استعرض المفارقات الزمنية والمكانية لجدوى الانفتاح الاقتصادي والالتزام الثقافي
الأصبحي في عمل سردي جديد يستقرئ مشهد تقدم ورفاهية الصين بعيون عربية
محمد محمد إبراهيم
في انجاز سردي يراوح بين أدب الرحلات ونسق الرواية المبنية على أحداث افتراضية هادفة، قدم المفكر السياسي الدكتور أحمد الأصبحي في عمله الروائي الجديد (الصين الرفاهية بعيون عربية) -الصادر في نوفمبر الماضي بصنعاء- تأصيلا معرفيا وثقافيا لتاريخ العلاقات العربية الصينية والقواسم الإنسانية والقيمية والاجتماعية المشتركة بين الأمتين، متطرقا -عبر أحداث روائية مشبعة بالدراما والحوارية والنقاش الخلاق بين شخصيات افتراضية متعددة- الى جملة من المفارقات القائمة بين مشهد النهضة الصينة التي تتسارع نحو الصدارة العالمية، وبين مشهد تقهقر الواقع العربي الذي يشهد مزيدا من التراجع والشتات بسبب اجترار الماضي السلبي والقطيعة مع الماضي الايجابي..
وانطلق الأصبحي في الفصل الأول – من الرواية المكونة من تسعة فصول وزعت على 300 صفحة من القطع المتوسط – من حيرة وتردد “بلقيس” (طالبة سنة ثانية تاريخ كلية الآداب) في أن تتقدم الى الدكتور حسين (أستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) الذي وجدته واقفا في أحد أروقة وممرات المكتبة يتصفح المراجع والكتب، في أن تتقدم لسؤاله حول ما شاهدته من أخبار في الفضائيات عن العلاقات العربية الصينة وطريق الحرير الجديد. وهو السؤال الذي دعت اجابته الطالبة والدكتور الى جلسة نقاش أولى ثم ثانية تتجمع عبر الجلستين شخصيات أخرى اكاديمة، عربية وصينية فتتشعب الأحاديث التي وصفت الحالة العربية المشوبة بالتنافي والانجرار وراء الماضي السلبي أو الأسر القسري في شباك الثقافة الغربية وبشكل استلابي متخلف يفارق الخصوصية العربية ولا يعيد القراءة والمراجعة للماضي المشرق، ثم يضع القارئ أمام منصات الانطلاق لمتابعة أحداث الرواية على إيقاع الانتقال من مكان الى آخر مشيرا في نفس الفصل إلى دوافع حرص الصين على علاقاته العربية التاريخية منذ نشأة تجارة الحرير والصراعات التي شابت تلك الفترة التاريخية..
وفي الفصل الثاني يعرج (الأصبحي) على التأصيل المفاهيمي لاسم بقليس، مشيرا على لسان حكاء الرواية دكتور حسين إلى أن اسم بلقيس يتداول في الصين باسم ساونغ موأي ملكة سبأ الأم، وبلقيس في اللغة العربية اسم مركب من وهج الشمس.. لافتا الى ما أوردته كتب التاريخ من تفاصيل زيارة امبراطور الصين لأرض الجزيرة العربية ولقائه بملكة بلقيس، ثم يأخذ السرد مسارا تاريخياً تصاعدياً من الماضي إلى الحاضر وقضية تنامي العلاقات..
وتتغلب على مجريات الفصل الثالث تقنية التشعب السردي عبر نقاش الشخوص الى التأصيل المعرفي لأهم عوامل النهضة الصينية من خلال الاستعادة السردية لذكريات زيارة الدكتور حسين إلى الصين للمشاركة في أعمال أحد المؤتمرات الدورية التي ينظمها منتدى التعاون العربي الصيني لمواكبة قضية التحديث المستمر لمشروع طريق الحرير الجديد، متطرقا الى رموز الصين الفكرية والسياسية وما أرسته من قيم أسرية ومجتمعية راقية.. متطرقا الى الاجابة على أسئلة الكيفية التي بها تغلب الزعيم الصيني “دنغ تشاوبنغ” على خدوش الثورة الثقافية القاسية على ذاكرة المجتمع بنظرية الإصلاح والانفتاح الاقتصادي والالتزام بقيم المراجعة المستمرة الأمة الصينية وغيرها من الإشارات الخاطفة التي أفضت الى تأصيل سياسي اجتماعي هام لمفهوم الاشتراكية الصينية.
وتضمن الفصل الرابع مشهد القطار السريع الذي سيقطع مسافة 1214 متراً التي تفصل بين شنغهاي وبكين عبر مدن ومساحات زراعية وبساتين جغرافيا فارهة بالتنوع، وما تخلل الرحلة من نقاش معرفي حول الطبيعة والإنسان والمشهد الحضري والمكانة السياسية للعاصمة الصينية بكين التي ستصل إليها المجموعة للمشاركة في أحد المؤتمرات السنوية التي ينظمها منتدى التعاون الصيني العربي. ثم بدأ في نفس الفصل بأوراق عمل المؤتمر الأول والثانية.. لتتناول مجموعة النقاش في الفصول الخامس والسادس والسابع بقية الأورق، التي اكتملت فيها الدوائر المعرفية حول جذور وتاريخ طريق الحرير القديم والجديد وكذلك عقد اللؤلؤ، ثم العودة الي سبر أغوار الأدب الصيني القديم وقيم الكونفوشيوسية والفلسفة الطاوية، وكيف جعلت الصين من هذا الموروث أرضية خصبة لاستراتيجية صعودها السلمي اقتصاديا، وفي كل فصل كانت المجموعة تورد المفارقات القائمة بين الأمتين الصينية والعربية. واضعة خيطا للأمل في النهوض وإن كان ذلك الخيط ضعيفاً جداً..
وفيما انتهى الفصل السابع بإقلاع الطائرة مجموعة رجال الاعمال المرافقة للدكتور حسين الذي يعد ساردا داخليا لكثير من الأحداث في الرواية، من بكين إلى مدينة كوانجوا في رحلة شهدت نقاشات مستفيضة على متن الطائرة، تضمن الفصل الثامن مسارات ومقامات كلامية ونقلات رحلاتية داخل مدينة كوانجو مدينة الزهور التي أصبحت مركزا للتبادل التجاري والثقافي العالمي، ويقام فيها المعرض التجاري مرتين في السنة، كما تتركز فيها الجاليات العربية واليمنية بكثرة، ثم زيارة مدن هونج كونج وشنتشن، وتضمن الفصل وقفة تحليلية ثقافية تتصل بسياسة الصين تجاه الدول العربية والقضايا العربية والاسلامية ومنها فلسطين.. دعم قيام الدولة الفلسطينية.. ودعم التواصل الانساني والحوار بين الأديان والحضارات.
وفي الفصل التاسع والأخير، تعرضت مجموعة النقاش للقضية السكانية كمقبلة “موقوتة” تؤرق الدولة الصينة منذ 1978م، واجراءات الدولة تجاهها.. مع التعريج المقارن على مستقبل الصين والمنطقة العربية.. وقضايا فلسفية تجاه الكفاح والفقر والغنى والرضى والقناعة.. ثم مفارقات هامة بين الوثيقة السياسية الصادرة عن الدولة الصينية 2016م وبين الوثيقة الأولى لملتقى الوفاق الوطني” وهي وثيقة يمنية صدرت في العام 2019م من مركز منارات، ولم تغفل المجموعة في نقاشها -الذي جرى على مأدبة عشاء في أحد مطاعم كوانجوا- الازمة اليمنية من وجهة نظر المشاركين في الملتقى حيث خلصوا إلى ان لا حسم عسكري في اليمن لأحد من الأطراف الداخلية وان الحل السياسي هو السبيل الوحيد لخلاص اليمن من التشظي الداخلي والتداخل الخارجي..
وانتهت الجلسة بتسليم المجموعة لصاحب المطعم دعوات حفل زفاف طالب يمني (يوسف الغزالي) وطالبة صينية (جيوان)، وكلاهما تخرجا حديثا من جامعة صن يان صن – كلية الهندسة التكنولوجية، وقد جرى حفل الزفاف وسط إحدى الحدائق العامة..
وبشرت الرواية في خلاصة أحداثها بعهد صيني عالمي جديد ينهي سيطرة القطب الأقوى لصالح الصين: “وفي اليوم الثاني كان موعد السفر إلى صنعاء.. وكان في الوداع مندوب من منتدى التعاون الصيني – العربي، والأخوة اليمنيون الذين ظلوا معي طيلة الزيارة، وعند باب الطائرة رددت قوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس)”..
أخيراً
في زيارتي الأخيرة للطبيب والأديب والمفكر السياسي الدكتور أحمد الأصبحي (المولود في 21 /8 /1947م في الأصابح – محافظة تعز والحاصل على البكالوريوس في الطب والجراحة جامعة بغداد عام 1973م) وجدته متفائلا بالمستقبل كعادته، ومنطلقا في حديثه بثقة كبيرة وذاكرة فولاذية لم تتراجع –رغم إصابته قبل فترةٍ بجلطة نفذ منها حفظه الله ورزقه طول العمر المقرون بالصحة والعافية- كما وجدته مُسْرِجَاً مصابيح المعرفة لا يكل من النقاش المعرفي المفيد.. ويعد الأصبحي رجل دولة من الطراز الإداري المتقدم، فعلى خلفيات نجاحاته الوظيفية صحيا وتربويا وتعليميا وتوعويا، شغل وزيراً تنقل بين اربع وزارات هي: (الصحة، والتربية والتعليم، والخارجية، والشؤون الاجتماعية والعمل) كما لم تزل حياته حافلة بالعطاء الفكري والمعرفي بعد انجاز ما يقارب العشرين مؤلفاً، منها ما هو في الطب والفكر السياسي، وقضايا السلام، والهوية والحضارة اليمنية، ومشروع القومية العربية الواحدة، ومحنة الاندلس والديموغرافيا السياسية لسبتة ومليلة والصراعات في القرن الأفريقي وازمة دار فور والبحر الأحمر والنزاع الاريتري اليمني، ومنها هو في مسار الأدب الرحلاتي إذ صدرت له أربع روايات: (البدية- الهمداني يطل من أورليان- حب في زمن البريسترويكا بمذاق عسل جردان- الصين الرفاهية بعيون عربية).