من بيان نيويورك إلى تقرير الأمم المتحدة: كيف مهَّد الكيان لتصعيده العسكري باحتلال غزة وتفكيك الضفة؟

دعوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخرا، العواصم الغربية التي أعلنت نيتها الاعتراف بفلسطين إلى الاعتراف بها الآن لا بعد شهرين، كانت آخر رسالة تحذير حيال التصعيد الخطير للعدوان الإسرائيلي الذي تجاوز حدود التخطيط لاحتلال قطاع غزة إلى تفكيك الضفة الغربية المحتلة بسرطان المستوطنات، كون الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد شهرين قد يكون بلا جدوى.

تحليل / أبو بكر عبدالله

كل التحذيرات الفلسطينية والعربية والدولية تجاه المشاريع التدميرية والاستيطانية للعدو الإسرائيلي ركزت على تصعيدين إسرائيليين خطيرين في الأراضي المحتلة، الأول شروع الكيان بخطوات ميدانية لاحتلال قطاع غزة عبر استدعاء قوات الاحتياط والثاني إعلان بناء مستوطنات جديدة تقضم أراضي جديدة من الضفة الغربية المحتلة وتقسمها إلى نصفين معزولين.

والتصعيدان الإسرائيليان لم يستهدفا فقط إغلاق الباب أمام مفاوضات وقف إطلاق النار والانتقال لمرحلة إبادة مفتوحة تعيد تشكيل غزة وفق المعطيات الإسرائيلية وبناء مستوطنات جديدة لتفكيك أوصال الضفة الغربية، مشروع جديد لتفكيك أوصال الضفة الغربية، بل استهدف إجهاض قيام دولة فلسطينية في المستقبل وقطع الطريق أمام أي مطالب دولية لحل الدولتين.

خطوات هذا المخطط بدأت فعلا بانسحاب حكومة الكيان من مفاوضات إطلاق النار وتضييق الخيارات أمام «»حماس»» والذي أفضى إلى إعلان نيويورك الموقع من 17 دولة لمطالبتها بتسليم السلاح، وما تلته من تداعيات بتحريك حكومة الكيان آلتها الدبلوماسية المدعومة أمريكيا لوضع «»حماس»» في القائمة السوداء للأمم المتحدة للانتهاكات الجنسية.

ودينامية المخطط الصهيوني ظهرت للواجهة كبرنامج عمل مطروح للتنفيذ بعد نشر وزير الماليـة بحكومة الكيان بتسلئيل سموتريتش، خرائط للمستوطنات وإعلانه المواقة على خطة لبناء 3400 وحدة سكنية في المنطقة المصنفة T1 التي تسميها حكومة الكيان يهودا والسامرة شرق القدس.

وهذا المشروع ظل لسنوات طويلة حلما لسلطات الكيان لبناء مستوطنات بهذه المنطقة التي تمتد على مساحة 12 كيلومترا مربعا شرق القدس، لكن مشروعها واجه معارضة دولية أدت إلى تجميده.

أهداف خفية

يمكن قراءة الأهداف الإسرائيلية من مشروعها توسيع سرطان المستوطنات بالضفة الغربية بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للمنطقة المعلنة المنطقة التي ظلت طوال السنوات الماضية موضع جدل دولياً نتيجة حساسيتها الجيوسياسية، خصوصا وهي تشكل نقطة وصل جغرافية حيوية بين شمال وجنوب الضفة الغربية وأي بناء فيها يقسم الضفة الغربية إلى قسمين معزولين.

لكن حكومة الكيان بدت اليوم أكثر ثقة تجاه مشروعها الهادف إلى إجهاض مشروع الدولة الفلسطينية إلى الأبد، وهو ما عبر عنه سموتريتش بقوله إن المشروع يعد جزءاً من خطة استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز الوجود الإسرائيلي فيما يسمى “يهودا والسامرة” (الضفة الغربية) وقطع أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة جغرافياً.

الأدهى من ذلك أن المشروع يسعى إلى عزل القدس الشرقية التي يطالب الفلسطينيون بأن تكون عاصمة لدولتهم، ما يعزز السيطرة الإسرائيلية على مدينة القدس بكاملها، والذي ينتظر أن يؤدي إلى تعزيز الأقلية اليهودية في المنطقة المحيطة بها، ناهيك عن إعاقة حركة الفلسطينيين والحيلولة دون وجود تواصل جغرافي بين مدنهم وقراهم.

وعلى أن القانون الدولي يعتبر جميع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ عام 1967م بما فيها القدس الشرقية والضفة الغربية، غير قانونية، فقد سعت دولة الاحتلال لتغيير الوضع القانوني لهذه المناطق خلال السنوات الماضية وتسعى اليوم لتكريسه كواقع على الأرض، بما يجعل مواد القانون الدولي حبرا على ورق.

ومخططات الكيان في قطاع غزة لم تخرج عن هذا الإطار، فاحتلال مدن القطاع وإعادة تشكيلها جغرافيا وديموغرافيا وتهجير سكانها على أنه ظل أسير مراوحات المواقف الأمريكية المتغيرة، إلا أنه تحول إلى خيار لدى سلطة الاحتلال بعد الضوء الأخضر الذي حصلت عليه من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أعلن مؤخرا حق حكومة الكيان في اتخاذ ما تراه مناسبا تجاه “”حماس”” وقطاع غزة.

فورة غضب عالمية

خطورة إعلان المسؤولين الصهاينة قرار توسيع سرطان المستوطنات في الضفة، تجلت في بيانات التحذير والإدانة والاستنكار العربية والدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة التي أعلنت على لسان أمينها العام انطونيو غوتيريش بأن المستوطنات غير القانونية تزيد من ترسيخ الاحتلال وتفاقم التوترات، وأكثر من ذلك تهديدها للفلسطينيين بالإخلاء القسري، بما يعد وفقاً للقانون الدولي جريمة حرب.

وسوى الولايات المتحدة وعواصم قليلة، فقد خرجت الإدانات من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة اللذين أدانا القرار الإسرائيلي واعتبراه تهديداً للسلام، وهو الموقف الذي أعلنته باريس واعتبرته “انتهاكا جسيما للقانون الدولي” والحال مع برلين التي أدانت القرار وحذّرت من أن المشروع “يجعل حل الدولتين مستحيلا”.

وردود الفعل العربية والدولية والأممية الغاضبة حيال قرار حكومة الكيان المضي ببناء الوحدات الاستيطانية في المنطقة، جاءت لكون ما أعلن عنه لن يكون مجرد خطوة استيطانية اعتيادية، بل خطة استراتيجية تهدف إلى فرض حقائق جديدة على الأرض يصعب تغييرها مستقبلا.

في مقدمة ذلك إقناع المجتمع الدولي بأن المشكلة لم تعد حول إذا ما كانت الظروف قابلة لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وفق مبدأ حل الدولتين، بل صارت تتمحور حول عدم وجود الأرض القابلة لأن تتحول إلى دولة في المستقبل.

تهيئة مسبقة

معروف أن حكومة الكيان استبقت خطواتها التصعيدية الأخيرة بتهيئة المجتمع الدولي لقبول مخططاتها، من خلال تحركات دبلوماسية دولية وأممية أفلحت مؤخرا بإدراج “”حماس”” في القائمة السوداء التابعة للأمم المتحدة بشأن العنف الجنسي في النزاعات المسلحة بعد مزاعم عن توثيق انتهاكات خلال هجمات 7 أكتوبر 2023م والاعتداءات على المختطفين في غزة.

ومعروف أن القرار الأممي جاء بعد أيام من صدور “إعلان نيويورك” الذي وقّعته 17 دولة لمطالبة “حماس” بالتخلي عن السلاح، مما أشر إلى توجهات لفرض عزلة على فصائل المقاومة الفلسطينية وفي المقدمة حركة “”حماس””.

ورغم أن التقرير تضمن تحذيرا لإسرائيل بأنها قد تُدرج مستقبلا في القائمة السوداء إن لم تتخذ إجراءات حاسمة لمعالجة انتهاكات العنف الجنسي ضد الفلسطينيين في السجون، إلا أن هذا التحذير لم يكن مقنعا ولم يمنح الشرعية للقرار المتخذ تجاه حماس، بل أكد الشكوك حول ضغوط سياسية مورست على الأمم المتحدة لتجنيب الكيان الخضوع للمساءلة القانونية.

وذلك لم يكن كل شيء، فقد ثارت موجة انتقادات لمحتوى التقرير الأممي، ولا سيما في تراخي الآليات الأممية تجاه رفض الكيان التعاون التحقيقات الأممية حول انتهاكات 7 أكتوبر 2023م، والتي رفضت من جانب حكومة الكيان خشية أن تؤدي النتائج إلى إدراجها في القائمة السوداء خصوصا بعد أن منعت مفتشي الأمم المتحدة من الوصول إلى مواقع الادعاءات، مما حال دون التحقق الكامل من الأدلة.

هذا الأمر أعلنته وسائل إعلام إسرائيلية، كشفت سابقا أن التحقيق الذي اشترط ممثلو الأمم المتحدة لإجرائه الدخول إلى مرافق الاحتجاز الإسرائيلية، قوبل بالرفض خشية إدراج إسرائيل بدلا من “حماس” في قائمة الأمم المتحدة السوداء للعنف الجنسي.

يضاف إلى ذلك اعتماد التقرير الأممي على تقارير غير نزيهة مثل تقرير “مشروع دينا”، الذي قاده خبراء إسرائيليون ووثق انتهاكات “حماس” ما دعا الأخيرة إلى وصف محتويات التقرير الأممي بأنها “مفبركة ومسيّسة” واعتمدت على روايات أحادية الجانب دون تحقيقات ميدانية محايدة وجسدت بوضوح مبدأ ازدواجية المعايير بعد أن تم استبعاد إسرائيل من القائمة رغم توفر الأدلة الكافية على إدانتها، بتوثيق انتهاكاتها الجنسية في مراكز احتجاز مثل “سدي تيمان”، وغيرها من الانتهاكات التي وثقتها منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” وغيرها.

ولم تكن “حماس” وحدها من انتقدت التقرير الأممي، فنسبة كبيرة من الشارع الفلسطيني اعتبره نموذجاً واضحاً لازدواجية المعايير ومحاولات فاشلة لتسييس القانون الدولي، عززت الشعور بـ”المؤامرة الدولية” ضد القضية الفلسطينية، ولا سيما بعد الحرب الدموية الإسرائيلية في القطاع والتي خلفت أكثر من 62 الف شهيد.

استثمار سياسي

منذ اليوم الأول لصدور التقرير الأممي، لم تكف حكومة الكيان عن استثماره سياسيا، طمعا في إمكان استخدامه في عرقلة حصول أي تقدم في مفاوضات وقف إطلاق النار، أو على أقل تقدير استخدامه أداة ضغط لإعادة فرض شروطها التعجيزية على “حماس” كالإصرار على نزع سلاحها أو إخراجها من الحكم كشرط مسبق لأي اتفاق.

ومن غير المستبعد أن تستخدم حكومة الكيان التقرير الأممي أداة لتعزيز العزلة العربية والدولية ضد “”حماس”” خصوصا بعد توقيع “إعلان نيويورك” الذي يطالب “حماس” بالتخلي عن السلاح وتسليم غزة للسلطة الفلسطينية، حيث صار واضحا أن حكومة الكيان عازمة فعلا على جعل القرار الأممي داعماً لشرعية هذه المطالب.

يضاف إلى ذلك استخدامه لتبرير سياسة العقاب الجماعي، وتخفيف وطأة الانتقادات الدولية حيال تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة مع استمرار الحصار وتقييد تدفق المساعدات.

غير بعيد عن ذلك استخدام سلطة الكيان كل طاقتها لتفعيل القرار الأممي لبدء عمليات ملاحقة قضائية لقيادات المقاومة الفلسطينية أو لإطالة أمد الحرب وإبقاء مدن القطاع ساحة صراع مفتوحة خصوصا في ظل الإصرار على ربط قضية الانسحاب من غزة بـ “ القضاء على “حماس”.

ينسحب على ذلك العمل على فرض المزيد من العقوبات على قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية، حيث أن أي قرار يصدر عن الأمم المتحدة يعتبر بالمعايير الدولية ختم إدانة دولي، ما قد يدفع حكومة الكيان لاستغلاله من أجل فرض المزيد من العزلة على “حماس” وغيرها من فصائل المقاومة، وملاحقتها قضائيا، بل وشرعنة أي جرائم ترتكبها بحق المدنيين في القطاع والضفة الغربية.

واليوم ثمة قلق واسع لدى الشارع الفلسطيني ومعهم النشطاء الحقوقيين في العالم من مخاطر استخدام حكومة الكيان هذا التقرير ذريعة لتبرير خطواتها الإجرامية لفرض مزيد من الحصار وتقييد المساعدات، خاصة مع منعها دخول 90 % من شحنات المساعدات الإغاثية إلى مدن القطاع في ظل التحذيرات التي تطلقها منظمات دولية من اقتراب تفشي “وباء المجاعة”.

وهنا تتعين الإشارة إلى أن ردود الفعل الدولية المعلنة حتى اليوم وإن كانت غاضبة وحادة، يبقى أن هناك حاجة إلى تحويل الإدانات إلى إجراءات ملموسة وضغوط سياسية واقتصادية تستطيع إرغام حكومة الكيان على وقف مشاريعها الاستيطانية التي تلتهم آخر أمل للسلام القائم على قاعدة حل الدولتين.

ومن أهم الأفعال المطلوبة الآن هو التسريع بمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة والتسريع بوتيرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية من العواصم التي أعلنت عزمها القيام بذلك في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المقرر في سبتمبر المقبل، كون ذلك سيعمل بلا شك على سحب الشرعية من أي خطوات إسرائيلية أحادية الجانب لتصفية القضية الفلسطينية.

قد يعجبك ايضا