الهوية الإيمانية.. وثيقة العهد المقدس وحصن اليمن الذي لا يُخترق

زينب عبدالوهاب الشهاري

 

 

في خضم المتغيرات العاصفة التي تضرب العالم، وحيث تتآكل المجتمعات وتذوب الفواصل الثقافية تحت وطأة العولمة المتوحشة، يقف المجتمع اليمني متفرداً بخصوصية تاريخية وروحية لا نظير لها، تستند إلى جذور ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي، وتحديداً تلك اللحظة الفاصلة التي يُطلق عليها “جمعة رجب”.
إن الحديث عن الهوية الإيمانية اليوم، ونحن نستقي من معين توجيهات السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (يحفظه الله)، ليس حديثاً عن ترفٍ فكري أو استدعاءً عاطفياً للماضي، بل هو حديث عن “الشيفرة الوراثية” لبقاء هذا الشعب، وعن سر الصمود الأسطوري الذي حير مراكز الدراسات الغربية وأعجز الآلة العسكرية الحديثة. إن الهوية في مفهومها العميق، كما تتجلى في الأدبيات القرآنية، ليست مجرد بطاقة تعريف جغرافية أو انتماء لتربة وطنية فحسب، بل هي “المنظومة التشغيلية” للمجتمع، والروح المعنوية التي تحول الكتل البشرية من مجرد أرقام سكانية متناثرة إلى “أمة” ذات مشروع وهدف ورسالة؛ فالمجتمع بلا هوية هو جسد بلا مناعة، وريشة في مهب الريح يسهل اختراقها وتوجيهها ومسخها.
وعندما نضع “الهوية الإيمانية” الخاصة بالمجتمع اليمني تحت مجهر البحث التاريخي، تبرز أمامنا وثائق وحقائق مذهلة تجعل من هذا الشعب حالة فريدة في التاريخ الإسلامي؛ فدخول اليمنيين في الإسلام في أول جمعة من رجب لم يكن حدثاً عابراً، بل كان “استفتاءً شعبياً” جماعياً وتاريخياً، حيث تُشير المصادر الموثقة إلى أن قبائل همدان أسلمت عن بكرة أبيها في يوم واحد على يد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، دون أن تُراق قطرة دم واحدة، ودون أي إكراه عسكري، وهو ما يمثل في لغة الإحصاءات التاريخية رقماً قياسياً ودلالة عميقة على الوعي والنضج الحضاري لهذا الشعب. هذا الحدث المفصلي هو الذي دفع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليمنح اليمنيين “وسام الشرف الخالد” في قوله المشهور: “الإيمان يمان، والحكمة يمانية”، وهو حديث نبوي لا يمثل مجرد مديح، بل يمثل “توصيفاً دقيقاً للهوية” يقرن اسم اليمن بصفة الإيمان بشكل عضوي، ليؤكد أن هذه الهوية ليست قشرة خارجية مستوردة، بل هي نابعة من صميم التكوين النفسي والاجتماعي للإنسان اليمني.
وتتجلى عظمة هذه الهوية الراسخة في الواقع المعاش من خلال منظومة القيم التي تحكم المجتمع اليمني، فما نشاهده اليوم من عزة، وإباء، ورفض مطلق للخضوع لقوى الاستكبار العالمي، وما نراه من تكافل اجتماعي فريد، وتصدرٍ للمشهد في نصرة قضايا الأمة الكبرى وعلى رأسها مظلومية الشعب الفلسطيني في غزة، ليس إلا “الترجمة العملية” لتلك الهوية الإيمانية؛ فالهوية الحقيقية هي التي تمنح صاحبها البوصلة لتحديد موقعه من الصراع، وتمنحه المناعة الكافية لرفض الذوبان في المشاريع الثقافية الغربية الدخيلة. وهنا تبرز العلاقة الطردية الوثيقة بين رسوخ الهوية والحصانة من الانصهار؛ فكلما كان المجتمع متمسكاً بجذوره الإيمانية وتاريخه المشرق، تحول هذا التمسك إلى “جدار صد” صلب تتحطم عليه كل محاولات الغزو الثقافي، تماماً كما تتحطم الأمواج على الصخر، ولهذا بقي اليمني يمنياً بزيّه ولهجته وقيمه رغم قرون من محاولات الطمس.
يدرك أعداء الأمة هذه الحقيقة جيداً، لذا فقد انتقلوا في استراتيجيتهم العدائية مما يُعرف بالحرب الصلبة إلى “الحرب الناعمة”، وهي أخطر أنواع الحروب التي تستهدف “العقل والوجدان” بدلاً من الأرض، وتستخدم وسائل خبيثة ومدروسة لسلخ المجتمع العربي المسلم عن هويته. وتتمثل هذه الوسائل في ضخ هائل للمحتوى الإعلامي الهابط الذي يروج للتفاهة والانحلال تحت مسميات براقة كـ “الحرية” و”التحضر”، والسعي الممنهج لتزييف الوعي التاريخي، وفصل الأجيال الشابة عن رموزها العظيمة كالإمام علي (ع) وأعلام الهدى، واستبدالهم بقدوات مزيفة من مشاهير الفساد والانحطاط، بهدف الوصول إلى حالة من “الفراغ الهوياتي” الذي يحول الإنسان إلى كائن مستهلك، مفرغ من القيم، وتابع ذليل للغرب.
ختاماً، فإن مواجهة هذا الطوفان من الاستهداف الممنهج لا يكون إلا بالعودة الصادقة والواعية لترسيخ الهوية الإيمانية عبر مسارات محددة، تبدأ بالارتباط الوثيق بالقرآن الكريم كمصدر تأسيسي للقيم، وإحياء المناسبات المفصلية كـ “جمعة رجب” باعتبارها محطات للتزود بالوعي وتجديد العهد لا مجرد ذكريات فلكلورية، والتمسك بقيادة الأمة الحكيمة التي تمثل الامتداد الأصيل لنهج النبوة. إننا اليوم أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على هذا الإرث العظيم، لنظل كما أراد لنا رسول الله: “شعب الإيمان والحكمة”، ولنثبت للعالم أن الهوية اليمانية هي الصخرة التي لا تنكسر، والراية التي لا تسقط أبداً.

قد يعجبك ايضا