عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) أيوب طارش العبسي.. ثنائي الحرف والنغم..

الفضول … عبقرية العطاء والعزاء

 

عبده عبدالله عقلان

هذه ليست دراسة جديدة عن الشاعر الفضول والفنان أيوب. وإنما هي تقدمة جديدة عن هذين العملاقين .جاءت استجابةً لرغبةً ظلت تراود مهاد الذاكرة منذ أصدرت الكتاب الأول عنه عام 2021م ، لعلي أستطيع في هذه المرة أن أبزغ على هذا الشاعر بقدر ما أمتع وآنس وأعطى وبذل –
ثم أعود وأتذكر أنه ليس بوسعي أن أوفي هودجنا الكبير الكيل والميزان ، إذ تبقى محاولة توفية الفضول حقه ، حصراً على ذوي الدراية والرواية من أهل الصنعة الكبار..
نلتقي بالفضول اليوم ذاتاً مهدمةٍ تتموج في منفاها الداخلي كسيرة الألم المحض ، الذي لا يحبس نفسه مكابراً ، بل يتواشج مع حسراته ومعانياته وينهمر على الورق تفجراً عاطفياً، احتفاءً بالحياة واحتجاجاً على كل وجوه القبح فيها.
فهو مزيج عجيب من الغناء والغضب، يجسد الهيجان العميق والتحرق الداخلي الممتد من الفجر إلى الفجر .. أمسي أهيم وأئن من جراحي ونهدتي تمتد إلى صباحي ، ويقول في نص غنائي آخر:
هيمان حتى لو سكنت السحاب … لأصبحت قيعان فيها سراب.. فهل أتى حبي لقلبي عقاب.. أو أن أحراقي بشوقي ثواب..
إنها المشكاة ذاتها التي خرج منها قبل أستاذه ومعلمه أبو الطيب المتنبي مرتدياً ثوب ذلك العصر المليء بالآلام العربية ..
بم التعلل لا أهل ولا وطن ، ولا نديم ولا كأس ولا سكن ، أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن … هكذا يطلعنا المتنبي عن سأمه وقنوطه وطموحاته التي تناطح المستحيل.. ،
أما فضولنا فإنه يتنفس هواء كل العصور، وفي نفسه من الآلام والآمال وكل ما تحفل به النفوس الخيرة ما لا يحده حد ، فنفض اليد والروح عنهم وارتمى بين أحضان الحب ودفئ المرأة يناجي الطبيعة ويبثها وجدانه .. يصور معانياته وخفة دمه وميله إلى الجمال، يصور ذلك بصراحة ، والحريص على تقاليده وقيمه في الحب ، من خلال الاهتمام بأمور الوصل والصد والهجر والقرب والدلال والتمنع والمصفاة والجفاء والقطيعة والنسيان. يقول:
ريح الصبا هل عاد عيشي يطيب. بعد الجفاء والهجر بعد الحبيب.. كم ضمنا صدر الغرام الرحيب.. وخالق القلبين كان الرقيب … واليوم نسى كل الذي كان.. وأعطى من النسيان أكفان .. للشوق والذكرى والأشجان..
إن الرجوع إلى البوح والترجيع والطبيعة يناجيها ويعيد اكتشافها من منظوره العاطفي وخياله المنطلق ، هو مأخذ نبيل كما يصفه ، محيي الدين سعيد في كتابه الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب ص37 ، سلكه قبله أبو القاسم الشاب وفكتور هيجو. الذي بدأ حياته واقعياً ثم قضاها استاذاً للمذهب الرومنسي في أوروبا، ولقائل أن يقول، أن شعر الفضول فيه شيء من الشكوى والقلق، وبالفعل الفضول شاعر القلق والتساؤل الإنساني، فالشكوى مبثوثة في كل شعره، ففيه شيء كثير من الرقة والجمال والأمل البسام ، وهذا يرجع إلى الظروف التي تصاحب الشاعر ، فتارةً تمر عليه حوادث تدعو إلى القلق والشكوى. وتارةً تمر عليه حوادث أخرى تشيع في نفسه شآبيب البهجة والسرور، فالعالم من حول الشاعر يعج بالحب والخير والتفاؤل، فتمسح هذه عن النفس ما علق بها من آلام ومنغصات، ونستطيع القول تبعاً لذلك بأن هذا المزيج العجيب هو الذي كان وراء دوران شعر الفضول على كل لسان وتغلغله في كل قلب وذكره الدائم الذي لا يتوقف ولا ينقطع نجاحه ، في التعبير عن النفس الإنسانية في كل حالاتها ومواقفها ، انقباضاً وبسطاً ، أملاً ويأساً ، حزناً وسروراً ، سخطاً ورضاً ، ثقةً وشكاً … لقد أهدى الفضول شعره لأولئك الذين حفت بهم السعادة برغد العيش فرأوا الحياة جمالاً ساطعاً ، ولأولئك الذين ضاق بهم العيش ، فرأوا الحياة ظلاماً دامساً.
عبدالله عبدالوهاب نعمان..
واحد من أولئك الشعراء القلائل الذين تبقى أعمالهم الإبداعية من بعد رحيلهم من أجمل ما قيل في الحب والحياة والوطن.
شاعر شفاف بشفافية الضوء وعبق الورود.
مزج رحيق العطر بماء النار وأطلقهما في شرايين اللغة العربية عصافير تزغرد وتغرد على أغصان الأيام وفي حدائق الذكريات الشجية التي لا تشيب.
شكل مع الفنان أيوب طارش العبسي خطا فنياً متفرداً. تلاشى كثيرون عندما حاولوا مجاراته أو استنساخ ثورتهم الفنية الفائرة.
فمن خلال الكتاب الذي أصدرته مؤسسة السعيد للثقافة والعلوم والآداب تحت عنوان ‹ أيوب طارش العبسي لسان الوطن والحب ‹ عام ٢٠١٣م ‹ يتضح أن عدد النصوص الفضولية التي تغنى بها الفنان أيوب يقارب سبعة وأربعون نصا غنائيا بين عاطفي ووطني ناهيك عن الغنائيات التي تغنى بها فنانون آخرون. ثم تلك الغنائيات التي يتطلب التغني بها الاتفاق مع ورثة الشاعر..
إن اهتمام الفضول بكتابة الأغنية جعله ينتظم على رأس هرم ناظمي الأغنية في اليمن بشقيها العاطفي والوطني. ‹
لم تتفق الروايات بشأن تاريخ ميلاده ‹ رواية تقول أن تاريخ ميلاده كان عام ١٩١٧م ‹ ورواية أخرى تقول أن تاريخ ميلاده كان عام ١٩٢٠م ‹ وأياً يكن الأمر بشأن تأريخ ميلاده› فإن المؤكد هو أن هذا الشاعر ولد وترعرع في منطقة تسمى تربة ذبحان› ١٢٠-١٣٠ كم تقريبا جنوبي مدينة تعز› وهي منطقة مفتوحة على وديان وسهول ممتدة تتداخل فيها دوائر المروج والحدائق والبساتين وعرائش المانجو وينابيع الماء المتفجرة من شقوق الألواح الصخرية ومن مساقط الأخاديد الغائرة في الضاحات الشديدة الانحدار في عناق الفضاء الممتد المفتوح شرقاً وغرباً.
وفي هذا المهاد الباذخ .توازن شاعرنا روحاً وجسداً مع سجع الطيور وظلال الأشجار وشميم الطيب ونثير الطل وخدود الضحى وأكف النسيم وأقواس قزح وأغاني الصبايا وملاحة الوجوه وحمرة الشفق وتناهيد الغبش.
حل شاعرنا في كل تلك الدلالات، وحلت به حد الاكتمال› فقضى حياته راهباً في محفل العشق بين سكرات الحب وسهاد الشجن عاشقاً ومعشوقاً.
يقتفي أثر الحسن ويقدم له صكوك الطاعة والولاء.
تتدفق حروف الدهشة من قلبه على خدود المايسات، كما يتدفق اللون الأخضر على صدور الهضاب في نسيم الصيف ليمنحها النشوة والجمال .
دعي إلى الحب بلسان العفة والرفعة وسمو ذات لا بلسان الشباب المراهق الذي تتلاعب به عواصف طيش الصبا بحثا عن فتاة أحلام .
هكذا من موقع الأخلاق الخطير في حياة العربي ابن اليمن وفي تشكيل وجدانه› انطلق يرسم المرأة في أشعاره بألوان زاهية العفة والعفاف› فحطم صورة المرأة الجارية وحول جسدها من وليمة بدائية تستعمل فيها الأنياب والأظافر إلى معرض أزهار› على حد قول نزار قباني.
امتطى جواد الشعر زمنا طويلا ساح به صال جال كافح ناضل قاتل ألتاع سهر بكى كي تصبح قامة الإنسان أكثر ارتفاعاًً ..
لم يتعال على المتلقي في اختيار المفردة المغرقة في المعجمية ولم يبسط في اختيارها حد الابتذال والاستهلاك.
ابتكر لنفسه تقنيةً لغويةً خاصة تحتضن مفردات الحياة اليومية بتنوعها ونضارتها وتشيع فيها النغم الشعري .
فلا هي بالمتنطعة ولا هي بالمبتذلة ‹ لغة تأخذ من العامية قربها من المتلقي وشيوعها قدر أخذها من الفصيح جلال اللغة وترفعها عن الابتذال والاستهلاك .
فجاءت أكثر اقتراباً من الوجدان الشعبي، وبالتالي أكثر اهتماماً بالتعبير عنه .
وهو وجدان يحتفل بصورة المحب في أدائها المعتد بذاته غير المنكسر لوعة وجوى.
كما يتجلى في أغنياته› دق القاع دقه ‹ هات لي قلبك› أنا مع الحب› لك أيامي› من أجل عينك› حسنك لعب بالعقول› باعدوا من طريقنا› بكر غبش› طاب البلس› الخ..
الحريص على أن يكون ابن القبيلة الفلانية مرة واليمني الأصيل مرة ثانية ‹ الوجدان الذي يمتزج فيه حب الحبيب بعبير الأرض وروائح الأحياء الشعبية وصولاً إلى ريف اليمن وفلاحيها ومعاناة الطبقة الكادحة في المجتمع التي كان الفضول في قصائده وأغنياته وأزجاله ومقاماته وسائر كتاباته كما يقول د/ فاروق شوشة ( مجلة العربي العدد ٥٥٣ ص ١٥٦ ديسمبر ٢٠٠٤ م) تصويراً لها وتغنياً بأصالتها ودفاعاً عنها .. ولابد إذن لمن يقرأ قصائد الفضول أو يستمعها مغناة من حنجرة الفنان أيوب أن يتمثل انطلاقات الفضول في أغنياته باعتبارها الامتداد الحي الأكثر ايغالاً ونفاذاً ووصولاً إلى الناس تتلألئي صفاءً ورقة ولين حاشية وجرساً مطرباً وافتتانا في توليد الصورة التي يفتتها ويجزئها إلى عناصرها الأولى ثم يعيد فيلملمها ويجمعها شأنه شأن الصياد الماهر ‹ يعرف كيف يلقي شبكة مفرداته الى اليم وكيف ومتى ينتشلها من الماء محملةً بصيد وفير من الكلمات المختارة والعبارات الدالة والظلال البينية التي ينسكب عليها الخيال وتسرح فيها الخواطر والظنون.
الفضول… شيخ مهدم
في بلدٍ لا تتوقف أيام وجعه حيث عمر القسوة والحزن والخسارات أطول من عمر الفرح والتسامح والحب- وحيث يتهاوى صانعو الجمال والسرور الصعب واحداً اثر آخر. آخرتهم الشاعرة فاطمة العشبي الله يرحمها … أو كأن الحروب والكوارث والمنافي تحرق أخضر المبدعين وتعطب أجسادهم وتوقف نبض قلوبهم … والباقون _ الباقون المتعبون يتكئون على جذورهم ومحباتهم ووطنيتهم مثل بيوت عتيقة تتواضع كنف بعضها البعض كي لا تنهار .
من هنا برز عبدالله عبد الوهاب نعمان (الفضول) مناضلاً سياسياً بجلباب شاعر عاطفي دماع ‹ محب للمرأة والأصدقاء والحياة والوطن ‹ سرعان ما ترطب خده مأساة خجلى› راسمة مسيل حزن عندما يرى مواقف تبرز هشاشة الأنسان وضعفه وتكوينه المتداعي ‹ مازجاً قوافيه وأنغامه وضماته والحزن المعتق بأسئلة الملهوف وحيرته الأبدية.
لم يكن فضولنا شاعراً عادياً ‹ كان قارورة من عطر الأدب وشجن البوح. عن الوجدان المنكسر لوعةً وجوى – الوجدان الذي لا تعيبه المذلة أو الانكسار تحت وطأة الشوق والحنين وآلام البعد والتوله مادامت الدائرة المحكمة لهذا اللون من العواطف لا تتسع إلا للحدين المتباعدين _ الهجر والوصال
الفضول من عهده الصحفي السابق يعرف أكثر من غيره كيف يتخير الكلمة المعبرة والمأنوسة ويؤثر الصياغة الرقيقة الدالة النافذة إلى القلب من أيسر السبل ‹ يطوع الصور والمعاني الشعرية العالية للكلمة ويرقق عواطف العامة بالشجي والأنين والذكريات.
وإذا ما حاولنا في هذه التقدمة الجديدة الوقوف على القصائد التي تجلى فيها الفضول منكسراً لوعة وجوى باعتبارها كانت ثمرةً مغالبةً قاسيةً بين الشاعر ومحيطه ‹ لمع البروق ‹ أذكرك والليالي ‹ مدارب السيل – الليل والنجم وهمس النسيم ‹ وغيرها من القصائد› المسكوبة على هذا المثال ‹ فإن غنائيته (هيمان ) هي التي تبدو للوهلة الأولى أنها ذروة فنه الشعري.
ومن فوق هذه الذروة يصل إلينا صدى هذا الانكسار عاتياً صاخباً كالبحر الهائج والريح العاصف وقد ذاب وانصهر في حضور شعري واحتشاد فني على غير مثال سابق سبيكة متوهجةً حاملةً لعوالم مكثفة الأحجام والأشكال والألوان. تمثل، جوهر رؤيته وخلاصة خبرته وتجربته في الحياة والناس والشعر، سكب عليها نضارة حسه وعرامة وجدانه وذرى شجنه وصخب حزنه وغبنه وقلق روحه. وتمرد عنفوانه. زيت الحياة ونفحة الخلود. فكانت حداده وعزاؤه إلى الحياة والناس والواقع المشوه كجنين دجاجة.
أحكمها لغة شعرية حارة متوترة شديدة الرهافة والانسياب، تترقرق فيها عوالم النفس الداخلية الحميمة وتضفي عليها مواصفات الحب العميق الذي ينصهر في جحيم اللغة والمكان والجسد مفسحةً المجال لحضور الخاص بالعام ‹ وجمال التقطيع والفواصل التي تشكل وقفات نفسية وإيقاعية هي بعض خصائص شعر الفضول العاطفي ‹ وبعض سمات شعره في التأملات والبكائيات وشعر التجليات والرؤى الروحية والكونية
أتقنها سبكاً ونظماً وكلمات شعرية أقوى جيشاناً بالحياة وأصبى امتلاء بالشعر الطائر النابض كأن حروفه من نجوم حية ومن فلقات أقمار تامة. على حد قول الشاعر عبدالله البردوني.›
وأبدعها قواف ذات نفس ممتد مفتوح ‹ وموسيقى جياشة كأنها تلامس العمق أو القرار فتحدث تأثيرها المدغدغ للحواس وتنشر عطرها الفواح في كل زاوية وموضع وكأنها موسيقى تلمس وتشم وتضم ‹
رسمها صوراً ولوحات تغري القارئ ‹ _ المستمع بكثير من توابلها الحريفة التي تلذع بصراحتها وتغري بالمزيد وتمتع بإشباع النهم الحسي والنفسي ونهم الشك المعذب.
يقول الفضول:
يا أنتي أبكيت صوت الرباب
يادمعتي بليت وجه التراب
يا لوعتي عذبت حتى العذاب
وامهجتي كم ضاع فيها شراب
كأنها رملي وربعي الخراب
أي مدار للغواية في الاندماج في أفق الشاعر.. وأي مدار للإغراء هذا الذي أطلقه الشاعر الفضول بمثل هذا الشعر الفاتن
وهذه الصور الشديدة اللفح والتأثير والنفاذ.. وأي أفق بعيد حلق إليه شعره وهو يضم في قبضته المحكمة هذا التفاعل المدهش بين الطبيعي نسبة إلى الطبيعة والإنساني.. وأي قدرة يفجرها هذا الحوار بين الذات الشاعرة المكلومة. والذات الوطنية إن جاز التعبير ..
نلتقي بالفضول هنا شاعراً تمثل التجربة الإنسانية وعاناها وصراع الحياة والوجود والبحث الدائب عن الحكمة واطراح السكون بحثاً عن الحركة والحرية والانطلاق والفعل الإيجابي.. نلتقي الفضول في واحدة من أشهر غنائياته اعتصرها من وهج الروح مهجة عشق ملتهبةً حين كان أوار الشوق مشتعلاً وعزف الأوتار أشد وأقوى مراساً. ويواصل الفضول نثر فتات روحه وهو يفرط لنا الأسباب التي هرعت به إلى فورة الظمأ العاطفي وأودعت ربيعه طقس الخريف الجاف رغم الندى المستمر…
إلى الهوى والحب قلبي التوى
من فجر أيامي وصبح الشباب
وحينما عودي قوى واستوى
فصلت أشواقي لعمري ثياب
مسكين أنا مسكين قلبي غوى
إذا سمع للحب داعي أجاب
وكلما حاسبت قلبي سوى
أتى يغالطني ويثني الحساب
وان قلت قد أقفلت باب الجوى
فتح لقلبي فيه عشرين باب
وان قلت قلبي من هواه ارتوى
حسيت في حسي جفاف التراب
وإن قلت تمينا كتاب الهوى
أمسى الهوى عندي يؤلف كتاب
ثم تتصل ظاهرة من ظواهر التصوير الفني الخاصة بشعر الفضول، أو التي اتكأ عليها ضمن وسائله الفنية في التعبير الشعري ‹وهذه الظاهرة هي إضفاء الطابع الإنساني وما يتصل به من مشاعر وأحاسيس على المشهد الطبيعي وبث الحياة في تضاعيف الطبيعة حتى تصبح مخلوقات بشرية تتنفس وتحس وتتألم وتحزن ‹ وتتألق بالبهجة والفرح الداخلي حين يهب ذاته في صفاء ونقاء وصوفية للطبيعة العذراء وتجاوبه موهبته الفذة ورؤيته الفطرية النافذة لمعطيات الطبيعة غيوثاً وسيولاً ووروداً وأنداءً وظلالاً ورمالاً وغصوناً وغيوماً وشهباً وحريراً وضباباً وسحاباً وقيعاناً وسراباً كاشفاً عن حياة كادحة تتجلى فيها تعاسة الأنسان اليمني البسيط وشظف عيشه ومظاهر كدحه الدائب وبؤسه العميق وصبره الطويل وتشوقه إلى عالم من الدعة والطمأنينة وما تزخر به أحلام الجوعى والمحرومين على حد قول د/ انس داود في كتابه (محاولات للتذوق الفني ص ٥٣).يقول:
وحيث مر الغيث والسيل سال
إذا رآني الورد قال لي تعال
خذ لك ندى عندي وخذ لك ظلال
يكفي ظمأ خلي الظمأ للرمال
محال أن يروى فؤادي محال
يا ورد قلبي ما ارتوى من جمال
قد طال عهدي بين الأغصان طال
أختار لي منها الغصون الطوال
وانا وقلبي بينها لا نزال
وساريات الغيم تحت الشهاب
تلبس الدنيا حرير الضباب
قولي لمن خلى فؤادي وغاب
لا الشوق خلاني ولا القلب تاب
هيمان حتى لو سكنت السحاب
لأصبحت قيعان فيها سراب
فهل أتى حبي لقلبي عقاب
أو أن إحراقي بشوقي ثواب
الظمأ والسهاد خاطر شعري، أو حال شعرية كثيرة التجلي في شعر الفضول العاطفي ‹ حتى ليمكن القول بأن شعره العاطفي يدور في دائرة واسعة قطباها الظمأ والسهاد بكل ما يحتمله الهاجسان أو تفيض به الحالان من قنوط وسأم وتعاسة وخيبة أمل ومن قبول أو شك أو تساءل، فهذا النشيج وهذه الحيرة وهذا السأم الطواف ‹ انعكاساً طبيعياً لحياة التشرد والترحال. والشعور باليتم المبكر ‹ نحن هنا مع شاعر رأى وعايش فساد الهيئة الاجتماعية، الجامدة واختلال الأمور والأوضاع منذ نعومة أظفاره ‹ خاصة إذا علمنا أن هذا الشاعر ينتمي إلى بيت إمارة وسؤدد ‹ كان لها ما كان من الحكمة وفصل الخطاب في قضاء الحجرية وتعز. وبين عشية وضحاها تتفجر هذه الأسرة ويتطاير أفرادها إلى السجون والمقابر والمنافي. ‹ فكان طبيعياً أن تحبسه ذخيرة أساه في دائرة العزاء الخصب يعزف أنغام الحسرة والكآبة كلما جاشت في صدره عاطفة أوتأثرت نفسه بحادثة ‹ نحن إذن مع شاعر لم يرسل نفسه على سجيتها حقاً إلا حين تغنى بعواطفه وميوله وأهواؤه ‹ وكان شعره المصور لنفسه حقاً من أجل هذا الغناء خالصاً بأدق معاني هذه الكلمة وأرقاها على حد قول طه حسين ‹ لا يصور نفسه وحسب ولكنه يصور نفوس الناس جميعا الذين لم تخلو حياتهم من صراع صامت فيه شيء من العنف الأليم
لعل الفضول كان يهدف من غنائيته هذه وغيرها من القصائد المصبوبة على هذا النحو ‹ إنجاز معراج عاطفي ونفسي وفكري لا يرفض الواقع المعيش ‹ وإنما إعادة تشكيله وخلقه كما في المثال الذي يحلم به الشاعر.
إن اعتصار الخبر والتخبار عن الشاعر الفضول يجرنا إلى اعتصار الخبر والتخبار عن الفنان أيوب طارش فكلاهما تربعا على عرش من عروش الإبداع..
وفي بداية هذا الموضوع أحب أن أسجل ملاحظة هامة..
وهي أن الكاتب لما يشرع في الحديث عن أيوب طارش العبسي تنتابه رعشة خوف ورهبة.
الأمر هنا يختلف جداً. مقارنة مع شخصيات أخرى. يمكن الحديث عنها بأمان وسلام.. لأن التحليق في أفق فنان امتدت ظلاله الفنية على كل تفاصيل اليمن.
ليس بالأمر السهل أبداً.
وأنا لا أريد هنا أن أقع كما وقع الآخرون في مغبة الأبواب المطروقة.
وتكون المحصلة في النهاية كلاماً باهتاً لا حرارة فيه ولا حماس للفنان أيوب ولا لفنه.
وإنما كما يقال كلام صحفي. يمكن أن يطلق على الفنان أيوب وغيره.
ولا يرقى إلى المكانة التي يحتلها الفنان أيوب في قلوب
محبي فنه وعشاق أغنياته.
التي سار ذكرها مسير النور في الديجور ..
وإذن. فلابد أن نحزم الحقيبة باتجاه
د.عبدالعزيز المقالح.
نمتح من معينه ثلاث أربع لحظات.
ربما تستطيع مع اللحظات المضافة.
أن ترسم عن الفنان أيوب الصورة الإنسانية التي تتطلع إليها جماهيره عشاق فنه الأصيل.
أيوب طارش العبسي..
نجم شرد من مدار النجوم واتخذ موقعاً في فضاء النغم، في كفه ألق من هدوء مقفى وفي فمه للحياة نغم،
ضوء يطوف في الآفاق ويركض عبر الزمن أنغاماً بطعم الندى الفستقي، شجناً أبيض كالسحابة،
عميقاً ومتسعاً كالبحر
لحن صيغ من رقة النسائم والزهر.
صوت تجتمع في طياته.
طبقات من الحزن الشفاف، والبحة المحببة، للقلوب
صافياً كمياه الغدير،
يشيع الحرارة والدفيء في لمسات الرياح
يعامل ضيوفه على أنهم أصدقاء أثيرين
حتى وإن كانوا لأول مرة
لطيف الذاكرة.
يختار النصوص الشعرية التي تبعث في النفس شجن الغناء والعزاء،
راقي الفؤاد.
لا يتعاطى في الشأن العام ولا يسمح به .
في محبة من يعف عن لمس النتوءات الواخزة،
لكم كنت أرغب في الوصول إليه
وآن يحيط به سقف روحي،
انشغل بالحب وشغل الناس به
عرف عنه البساطة وعزة النفس،
خجول
لا يتكلم إلا نادراً ،
لا يحب أن يعرف الكثير عن زائريه،
قريب من كل الناس،
أسهم في إعادة صياغة الذائقة اليمنية.
أثبت قدرةً على فهم الروحية اليمنية .
امتلك ميزة أداء الغناء بشكل سلس غير مصطنع.
دمج بقدرة بين أسلوب الغناء شبه الأوبر الي.
صوت الرأس.
وأسلوب الغناء الشرقي. صوت الصدر. فيأتي غناؤه تراجيدياً في كلا الأسلوبين.
وقلة هم الفنانين الذين تمكنوا من التصويت بهذه الطريقة السلسة وفي شكل متساو لكل الدرجات في الأداء والجودة فينثني صوته في تصاعده، أو في هبوطه مثل حرير أصيل ومثل ذهب رنان يصدح بتدفق وحيوية وعذوبة.
ولد الفنان أيوب طارش العبسي عام 1944م في عزلة الأعبوس م/تعز ودرس في عدن وتحصل على الشهادة العلمية من المعهد الإسلامي العلمي بعدن
في البداية أخذه والده طارش بن نائف العبسي إلى عدن وهو في سن الحادية عشرة تقريباً، حيث كان الوالد يعمل هناك معلم بناء مع الإنجليز.
ودفع به إلى مدرسة البيحاني التي أسسها الفقيه العالم محمد سالم البيحاني الله يرحمه،
كانت رغبة الوالد في زحمة فقهيات خمسينات القرن المنصرم›
أن يكون ولده أيوب فقيهاً أو عالماً شرعياً أو من هذا القبيل وكان أستاذه ومعلمه البيحاني.
الذي اكتشف موهبته وتفرد صوته عن بقية الطلاب.
يريد أن يكون الفتى شيخاً مقرئا، وصار فيما بعد ينادي عليه عند بداية كل يوم دراسي:
(يا شيخ أيوب قم اقرأ)، وإذا بالأقدار تمضي به في اتجاه مغاير لرغبة الوالد ومراد الأستاذ..
لقد كان ثم علاقة فريدة جمعت بين الشاعر الفضول والفنان أيوب على أرض الموسيقى المحايدة تدفقات عواطفهم المختلفة في صور متطابقة كونها قدمت لنا الحياة ذاتها، وصورت الإنسان كما هو في عالم المشاعر التي لا يمكن لمسها أو التعبير عنها بلغة الكلمات..
ومن جانبه يرى الدكتور فيصل سعيد فارع أن الأعمال الفنية المشتركة للمبدعين أيوب والفضول. إنما كانت ثمرة انسياب وتوافق بين وجدانين خلاقين استدعت ضرورات الاتساق بينهما إلى شكل لحني غنائي برر وجودهما معاً…
لقد وجد الفضول في صوت أيوب طارش ضالته المنشودة، كما وجد المتنبي ضالته في سيف الدولة الحمداني.
وخصه بعد ذلك بمجموعة ممتازة من أشعاره.
والفنان أيوب من جانبه، فقد أوفى وفاءً حسناّ للفضول حين أخرج هذه القصائد إلى الوجود لحناً وغناّء على الشكل الذي ارتضاه الفضول.
وهو بلا شك وفاء على ما كان بين المبدعين من بعد وما كان من تقدير وأستاذية وإبداع مشترك، وشاءت الأقدار أن يلتقي الفضول بأيوب طارش لأول مرة.
كان في أواخر ستينات القرن المنصرم عندما علم بمجيئ الفنان أيوب من عدن ولاقاه الى جولة فندق الأخوة وجلسوا في بوفية يتبادلون حول الغناء والفن› وأعطى أيوب بعض النصوص الغنائية في البداية من ضمنها الأغنية الذائعة ( مدارب السيل) كما أظن وبالتالي عمل أيوب لها ألحاناً وجاء يسمعه للفضول ‹ فإذا به يندهش بل افتتن أيما افتتان بصوت أيوب وعزفه وحذقه في صياغة الألحان، وأكتشف إمكاناته وقدراته الهائلة ورقي موهبته وأيقن انه وجد أخيرا ضالته حيث الخامة التي تمكنه من إبراز قدراته الفنية وتنفيذ أفكاره التي يتطلع أن يحملها الصوت الخصب إلى كل مكان _
كان يشجع أيوب – أيوه أنا فدا لك. أيوه أنا فدا لك. حتى كاد الدمع ينهمر من عينيه فرحاً وغبطة واندهاشاً كأنما عاصفة من المسك تهب على سمعه وتشعل وجدانه. وصوت أيوب يتلألئ كلما صدح عالياً، ويرن بقوة وينطلق بشحنات نغمية صحيحة وانحناءات وإنشاءات دافئة شجية رقيقة حنون سواء في علوها وبلوغها اعلى الدرجات في السلم أو في هبوطها إلى القرار أو في تقافزها فهو في كل المحطات والدرجات- على حد وصف الناقدة العراقية سحر طه.
يتمتع بمستوى وأداء واحد ممتاز ‹ لا ينقلب ولا يتذبذب يسبغ الألحان جميعها بمسحة درامية تراجيدية رقراقة تبعث الرهبة والطرب. فتصيب الوجدان بسهم نافذ كما يصيب سهم كيوبيد قلب المحب العاشق فينال منه مقتلاً.
فإذا بشاعرية الفضول تلين وتستكين بل وتنهار إلى جانب هذا الصوت الباذخ وتصير مرعىً له بحيث صارت لحظة الشاعر تكمل لحظة الفنان، ولحظة الفنان تكمل لحظة الشاعر .
ومن هذا التكامل انطلقت من تعز مدرسةً فنيةً رائدةً حملت عطر اليمن وأريجه وروائح زهوره ومروجه وروعة سهوله وجباله وألوانه إلى حيث استطاع صوت أيوب طارش أن يصل ويستقر.
٢١/٤/٢٠٢٢ م

قد يعجبك ايضا