عفاف البعداني
أحيانًا ينسى المرء نفسه القديمة؛ ليعيش دورًا جديدًا في الحياة، تاركًا قائمة التجارب الطويلة التي ألصقها في مذكّرته الخاصة منذُ سنوات مرت، رغبةٌ وليدةٌ تحضره وتدفعه؛ لأن يجرب الأشياء المجهولة، وينصاع لمزاعمه المبهمة، كأنْ يشرب الشاي بطريقة مدمنة، ويمتنع عن الدواء بحجة السأم يمشي مغمض العينين تحت مطرٍ ممرض، ويقرأ كتابا وهو رافعًا رجليه رأسًا على عقب، مترنما بصوت سمّاعته خائضا مع الموسيقى دور العازف بصمت دون أن يرد على أحد، يحب أن يشتري حلوى كثيرة تنبي عن فوضى قادمة، ثياب قاتمة وفاتحة يرتديها بنفس اليوم ويتركها بدون أي ترتيب، ينثر بذور الزهور في حديقة بيته بطريقة عشوائية تاركًا أيضا للبذرة اختيار مكانها الخصب في النمو، وربما يزور مكاناً يخافه أكثر من مرة وهو في مكانه لم يتحرك، بالأحرى ذهب عن نفسه وغاب فجأة عن أصدقاء وشخوص يحبونه كثيرًا دون أن يخبرهم بأي شيء.
أحيانًا يستعذب للمرء؛ أن يرى نفسه يغامر وحيدا في أي شيء ولو كان معرضا للهلاك، يحب أن يتلذذ بالألم ويتذوق حلاوة الصبر علاوة على ذلك كله، يحب المرء أن يعيش دور المتمرد لا المطيع الدائم، يخيل إليه، أنه حقٌ بديهيٌ في أن يتحدى مخاوفه و يعثر على هزائمه بشكل متواصل بلا أحد، يقترب من أشياء أنّ له قبل ذلك أن يفكر بها، يحظو حول شيء كان يحتاطه؛ لكنه الآن يحب أن يعيشه برضا تام، يبتدء بخطوات ثقيلة لتأتي بعدها مرحلة التخطي السريع، تصبح أغلب الأشياء ممكنة بطريقتها الخاصة والغالبة، خيال يتيح لنا تصور حيوات جمة في بستان متسع، وكوخ ضيق جدًا، سقفه سوف ينهار عمّ قريب، ويصاب بوعكة مكانية.
وكم يبدو الإنسان مثيرا للدهشة والجمال في تلك اللحظة، حينما يغني بصوته الباسم و العادي الذي لا يشبه الغنائيين بأية صلة؛ لكنه يفعل ذلك لحاجةٍ ما في نفسه، يقرر الرسم ويفترش الألوان وهو لايعلم عن فنون الرسم أي شيء، فقط في تلك اللحظة يعطي نفسه مجالا في أن يمرح ويلهو و يكتب ويخط ويتدحرج هنا وهناك ويعبث بالألوان ليخرج فناً أخر مختلفا عن فن الرسم، إنه حقا فن أخر في الحياة أن نجرب. إنه فن صامت يتحدث عن حياة تنبعث من أغصان الشعور بأشعة مخضّرة تترجم عشق الورق للصيف وللشمس ولكل شيء صادق في هذه الحياة، سطوة الخيال هذه المرة مُرّة، انهالت في تلك اللوحة المليئة بالخطوط والمجسمات وباتت مهتزة، وتبدو انعكاسا هروبيًا لما خاله في نفسه عندما قرر أن يكون خبّازا اجتماعيا، وهو في الأصل كاتب منعزل فحسب .
مرحلة غريبة ويغترب فيها الإنسان أكثر عندما وضع رأسه في مكان موحش لا استئناس فيه، خلع قلبه أمنة في الساكنين، جرد نفسه من أي حذر لينام ممسكا بالنجوم ومتدفئا بوهج السماء، لازال حنونا مشتاقا ، وجسده أصبح فارغا من أي راحة، استيقظ ليلا مفزوعا، لم يجد سوى العتمة تطمئنه؛ وحدها من جبرت قلبه وهدأته حتى عاد للنوم، عزت عليه نفسه حينما شرب منها كوبا ليكمل ماتبقى من ليلته الباردة، عزّت عليه روحه عندما تركها تدرك الغيم وتبكي معها بصمت، رقت نفسه متمتمة بذكر الله، أودعت أمانيها في جوهرة قلب هذا الإنسان المحب، استيقظ على مرام المغادرة طيبا حميما ودودا عزيزا، ولكن بوده الآن أن يهرب من كل شيء بات يعرفه ولو كان يحبه، يريد فقط معرفة المزيد عن حياة الأدباء الذين اعتزلوا العالم ووجدوا أنفسهم أقوياء مع تلك التجارب وتلك الكتب، دون أن ينصتوا لخدعة الوجود، وخدعة الخيال، وخدعة البشرية، هروب إلى حيث القرار والإيجاد والسكن الحقيقي، لروح مختلفة عاشت في جسد وملأته بالاختلاف، وأحاطت به خطيئته، عندما ظن أنه سيحيا كالبقية .
استدراك : قرأت للحظتي “الوقت، وكل شيء سيمضي، لكن ماذا سيأخذ معه؟! ” فعلاً؛ ماذا سيأخذ معه ؟! .