فنانونا والتراث ..

 

محمد اليوسفي

إن تراثنا الغنائي اليمني عريق وضارب بجذوره في أعماق التاريخ ، متسم بالتنوع والثراء ، ومرتبط بهواء اليمن وتضاريسها ، وله خصوصيته ونكهته اليمنية الأصيلة ، التي تميزه عن باقي فنون العالم ، وله أعلامه ومشائخه الأوائل ، كالفنان المطرب الشيخ علي أبوبكر باشراحيل 1951م، والمطرب صالح عبدالله العنتري 1965م ،والمطرب إبراهيم الماس 1966م، والمطرب عوض عبدالله المسلمي 1909ـ 1975م، والمطرب فضل محمد اللحجي 1967م، والمطرب أحمد عُبيد قعطبي 1969 ، والمطرب قاسم الأخفش ، وغيرهم من الرواد الأوائل الذين أوصلوا إلينا كل هذه الألحان التراثية بأصواتهم البديعة، وأدائهم المميز للتراث الغنائي اليمني ، استطاع هؤلاء الأعلام أن يحافظوا على التراث الغنائي في ذلك الزمن بإمكانيتهم المتاحة ، وظروف تلك المراحل التي عاشوها وظهروا فيها ، وطبيعة الحياة والمخاطر التي تعرض لها هؤلاء الفنانون لا سيما في شمال الوطن ، حيث كان الغناء محرما في فترة الحكم الإمامي ، إلا أن هؤلاء المطربين الأوائل استقوا التراث من عمق المجتمع ، وكانوا حريصين كل الحرص على حفظه ونقله بأمانة إلى الأجيال ، وإننا في هذا الصدد نستشهد بقول الفنان الكبير محمد مرشد ناجي ـ رحمه الله ـ في كتابه ( الغناء اليمني القديم ومشاهيره) : “ إن المطرب اليمني عبر هذه القرون أشبه ما يكون بالمحارب الحامل لراية الحرب في حومة الوغى إذا ما وافته المنية سلم الراية لمحارب آخر ، وبهذا الأسلوب كان المطربون عبر هذه العصور يجاهدون في تسليم أمانة الموشح اليمني من جيل إلى جيل إلى أن وصلتنا روائع أنغامها وجمال صورها وأصالة يمنيتها “ .
من هنا ندرك ونستشف أهمية ودور أولئك الفنانين في الحفاظ على التراث الغنائي اليمني ، وكذا تقديسهم وغيرتهم عليه ، فهل يدرك فنان اليوم تلك الأهمية وتلك القداسة ؟
المتتبع لمعظم الإنتاج الفني على الساحة المحلية في الوقت الراهن سيدرك حجم الفراغ في الساحة ، لا سيما بعد رحيل الكثير من الأسماء الفنية التي وصلتْ بهم الأغنية اليمنية إلى أوج مجدها وزخمها كالفنان ، محمد مرشد ناجي ، ومحمد سعد عبدالله ، و أبوبكر سالم ، وكرامة مرسال ،و علي بن علي الآنسي، و أحمد بن أحمد قاسم ، وعلي عبدالله السمة ..
وسيدرك المتتبع أيضا كم يجهل معظم فناني اليوم ـ الشباب على وجه الخصوص ـ أهمية التراث ومكانته ، وأعلامه ..
فنان اليوم يغني الأغنية ولا يعرف من كاتب كلماتها ومن ملحنها ، إنه لمن المخجل حقا أن تسمع أحدهم في لقاء في إحدى الفضائيات العربية وفي برنامج فني مشهور ، وهو فنان يمني شاب . يغني أغنية ( ظبي اليمن )، وعند انتهائه من أداء الأغنية يسأله المذيع عن تاريخ هذه الأغنية ، وشاعرها ، فيجيبه هذا الفنان :عمر الأغنية خمسمائة وخمسين سنة ، وشاعرها الدكتور عبدالكريم الإرياني ، وملحنها الفنان أحمد فتحي ، كان الأحرى بهذا الفنان أن يبتلع لسانه ، ولا يجازف بهذه الإجابة ، ويوقع نفسه في كل هذه الأخطاء المتتالية عن أغنية واحدة ، فالأغنية مشهورة وهي من كلمات الشاعر عبدالعزيز المقالح ، وقد كتب الدكتور المقالح كلمات هذه الأغنية على وزن الأغنية ( الحُمَيْنِية ) الأصل ، التي غناها الفنان إبراهيم محمد الماس ، من كلمات الشاعر علي بن صالح العماري 1798م ، والتي جاء في مطلعها :
يا ظبي صنعا بعسجد خدك المنقوشْ
ولين قدك وفضة كفك المرشوشْ
وسحر عينك وريش أرماشها المريوشْ
وصبح وجهك وداجي شعرك المحنوشْ
ترنم بهذه القصيدة الفنان إبراهيم محمد الماس قبل أكثر من سبعة عقود، ووصلت إلينا بصوته عبر الاسطوانات ، وما يحسب للفنان الأستاذ أحمد فتحي هو تطوير اللحن مؤخرا والتوزيع الموسيقي ، ووضع المقدمة الموسيقية لهذه الأغنية ، واشتهرت الأغنية ( ظبي اليمن ) بصوت الفنان أبوبكر سالم بلفقيه رحمه الله .
وتوقفنا هنا عند كلام هذا الفنان المجانب للصواب ، والذي لم يكلف نفسه القليل من الجهد والاطلاع ، ما هو إلا من قبيل التنبيه لفنانينا الشباب على ضرورة الاطلاع والتثقيف الفني ، والموسيقي ، ومعرفة تراثنا الغنائي العريق الزاخر بالدرر الفنية .
إننا نؤمن كثيرا بقدرات الفنانين الشباب ومساحة أصواتهم ، ولكن الصوت وحده لن يصنع منك فنانا مميزا ،ولن تتميز ما لم تكن فنانا مثقفا ، مستوعبا لأصول الغناء ، وأقل القليل مستوعبا لما تغنيه من تراث بلدك ، وليس مجرد تقليد أعمى لا يضيف شيئا ، بل يشوه ويمسخ .
على فنانينا اليوم أن يستفيدوا كل الاستفادة من التجارب الفنية الغنية بالإبداع للفنانين السابقين ، عليهم أن يحذوا حذوهم ، وأن يدركوا أن للفن أصوله وليس مجرد البحث عن الأضواء والمادة ، وعليهم أن يستقلوا بإبداعهم وإنتاجهم الخاص .
عليهم أن يدركوا أيضا أن معظم فناني الزمن الجميل ، من نتذكر روائعهم الغنائية في كل مناسبة ، فنانون ميزتهم ثقافتهم واهتماماتهم بالأدب والفن والموسيقى والتاريخ ، فهذا الفنان محمد مرشد ناجي الذي غنى التراث الصنعاني وأبدع في أدائه ، وأخلص في ذلك مطورا ومجددا ، هو أيضا صاحب الكتب القيمة : ( أغانينا الشعبية ) ،و ( الغناء اليمني القديم ومشاهيره ) و ( صفحات من الذاكرة ) و( أغنيات وحكايات ) ، وهذا الفنان الكبير أبوبكر سالم بالفقيه شاعر قبل الطرب ، وأديب مفوه ، قدم الأغنية اليمنية إلى العالم العربي باقتدار ، وهذا الفان محمد سعد عبدالله صاحب ديوان ( لهيب الشوق ) ، وصاحب الروائع الغنائية الشهيرة ، وغيرهم الكثير من النماذج الفنية في الزمن الجميل من كبر إبداعهم ، وتعددت اهتماماتهم ، وما زالت أغانيهم تنعش أرواحنا وترمم جدران حياتنا اليومية بالحب والصفاء .
ـ تراثنا وفوضى النشر
في ظل التطور التقني المتسارع ، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ، صار بإمكان كل شخص يمتلك بريدا إلكترونيا أن ينشئ له قناة خاصة على اليوتيوب ، وينشر فيها ما يريد ، ولكن هذه الوسائط ، وهذه القنوات بدلا من أن تُسخر في خدمة التراث وتوثيقه ، والتعريف به ، وتُوظف توظيفا سليما ، صارت تمثل عبئا كبيرا على تراثنا الفني ، وتمثل حالة فوضى عارمة، وتأتي خطورتها في ظل غياب دور المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة ، وعدم اهتمام هذه المؤسسات بالتراث الغنائي ، بينما في السابق كان للإذاعة ـ مثلا ـ دورها في حفظ الكثير من الألحان التراثية بأصوات الرعيل الأول من الفنانين ، وبالأخص إذاعتي عدن وصنعاء ، وكان هناك لجان خاصة بتقييم هذه الأعمال الغنائية ، مكونة من فنانين وأدباء لهم تجارب ، فلا تبث الإذاعة إلا الأعمال الغنائية القيمة ، فكان هناك تنافس وكان هناك إبداع وفن .
أما اليوم ووسط اجتياح هذه الوسائل لحياتنا اليومية ، وغياب دور وسائل الإعلام الرسمية يبقى تراثنا الغنائي مهددا بالتحريف والتشويه ، إذ أن معظم هذه القنوات تنسب الأغاني والألحان إلى غير أصحابها ، وتزيف الكثير من المعلومات المتعلقة بالتراث الغنائي بقصد أو بدن قصد .

قد يعجبك ايضا