في يونيو الماضي، عربد الكيان الصهيوني لاقتلاع عائلات فلسطينية من أراضي الـ48، ولم يكن من شك أن تجدد السلوك الصهيوني لمحاولات إخلاء كل القدس من الفلسطينيين إنما تتزعمه هذه المرة الجماعات المتطرفة التي وجدت لطموحاتها متنفسا أكبر مع ظهور حكومة التقاسم الصهيونية، لتفرض مساعيها من أجل استعادة ما تسميه بـ”الحوض التاريخي المقدس”، الذي يبدأ من شيخ جراح، شمالي البلدة القديمة، وصولاً إلى سلوان، جنوبي المسجد الأقصى، بما فيها البلدة القديمة في محيط الأقصى.
حينها نتذكر كيف وقفت عائلة (صب لبن)، حائلا دون استكمال عمليات التهجير، رافضة الخروج من منزلها، ووقتها لم تكن المقاومة هناك، إلا أن أصواتاً عالمية استشعرت مدى الانتهاك الذي عمل عليه الكيان الاسرائيلي لتمرير مخططه فانتقدت بشدة السلوك الصهيوني معتبرة إياه جريمة حرب، غير أن الكيان تجاهل كل ذلك وتمكن في الأخير بقوة السلاح من طرد العائلة من منزلها.
فعل التهجير والترحيل للفلسطينيين من قراهم، فعل مارسه الاحتلال في الأراضي الفلسطينية منذ وقت مبكر، بدأ به اغتصاب الأراضي وإقامة مستوطناته فيها منذ ما قبل الـ48، حين كانت العصابات الصهيونية تتكئ على الاحتلال البريطاني ودعم اللوبي الصهيوني في أمريكا وبريطانيا، والقارئ للتاريخ يتذكر أحداث الثلاث سنوات الدموية من 1947 إلى 1949.
الأمر اليوم، ورغم أن ظروفه تختلف عن ذاك اليوم القريب والبعيد، ورغم صدور العديد من القرارات الدولية التي تؤكد حق الفلسطينيين -ولم ينفذ منها شيء- إلا أن الصوت الدولي يبدو غائبا، والكيان يجتهد في محاولته إخلاء أو تهجير أهالي غزة إلى جنوب القطاع، انتقاما من حركة حماس التي قادت عملية «طوفان الأقصى»، وأنظار الصهاينة تتجه إلى شبه جزيرة سيناء في مصر كوطن بديل للفلسطينيين، وهي مسألة لم يخفها الجيش الاسرائيلي وإنما طالب بها صراحة الأهالي بالتوجه إلى سيناء.
الاختلاف هذه المرة هو الحالة الثورية التي تسود المزاج العام داخل فلسطين والشارع العربي والإسلامي عموما، ففعل المقاومة الجبار الذي جسدته عملية «طوفان الأقصى» أحيا الأمل باستعادة الأراضي المحتلة وتهجير الكيان الغاصب خصوصا مع ما تبين من قوة هشّةٍ كانت مغلفة بالدعاية الإعلامية عن ثالث أقوى جيش في العالم، حسب الإيعاز الأمريكي لوسائل الإعلام المتحالفة معه بالترويج له، وصاحب القبة الحديدية التي لا تُكسر، والاستخبارات التي لا يمكن أن تمر عليها شاردة أو واردة.
تنبهت مصر مبكرا للمخطط الصهيوني وخرجت بتصريحات قوية تحذر الكيان من مغبة تصفية القضية الفلسطينية بهذه الطريقة، كما حذرت سلطة عباس أبو مازن من المخطط الصهيوني، وانتقدت منظمات دولية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيومن رايتس، التوجه الاسرائيلي باعتباره فعلا يتناقض مع القانون الدولي الإنساني، فضلا عن ردّ أهالي غزة بالرفض الصارم للخروج من أرضهم.
إلى ذلك كله، وضعت الملحمة البطولية للمقاومة بتنفيذها عملية الطوفان، الحقائق في سياقها الطبيعي، لجهة تأكيد حق أبناء فلسطين الراسخ في أرضهم من ناحية، ومن ناحية أخرى كشف حقيقة ضعف الكيان.
وتحت سقف هذه المعطيات تتعقد الأمور كثيرا أمام الاحتلال في تهيئة المناخات لتنفيذ أجندته في الأراضي المحتلة، بل وتتعقد أكثر في تهيئة بيئة ومناخات الاستمرار والبقاء على أراضي الفلسطينيين بنفس الأريحية التي كان عليها إلى ما قبل السابع من أكتوبر المجيد، إن لم نقل أنه صار إلى العد التنازلي لزواله، ما يجعل مطالبته أهالي غزة بالرحيل ضرب من الهذيان.
ربما لم يشهد التاريخ مثل هذه الروح الثورية السائدة في فلسطين ولدى كل الشعوب العربية بما فيها الخاضعة لسلطات الأنظمة المطبعة، ليتمثل في ذلك متغير جديد أمام الكيان الذي عمل طويلا من خلال الأمريكان والبريطانيين والألمان والفرنسيين وباقي الدول «الإمّعة»، على برامج قتل الثوابت الدينية والقومية في نفوس الشباب العربي، وصولا إلى تجهيلهم، وهو الفشل الذي اعترف به قادة صهاينة بعد موجة التطبيع من بعض الدول العربية، حين أكد أن تطبيع العلاقات مع الأنظمة لم ينجح في التأثير على الشعوب، وبدا أن الأمر منفصل بين الأنظمة وشعوبها، وهو ما يزيد من التأكيد أن على الكيان قراءة هذه المعطيات بعقلانية عندما يصدر تصريحاته أو قراراته الهوجاء.