الحكمة المزيفة.. بين تعطيل الإرادة وشرعنة الاستسلام

د. سامي عطا

 

لم تكن تسريبات مكالمات علي صالح الأخيرة مفاجئة بالنسبة لي، فنظامه لا يختلف كثيراً عن العديد من أنظمة المنطقة التي تعاملت مع القضية الفلسطينية بوجهين : وجه ظاهري للاستهلاك الشعبي ولكي يحافظ الحكام على صورة الفارس الزعيم المغوار، وهناك وجه باطني تعامل فيه الحكام مع القضية الفلسطينية كورقة مساومات أو كأسهم بنكية في بورصة المزايدات، كان أشرفهم ـ مع أنه لا شرف في هذا التعامل ـ يوظفها باسم مصلحة وطنه وشعبه، وعلي صالح ليس من هذا النوع مطلقاً، حيث درج على توظيف كل شيء لمصالحه الشخصية، وفي إحدى مقابلات رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها السابق قالها بوضوح ” علي صالح قبض ” والحديث كان يدور حول شراء موقف اليمن الرسمي تم طرحه في إحدى القمم العربية.
لكن ما أريد طرحه هنا، هو خطورة مكالمته مع خالد مشعل والتي سمعناها تتردد كثيراً منذُ عامين، وكثير من النخب سواء السياسية أو الثقافية رددت هذه الخطاب الإنهزامي، وعليه سأحاول تفكيكه.
إشكالية الخطاب النخبوي
في كثير من الصراعات بين المستضعفين والظالمين عبر التاريخ تشهد ظاهرة سجلات فكرية متكررة، حيث تنتج بعض النخب (سواءً السياسية أو الثقافية) خطاباً يُلبس ثوب ” الحكمة ” و” الواقعية “، داعياً المظلومين والمستضعفين إلى كبح جماح مقاومتهم، بحجة الفارق الهائل في موازين القوة مع الظالم.
وهذا الطرح، وإن بدا ظاهرياً نابعاً من حرص على دماء الناس ومصالحهم، فإنه يحمل في أحشائه بذور التثبيط والتطويع، ويمنح – عن قصد وعن غير قصد أحياناً – شرعيةً مستمرة للطغيان.
ومن أجل تفكيك المقولة وتعرية الخلفيات سوف ننظر لها من ثلاث زوايا شرعية وهي كالآتي:
أولاً: التمييز بين الحكمة والاستسلام في الميزان القرآني:
ـ القرآن الكريم لم يلغِ مبدأ المواجهة ورفع الظلم بحجة ” الحكمة “، بل رسم لها إطاراً شاملاً يجمع بين العقلانية والتخطيط والشجاعة.
ـ آية التمكين والاستطاعة: يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]. لاحظ أن الأمر جاء مطلقاً (مَا اسْتَطَعْتُم)، دون تحديد سقف أو حدود، مما يفتح الباب أمام كل أشكال القوة المادية والمعنوية، والعلمية والاقتصادية والإعلامية، التي يستطيع المستضعفون تجميعها. الخطاب النخبوي الذي يحصر ” الحكمة ” في القعود يناقض هذا التوجيه القرآني الصريح الداعي إلى الفعل والتأهب.
ـ الحكمة الحقيقية في القرآن: ليست الحكمة في القرآن مرادفة للسلبية، بل هي ضبط للرد بالعدل والموازنة، واختيار الوقت والوسيلة المناسبين. يقول تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]. فالحكمة هنا أسلوب في الدعوة والفعل، وليس تعطيلاً له. وحتى في حالة الضعف، يأمر القرآن بالصبر والمقاومة المعنوية والهجرة إن لزم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97]. فلم يقبل عذر الاستضعاف كسبب للاستسلام للظلم دون محاولة تغيير، بل قدم الهجرة كخيار عملي.
ثانياً: الأمثلة التاريخية والنبوية: دروس في الجمع بين الحكمة والعزم
ـ صلح الحديبية: يضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع مثال على الجمع بين الحكمة السياسية والثبات على المبدأ. فبالرغم من شروط الصلح التي بدت مجحفة للمسلمين، إلا أنها لم تكن استسلاماً، بل كانت ” هدنة ” تكتيكية ذكية استُغلت في بناء القوة والدعوة، وكانت مقدمة للفتح الأعظم. الحكمة هنا كانت في التوقيت واختيار أرض المعركة، وليس في التنازل عن الحق الأصيل.
ـ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم: لم يقل النبي لقريش: ” الحكمة تقتضي أن أبقى تحت ظلمكم “. بل خطط واختار الوسيلة والوقت المناسبين للهجرة، حاملاً معه مشروعاً جديداً سيقوض الظلم من أساسه لاحقاً.
ثالثاً: خدمة الخطاب للطغاة – وهم ” الواقعية ”
ويكمن خطر هذا الخطاب النخبوي في أنه:
1ـ  يُطبع مع الظلم: بتحويل مقاومته من ” واجب ” إلى ” تهور ” أو ” عدم إدراك للواقع “.
2 ـ يُعطي الظالم مبرراً: فيستطيع الظالم أن يردد: ” حتى نخبتكم ترى أن مقاومتي مجنونة “.
3 ـ يقتل الأمل: الأمل ليس شعوراً عاطفياً فحسب، بل هو المحرك الأساسي لأي عملية تغيير. خطاب ” الحكمة المزيفة ” يصب الماء البارد على جذوة هذا الأمل.
4 ـ يُهمش دور الإرادة: تاريخياً، لم تنتصر القوى العادلة دائماً لأنها الأقوى مادياً، بل لأنها امتلكت الإرادة الأقوى والإيمان الأعمق. معركة بدر خير شاهد.
نحو حكمة فاعلة لا مُعطلة
وأخيراً لا يمكن إنكار أهمية الحكمة والتعقل في إدارة الصراع. لكن الحكمة الحقيقية هي التي توازن بين تقييم المخاطر والسعي الجاد للتغلب عليها، بين الصبر الاستراتيجي والتخطيط الفاعل. هي التي تدفع المظلومين إلى بناء قوتهم بشتى السبل المتاحة، لا إلى انتظار هدنة من الظالم أو رحمته. القرآن رسم الطريق: الاستعداد بالحد الأقصى لما تستطيعون، وعدم الاستسلام للواقع المرير، واختيار الوسائل المناسبة بحكمة. أي خطاب يخرج عن هذا الإطار، ويدعو للقبول بالظلم باسم ” الحكمة ” أو ” الواقعية “، فهو – بوعي أو بدون وعي – يتحول إلى جزء من آلة الظلم نفسها، ويسرق من المستضعفين آخر ما يملكون: الأمل بإمكانية التغيير، والإيمان بأن الله ناصر من ينصر الحق.

قد يعجبك ايضا