الثورة / متابعات
نشرت حركة حماس روايتها الثانية لعملية “طوفان الأقصى”، في نص يقدّم تأطيراً تاريخياً وسياسياً لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في محاولة لكسر احتكار الرواية الإسرائيلية للحدث وسياقاته ومفاعيله. وتأتي الوثيقة بصيغة أقرب إلى مرافعة سياسية ـ أخلاقية، توظّف أدوات الخطاب السياسي بهدف تثبيت سردية تاريخية للطوفان ضمن مسار الصراع مع الاحتلال، ومخاطبة الداخل والخارج في آن واحد.
من الصفحة الأولى، يسعى نص الوثيقة الصادرة باللغتين العربية والإنجليزية، عميقاً إلى الاستحواذ على معنى الحدث، إذ يعلن أنه لا يناقش ما جرى فقط، بل كيف ينبغي أن يُفهم، وضمن أي سياق، واضعًا نفسه في موقع الرواية المؤسسة، لا التعليق العابر.
وبهذا لا تتعامل الوثيقة السياسية الموسومة “روايتنا.. طوفان الأقصى عامان من الصمود وإرادة التحرير”، كواقعة زمنية محددة، بل كنقطة تكثيف لمسار تاريخي طويل، تتراكم فيه الأسباب السياسية والوجودية، وهي أحد أهم اشتغالات النص الذي ينزع صفة المفاجأة عن السابع من أكتوبر. فبدلًا من تقديمه كحدث صادم خرج عن السياق، يعيد النص بناء زمن أطول يبدأ من تاريخ إعلان فلسطين وطناً قومياً لليهود عام 1917، مروراً بمسار تاريخي طويل يتحول فيه السؤال المركزي من: لماذا وقع طوفان الأقصى؟ إلى: كيف أمكن لهذا الطوفان أن يتأخر كل هذا الوقت؟
العمود الفقري للسردية
تعتمد رواية حماس السياسية على سردية سببية صارمة، فالاحتلال ليس واقعًا عسكريًا فقط، بل بنية عنصرية إلغائية؛ والتسوية ليست مسارًا فاشلًا، بل آلية إدارة للصراع وتجريد الفلسطيني من حقوقه وإنسانيته؛ والمجتمع الدولي ليس وسيطًا عاجزًا، بل شريكًا بالصمت يعاني من العجز والفشل أمام دولة ترى نفسها فوق القانون. وبهذا الإطار، تُعيد الوثيقة الواقعة في 36 صفحة، صياغة المقاومة لا بوصفها خيارًا أيديولوجيًا، بل بوصفها وظيفة ليست استثنائية في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل استمرارًا له.
يحتل الفصل الأول موقع القلب في الرواية، إذ يعمل على صياغة منطق سببي يجعل من طوفان الأقصى نتيجة منطقية لمسار طويل من الإلغاء والعنصرية منذ احتلال فلسطين عام 1948، وفشل مسار التسويات السياسية مع السلطة الفلسطينية، وصعود اليمين المتطرف الذي يسعى إلى فرض الرؤى الصهيونية على الشعب الفلسطيني بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً ضمن مشهد يعيد إنتاج النكبة من قلب القدس.
وبهذه السياقات السياسية، يذهب النص إلى اعتبار المشروع الصهيوني ذاته غير قابل لإنتاج تسوية سياسية عادلة، لأن وجود الفلسطيني يشكّل خللًا بنيويًا فيه، ويعيد تعريف الطوفان بوصفه حتمية سياسية وتاريخية واصلها الشعب الفلسطيني منذ ثورته الأولى عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني الذي نكث وعودة في إلغاء وعد بلفور وإقامة دولة فلسطينية على كل أرض فلسطين، وتواليا يصبح الاستيطان، وتهويد القدس، والحصار، ومعاناة الأسرى، وتآكل الأفق السياسي؛ ليسوا عوامل منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة، لا تجعل من الطوفان فعلًا اختياريًا، بل ارتدادًا تاريخيًا لمسار مسدود.
العبور المجيد
في الفصل الثاني، ينتقل النص من منطق السببية إلى منطق المعنى، حيث يعاد إنتاجه لغوياً ورمزياً بإعادة تعريف يوم السابع من أكتوبر بوصفه “يوم عبور”، لا عملية عسكرية، بل إحالة نفسية وتاريخية وجغرافية، باعتبار الطوفان “خطوة محسوبة تعبرّ عن إرادة الأمل وتصحيح المسار التاريخي”ـ وعبور من الخضوع إلى الفعل، ومن الشعور بالعجز إلى كسر صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، ومن موقع الدفاع إلى المبادرة “لسنا ضحايا إلى الأبد، بل شعب يقاتل من أجل كرامته، ويرفض أن يكون شاهد زور على ضياع وطنه”.
كما يستحضر الفصل الأرقام والاستطلاعات كأدوات لتأكيد شرعية الفعل المقاوم والالتفاف الشعبي حول، الشرعية لم تعد مستمدة من المجتمع الدولي، بل من “المجتمع الذي يتمسك بخيار الصمود والمواجهة رغم الكلفة الباهظة”.
ويعتمد النص كذلك على لغة رمزية كثيفة، تستدعي مفردات الانكشاف، والانهيار المعنوي، والصدمة الاستراتيجية التي لحقت بجيش الاحتلال ووضعت دولته تحت صدمة وجودية عبر عنها بالاسم الأول الذي أطلقه على حرب الإبادة بوصفها حرب استقلال ثانية، قبل أن يعيد تعريفها باسم “السيوف الحديدية”.
مرافعة مضادة.. إعادة تعريف النصر
في الفصل الثالث، يدخل النص في اشتباك مباشر مع السردية الإسرائيلية والغربية، ويتخلى جزئيا عن اللغة الرمزية، ويتقدم بلغة أقرب إلى المرافعة القانونية والأخلاقية، لكن من موقع هجومي لا دفاعي، إذ لا يكتفي الملف بنفي الاتهامات، بل يطالب بالتحقيق الدولي، محولًا مطلب المحاسبة إلى أداة لكشف الرواية المقابلة، ويضع الطرف الآخر في موقع من يخفي الحقيقة أو يتهرب منها
مسار الحرب.. عقلية الإلغاء
يعالج الفصل الرابع مسار الحرب الإسرائيلية على غزة لا باعتبارها ردًا عسكريًا على طوفان الأقصى، بل بوصفها كشفًا فاضحًا عن جوهر المشروع الإسرائيلي حين يُنزَع عنه قناع “الدفاع عن النفس”، حيث ينتقل النص من تفكيك الحدث إلى تفكيك العنف ذاته تجاه مسنداً بمعطيات إحصائية لأعداد الشهداء والجرحى، والدمار العمراني، وضحايا هندسة التجويع والإخضاع، وقتل الشهود من أطباء وصحفيين، وعمليات تعذيب وإعدام للأسرى، وسرقة أعضاء الشهداء، مقدّمًا الحرب كامتداد طبيعي لمنطق الإلغاء الذي حكم علاقة الاحتلال بالفلسطيني منذ عقود. عقلية تنكر على الفلسطينيين ليس فقط حقوقهم السياسية، بل حتى إنسانيتهم بوصفهم “حيوانات بشرية”، في خطاب يشرعن تدمير القطاع وإبادة أهله.
يعرض الفصل سلسلة المبادرات والمقترحات والوساطات التي طُرحت خلال الحرب، مشددًا على أن الحركة أبدت مرونة سياسية وتعاطيًا إيجابيًا مع الجهود الرامية إلى وقف النار وتبادل الأسرى. في المقابل، يُصوَّر نتنياهو وحكومته كعقبة مركزية، تستخدم الحرب كوسيلة للهروب من أزماتها الداخلية، وتغليب بقائها السياسي على أي اعتبارات إنسانية أو استراتيجية.
النصر خارج الميدان العسكري
في الفصل السادس من الوثيقة، تكتمل الرواية عبر إعادة تعريف مفهوم الإنجاز، حيث لا يقاس الصراع غير المتكافئ بمقاييس الربح والخسار، وفي حرب إبادة مفتوحة!، بل بما تغيّر في الوعي العالمي، وعودة القضية الفلسطينية إلى مركز النقاش الدولي، واهتزاز صورة الردع الإسرائيلي، واتساع العزلة الأخلاقية والسياسية لإسرائيل.
الإنجاز الأساسي، كما يقدّمه الفصل، يتمثل في كسر صورة إسرائيل كقوة لا تُمسّ، وفي إسقاط وهم الردع المطلق الذي حكم المنطقة لعقود. كما يركّز على أن طوفان الأقصى، وما تلاه من صمود فلسطيني غير مسبوق، أعادا القضية الفلسطينية إلى قلب النقاش العالمي، بعد سنوات من التهميش والتطبيع ومحاولات الشطب السياسي. ومن هذا المنظور، تشدد وثيقة حماس على أن فلسطين لم تعد “ملفًا منسيًا، بل قضية مركزية تفرض نفسها على الإعلام، والجامعات، والشوارع، والبرلمانات. وترى حماس في هذا التحول بالوعي العالمي إنجازاً استراتيجياً طويل الأمد، يفوق في قيمته أي مكسب عسكري آني.
حماس.. فاعل سياسي لا يمكن عزله
يشكّل الفصل السابع خاتمة بنيوية للوثيقة السياسية، إذ ينتقل من تقييم الإنجازات إلى تحصين الفاعل السياسي الذي يقف خلف الحدث، وهو لا يتعامل النص هنا مع مسألة “حماس” بوصفها شأنًا تنظيميًا أو فصائليًا، بل باعتبارها سؤالًا سياسيًا أعمق: هل يمكن عزل الفعل عن سياقه، أو تفكيك الرواية عبر إقصاء من أنتجها؟
ينطلق الفصل من فرضية مركزية مفادها أن أي محاولة لعزل حركة حماس أو شطبها من المعادلة ليست سوى تجاهل متعمّد لحقيقة أن الحركة ليست كيانًا طارئًا أو مفروضًا من الخارج، “بل مكوناً أصيلًا ومتجذراً، وركناً رئيسياً في نسيجه الوطني والسياسي”. بهذه المقدمة تؤكد حماس أنه ليس فاعل منفصل عن المجتمع، بل أحد تعبيراته السياسية.
يعيد الفصل تفكيك خطاب “ما بعد حماس” الذي تصاعد خلال الحرب، معتبرًا إياه خطابًا تبسيطيًا يسعى إلى اختزال الصراع في طرف واحد، وتفريغه من جذوره البنيوية. فالنص يؤكد أن إزاحة الحركة، حتى لو كانت ممكنة نظريًا، لن تعالج الأسباب التي أفرزتها، بل ستعيد إنتاج الشروط نفسها التي قادت إلى الطوفان، “فجوهر المشكلة هو الاحتلال الإسرائيلي، وجوهر الحل هو إنهاؤه وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية. ولا يمكن أن يتحقق الحل عبر شروط تُريح الاحتلال وتضمن بقاءه، كما لا يمكن معاقبة الضحية ومكافأة الجلاد”.
وعزل حماس هنا لا يُقرأ كحل سياسي، بل كآلية هروب من مواجهة جوهر الصراع، في “تتناقض مع حق الشعوب في المقاومة المسلحة وحقها في اختيار ممثليها بحرية، كما تتناقض مع الأعراف السياسية التي تحتم على الدول التفاوض مع قوى المقاومة لا استبعادها”.
كما يعمل الفصل على تثبيت صورة الحركة كفاعل سياسي لا عسكري فقط، مشاركته “في التمثيل الشعبي والقرار السياسي حقٌّ أصيلٌ لا يقبل الوصاية الخارجية، ولا يمكن فرض أي بديل فوقي على إرادة الشعب الفلسطيني”، وهي بذلك تؤكد أن فرض معادلة مفادها أن أي مسار سياسي مستقبلي يتجاوزها، محكوم عليه بالفشل، ويعني إعادة تدوير الصراع لا حله.
بيان المرحلة السياسية
يأتي الفصل الثامن بوصفه لحظة انتقال واعية من سرد ما جرى إلى رسم ما ينبغي أن يكون، حيث تنتقل الوثيقة السياسية لرواية الطوفان إلى صياغة أولويات المرحلة المقبلة باعتبارها استكمالًا سياسيًا وأخلاقيًا لما تحقق في الميدان، وهي لا تُعرض هذه الأولويات كبرنامج تقني، بل كمسار نضالي متكامل، يُفترض أن يحمي التضحيات من الهدر ويمنع إعادة إنتاج شروط الانفجار.
وتنطلق الأولوية الأولى من مطلب الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من قطاع غزة، باعتباره شرطًا تأسيسيًا لأي انتقال حقيقي من الحرب إلى السياسة، يتبعه مباشرة حق الإعمار بوصفه فعل حياة ومقاومة في آن واحد، لا مجرد مشروع إنساني. وفي السياق نفسه، يصرّ النص على ضرورة كسر الحصار كعنوان للمرحلة، ليس فقط لإدخال المساعدات، بل لإنهاء معادلة الخنق التي حكمت غزة لسنوات.
في موازاة ذلك، يمنح الفصل قضية الأسرى موقعًا مركزيًا، معتبرًا أن تحريرهم ليس ملفًا تفاوضيًا ثانويًا، بل استحقاقًا وطنيًا وأخلاقيًا، وأن أي ترتيب سياسي لا يضعهم في القلب يفتقد الشرعية. ويتكامل هذا مع أولوية منع التهجير الجماعي وإفشال أي محاولة لإعادة إنتاج نكبة جديدة، سواء في غزة أو في الضفة الغربية، حيث يُنظر إلى التهجير بوصفه جوهر المشروع الاستعماري لا نتيجة جانبية للحرب.
على المستوى الداخلي، يؤكد الفصل ضرورة إدارة وطنية مستقلة لقطاع غزة، ترفض الوصاية الخارجية أو الحلول المفروضة من فوق، وتستند إلى الإرادة الشعبية بوصفها مصدر الشرعية. هذه الإدارة لا تُطرح كبديل تقني، بل كجزء من إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة الشراكة والوحدة.
في البعد الأوسع، يولي النص أهمية خاصة لحماية القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربية، معتبرًا أن ما جرى في غزة لا يمكن فصله عن معركة أوسع تستهدف الأرض والهوية. ومن هنا، تبرز أولوية مواجهة التطبيع، لا كخيار سياسي فحسب، بل كمعركة وعي تهدف إلى عزل الاحتلال لا دمجه في المنطقة.
كما يعطي الفصل مساحة واضحة للمسار القانوني، عبر ملاحقة قادة الاحتلال في المحاكم الدولية والوطنية، بوصف العدالة جزءًا من المعركة، لا ملحقًا أخلاقيًا لها. ويتكامل ذلك مع أولوية ترسيخ السردية الفلسطينية في الفضاء العالمي، حمايةً للمعنى من التزييف، وتثبيتًا للرواية في مواجهة محاولات الطمس.
وأخيرًا، يشدد النص على تعميق البعد العربي والإسلامي والإنساني للقضية، وتعزيز العلاقات الدولية مع القوى الداعمة لحقوق الفلسطينيين، باعتبار أن ما بعد الطوفان ليس زمن الانكفاء، بل زمن توسيع دوائر الاشتباك السياسي والأخلاقي حتى تحقيق التحرير والعودة.
