خليل المعلمي
قالت المخرجة الفلسطينية “ان ماري جاسر” إن رحلتها مع فيلمها الجديد فلسطين 36 لم تكن مجرد مغامرة سينمائية، بل كانت أقرب إلى مقاومة طويلة النفس، حملت خلالها عبء الذاكرة ومرارة الحاضر.
الفيلم الذي تم عرضه الأول ضمن عروض الجالا في مهرجان “تورونتو السينمائي” في كندا: هو دراما تاريخية تستحضر لحظة مفصلية من تاريخ فلسطين، وتضيء على مرحلة الانتداب البريطاني من خلال قصة إنسانية كثيفة المشاعر والتفاصيل ورشحته فلسطين مؤخراً لتمثيلها في مسابقة “الأوسكار”.
أوضحت “جاسر” أن العمل على الفيلم استغرق ثماني سنوات بدأت خلالها بالكتابة والبحث، مستعينة بخيط رفيع من الذكريات، ومحاولة التعمق في سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1936م، مشيرة إلى أن السنوات الأولى خصصت للتأمل وتكوين صورة داخلية عن ذلك الزمن، بينما استغرق التحضير العملي نحو عشرة أشهر متواصلة، شملت بناء مواقع التصوير، وتصميم الأزياء، وتجهيز المشاهد التفصيلية، قبل أن تقف الحرب في وجه المشروع. وكشفت المخرجة أن الاستعدادات كانت توشك على الاكتمال حين اندلعت الحرب فتوقف كل شيء فجأة، تتذكر هذه اللحظات قائلة: “بدا وكأن الريح أطاحت جهد السنين في لحظة واحدة، ثم عاد المشروع ليستأنف بعد أشهر، قبل أن يتوقف مجدداً لأسباب أمنية ولوجستية، إلى أن أصبح الفيلم واقعاً بعد محطات طويلة من التوقف والاستئناف امتدت لعامين.
وأشارت إلى أن المواقع الأصلية التي خُططت لتصوير الفيلم فيها كانت كلها
داخل فلسطين، وقد تم اختيارها بدقة
كبيرة لتتناسب مع روح المرحلة، مضيفة: بنيت مواقع تصوير كاملة داخل القرى وتمت زراعة الأرض، وحيكت الملابس يدوياً لتواكب تفاصيل تلك الفترة، غير أن الظروف السياسية والعسكرية دفعت الفريق إلى استكمال التصوير في الأردن، ثم العودة مجدداً إلى فلسطين لتصوير المشاهد الختامية.
ورأت أن فقدان المكان الأصلي كان جرحاً يصعب التئامه سريعاً، لأن جزءاً من جوهر الفيلم يكمن في تفاعله مع الأرض الفلسطينية نفسها، لكنها في الوقت ذاته أكدت أن الغربة لم تضعف الروح، بل شدت من عزيمة الفريق ورفعت من حس التحدي.
وأشارت مخرجة الفيلم إلى أن اختيار طاقم الفيلم كان بمثابة تحد كبير، لكنها أصرت على أن يحمل المشروع روحاً عربية خالصة في التمثيل.
تشكل الطاقم من ممثلين من أنحاء مختلفة في العالم العربي، فإلى جانب “صالح بكري”، الذي تربطها به علاقة فنية طويلة، شارك في الفيلم “يافا بكري”، “وردة عيلبوني”، “ورد حلو”، و”كريم عناية داوود”، وبعضهم خاض تجربته الأولى أمام الكاميرا.
أما الفنان التونسي “ظافر العابدين” فتقول المخرجة الفلسطينية إنها اختارته لدور “أمير” لامتلاكه مزيجاً نادراً من الطيبة والجاذبية والبراءة، وهي الصفات التي كانت تبحث عنها في الشخصية مشيرة إلى أن تعدد اللهجات كان من أبرز التحديات، إلا أن العابدين تمكن من تجاوزها بمساعدة مدرب لهجات من القدس رافقه طوال فترة التحضير.
وفي قلب الفيلم، تتبع القصة خط يوسف الشاب الذي يتنقل بين منزله الريفي ومدينة القدس المتأججة باحثاً عن مخرج من واقع يزداد تعقيداً تحت الاحتلال البريطاني، يوسف ليس مجرد شخصية درامية بل يمثل حالة رمزية لجيل من الفلسطينيين الذين حلموا بوطن حر ومستقبل أفضل.
وتؤكد المخرجة الفلسطينية أن بناء شخصية “يوسف” تم بروح روائية قريبة من الشعر، وإن الفيلم حرص على أن يظهر هذا التناقض بين الحنين إلى حياة بسيطة والاصطدام بواقع سياسي متفجر.
من خلال هذه الشخصية، يطرح الفيلم أسئلة عن الهوية والانتماء والمعنى، في لحظة حاسمة من التاريخ.
وأكدت أن فيلم “فلسطين 36” لم يكن مجرد إنتاج سينمائي ضخم، بل مشروع حياتها، مشيرة إلى أن الفريق أعاد بناء قرية فلسطينية بالكامل من الصفر وصنع مركبات تعود لتلك الحقبة، واهتم بأدق تفاصيل الديكور والأزياء، التي حيكت يدوياً لتناسب روح الثلاثينيات، لافتة إلى أن العمل ضم أكثر من مائة ممثل بالإضافة إلى 300 فني خلف الكاميرا ما جعل تجربة الإنتاج واحدة من أصعب وأضخم التجارب التي خاضتها على الإطلاق.
وكشفت المخرجة الفلسطينية أن الصعوبات لم تكن لوجستية أو فنية فقط، بل كانت نفسية وإنسانية أيضاً، مشيرة إلى أن صنع فيلم بهذا الحجم في ظل ما وصفته بـ “الإبادة الجماعية التي تطول الفلسطينيين”، كان أمراً بالغ القسوة، فلم تكن تتوقع أن تضطر إلى استكمال مشروعها بينما وطنها يقصف، وحياتها مهددة، والذاكرة تسحق يوماً بعد يوم.
وقالت: إن الألم رافقها في كل لحظة من التحضيرات حتى المونتاج، ومع ذلك، كان الفيلم بالنسبة لها شكلاً من أشكال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وشهادة بصرية على زمن لا ينبغي أن ينسى معربة عن انطلاق الفيلم من مهرجان تورونتو السينمائي، ورأت أن عرض الفيلم في قسم “الجالا” يُعد تتويجاً لرحلة شاقة، وفرصة لإيصال الصوت الفلسطيني إلى جمهور عالمي متنوع ورغم الترحيب العالمي، شددت على أن الظروف السياسية لم تكن يوماً عاملاً مساعداً في عرض الرواية الفلسطينية، مؤكدة أن هناك جدراناً من العزلة والممانعة تقام باستمرار لإسكات أي سردية فلسطينية حقيقية، خصوصاً إذا خرجت من قلب الأرض المحتلة.
