومن خلال تواصلي مع عدد من الزملاء الكتاب اكتشفت أن بعضهم يتوقف عن كتابة روايته في منتصفها أو حتى بعد ذلك بكثير بسبب فقدانه الاتجاه وعجزه عن المواصلة.. لك أن تتخيل الأعباء الهائلة التي يتحملها الروائيون ليتابعون شق طريقهم صفحة بعد صفحة على مدار عام أو عدة أعوام في غالب الأحيان.
• الباراسيكولوجيا، أنت ممن يهتم بهذا العلم، ماذا استفدت منه؟ وإلى أي حد استفدت منه في أعمالك الإبداعية؟
– إنه علم مذهل، وقد وظفته في أعمالي بهذا القدر أو ذاك، ينكر البعض علمية هذا العلم، وكان ممن اعتبروه خرافة الفيزيائي اينشتاين الذي وصف فكرة أن مراقبة جسيم ما يمكن أن تغير في نفس الوقت من وضعية جسيم آخر بأنها خيالية، ولكن علماء من جامعة دلفت الألمانية أكدوا صحة هذه الفرضية.. وهي أن “الفعل الخيالي عن بعد” ممكن.
• لماذا أنت صامت وحديثك مع الآخرين بالقطارة؟
– سأكشف لك سراً، أنا ثرثار إلى درجة لا تتوقعها، ولكن المشكلة أن الآخرين لا يتركون لي فرصة، إنهم ثرثارون أكثر مني ولا يتيحون لي مجالاً لأتكلم على الإطلاق.