تمرُّ بنا جمعة رجب ليست كذكرى عابرة، بل كعلامة مضيئة على مسيرة الأمة اليمنية في الحفاظ على هويتها الإيمانية الأصيلة. إنها ليست مجرد تاريخ يُحتفل به، بل ميثاق حيّ وروح متجددة في وجدان الشعب اليمني، تذكره بمن هو، ومن أين يستمد نوره، وبأي خط اختاره الله له.
لقد استقبل اليمنيون رسالة السماء طوعًا ووعيًا، ولم يكونوا يومًا ممن يسيرون خلف التقليد الأعمى، بل حملوا الإيمان كنور يضيء لهم الطريق في أصعب المراحل. ومن هذا المنطلق، جاءت الهوية الإيمانية اليمنية لتكون منظومة متكاملة من القيم والمواقف والسلوكيات، تحدد موقع الإنسان أمام الحق والباطل، وتميز بين الموقف المستقيم ومنحنيات الانحراف.
ولا يخفى على أحد أن هذه الهوية كانت دائمًا هدفًا مباشرًا لأعداء الله من الصهاينة والأمريكان، الذين يدركون أن الأمة المتمسكة بإيمانها وبقيمها أمة حرّة، عصية على الهيمنة، لا تُشترى ولا تُستعبد. لذلك سعت مشاريع الاستكبار العالمي إلى فصل الشعوب عن هويتها الإيمانية عبر أساليب ناعمة وخبيثة:
تشويه المفاهيم الدينية وتحريفها بما يخدم مصالح الغرب.
تحويل القيم إلى ترفٍ فارغ لا أثر له في الواقع، بل لترويض الشعوب على التبعية.
تسويق الانحلال باسم الحرية والانفتاح، وتحويل الأخلاق إلى لعبة استهلاكية.
استبدال الانتماء لله والانتماء للأمة بالولاء للغرب وثقافته وأهدافه السياسية.
إن ما يُخطط للأمة من مشاريع مسخ ثقافي وفكري هو أشد فتكًا من الحرب العسكرية، لأنه يستهدف العقل والروح قبل الجسد. ومن هذا المنطلق، فإن صمود اليمن وامتناعه عن الانصياع لمثل هذه المشاريع هو درس للأمة جمعاء: أن الهوية الإيمانية هي حصن الفرد والشعب ضد كل الاستكبار العالمي.
وحين ننظر إلى حال السعودية اليوم، نرى نموذجًا صارخًا لما يحدث عند التفريط بالهوية الإيمانية. أرض الحرمين الشريفين، التي كانت مرجعًا دينيًا وحاضنة للرسالة، تحوّلت إلى مسارح للمجون والانحراف، ومنصات لتطبيع العار، وانفلات أخلاقي ممنهج.
لقد تمّ مسخ الهوية وتجفيف منابع القيم، وتحويل المجتمع من أمة رسالة إلى جمهور استهلاكي، تُدار ذائقته ويُعاد تشكيل وعيه بما يخدم المشروع الأمريكي–الصهيوني. هذا الانحراف ليس مجرد حالة سياسية أو اجتماعية، بل انفلات ديني وأخلاقي يؤدي إلى فراغ روحي ومجتمعي خطير. وهو تحذير لكل الشعوب التي تتخلى عن مشروعها الإيماني، إذ أن فقدان الهوية يولّد الانحلال الداخلي قبل أي تهديد خارجي.
في المقابل، ظلّ اليمن صامدًا ومتجذرًا في هويته الإيمانية، ليس لأنه بمنأى عن الاستهداف، بل لأنه امتلك مشروعًا قرآنيًا واعيًا أعاد تعريف الإنسان اليمني بذاته وربطه بكتاب الله، وأيقظه من غفلة كادت أن تبتلعه.
لقد جاء المشروع القرآني للشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه كصرخة وعي في زمن التيه، وكحركة تصحيح لمسار أمة أراد لها الأعداء أن تُختزل في الطقوس وتُفرغ من الموقف. أعاد الشهيد القائد الاعتبار للقرآن باعتباره كتاب هداية وبناء ومواجهة، لا مجرد كتاب تلاوة بلا موقف عملي، ولا نص يُنسى في زحمة المصالح.
لقد أعاد الشهيد القائد تعريف الإيمان كموقف وشجاعة وبصيرة، وكسر أقوى أدوات الاستعمار الثقافي حين أكد أن العداء لأمريكا وإسرائيل ليس خيارًا سياسيًا بل موقف إيماني متجذر. فاستعادة الهوية اليمنية لم تكن مجرد فعل مقاومة عسكري، بل نهضة وعي إيماني شامل.
ومع امتداد المشروع القرآني، جاءت قيادة السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله، لتواصل المسار بصبر وحكمة، محوّلة الوعي القرآني إلى مشروع أمة، وموقف دولة، وثقافة شعب. قاد اليمن في أصعب المراحل، ليس بسلاح القوة وحده، بل بسلاح الهوية الإيمانية الواعية، فصار اليمن رغم الحصار والعدوان أكثر حضورًا وتأثيرًا، وأكثر وضوحًا في موقفه من قضايا الحق.
وبفضل هذا الامتداد القيادي، لم تعد الهوية الإيمانية مجرد خطاب تعبوي، بل واقع معاش: في ساحات الجمعة، وفي الجبهات، وفي الموقف الصريح من أمريكا وإسرائيل، وفي نصرة غزة وفلسطين، وفي الصمود الأسطوري لشعب اختار الله مرجعيته، والقرآن مشروعه، والولاية بوصلته.
إن جمعة رجب ليست مجرد ذكرى، بل إعلان ولاء لله، وتجديد عهد، ورسالة واضحة: أن اليمن لن يُفصل عن هويته، ولن يُسلّخ عن إيمانه، ولن يسير في دروب المسخ والانحطاط مهما اشتدت المؤامرات.
إن ما يفعله الشعب اليمني اليوم، وما رسخه المشروع القرآني، وما ثبّتته قيادة السيد القائد، هو دليل حيّ على أن الهوية الإيمانية ليست شعارًا، بل موقف حياة. إنها قوة وعزة ووعي، وهي التي تجعل الأمة صامدة أمام كل غطرسة واستكبار، مهما امتدت يد الأعداء، ومهما اشتدت المؤامرات.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾
هي هويةٌ من الله… ومن كان الله هويته، فلا خوف عليه، ولا هو يحزن، ولن تُطفأ جذوتها رغم الحصار والعدوان، ولن تُمسخ إرادته مهما بلغت تحديات الزمن.
اليمن اليوم شاهد حيّ على قوة المشروع الإيماني القرآني، وعلى استمرارية الهوية الأصيلة، وعلى قدرة الشعب على الصمود والثبات في وجه العدوان الفكري والعسكري.
إنها رسالة لكل الأمة: الهوية الإيمانية هي درعها، وهي سرّ صمودها، وهي الضمانة لكرامتها ووجودها المستقل.
