قرى مهجورة وجسور مفصولة عن بعضها وأسواق خالية ومنازل تبحث عن أهلها
نِـــهْـــم خلال أربع سنوات.. حصاد الدمار
في الطريق إلى مفرق الجوف، ثمة قرى سكنية لا تزال تلفها مآسي القصف الذي استمر على مديرية نهم خلال الخمس سنوات الماضية بين قتل وإرهاب للسكان وتدمير كلي وجزئي للمنازل والأسواق والمزارع والآبار الارتوازية، كانت تبعثر أسلحة تحالف العدوان مخلّفات وأضرار قذائفها الهستيرية، تاركة ذكريات أيام سوداء لا تمحوها الأيام والسنين.
الثورة / عبد القادر عثمان
بالوصول إلى سوق خلقة احتشد الناس حولنا من كافة الاتجاهات. كل واحد منهم يطلبنا ليحدثنا عن القرية والسوق الذي تعرض للقصف من قبل طائرات تحالف العدوان، خلال السنوات الماضية. بشير مرشد، شقيق أحد ضحايا السوق الذي استهدف بغارتين في العام 2016، يقول في حديث لـ”الثورة”: “كان أخي يبيع القات في السوق إلى جانب ابن خالتي، وكان يعيل أسرة من ثمانية أشخاص، يعيشون اليوم ظروفاً صعبة”. فيما يقول مختار سعيد، من أبناء محافظة إب، إنه أصيب وهو يعمل في المقصف (البوفية)، بينما فقد اثنان من زملائه حياتهما نتيجة استهداف السوق.
سوق خلقة
يؤكد مسؤول السوق، جعفر الجرادي، أن حصيلة الضحايا بلغت 37 قتيلاً ونحو 30 جريحاً بينهم 10 أطفال، أغلبهم من خارج المنطقة”، ويضيف في حديث لـ “الثورة”، أن “الطيران اختار وقت الظهيرة لتنفيذ جريمته؛ ليخرج بأكبر عدد من الضحايا”.
بحسب الجرادي فإن “الطيران شنّ على القرية أكثر من 100غارة خلال الأربع سنوات الأخيرة من الحرب، حصدت أرواح 56 مواطنا وجرحت أكثر من 100 من المدنيين والمزارعين، واستهدفت إلى جانب السوق المركزي، ثلاث مضخات ارتوازية ومسجدين”، بينما ظلت “مدفعية المرتزقة وصواريخ الكاتيوشا تمطر القرية حتى آخر يوم لهم في المنارة وجبل القتب، ما أسفر عن تدمير 20 منزلا ً”، حدّ قوله.
إحدى تلك المنازل يملكها المواطن طه الجرادي، الذي اضطره التصعيد في يناير 2016 إلى مغادرة القرية نحو صنعاء، يقول لـ “الثورة”: “تعرض منزلي للقصف بثلاث غارات دمرته دون أي أضرار بشرية لأننا كنا قد نزحنا”، ويضيف: “لم يتركوا لنا شيئا لم يستهدفوه”.
بني زتر
على الطريق الرابط بين خلقة وفرضة نهم يقع سوق بني زتر بالقرب من قرية المديد، تليه قرية البطنة ومن ثم مسورة. في السوق توقفت بنا سيارة رئيس التحرير للقاء بعض السكان الذين استطاعوا العودة إليها بعد ابتعاد المعارك عنها. تمكّنت، لحظة انشغال رفاق الرحلة، من الذهاب إلى صندقة صغيرة (محل من الزنج) لشرب كأس من الشاي دفعت مقابله كل ما أمتلك من النقود. لم يكن مذاق الشاي كما يجب، غير أنني استطعت الحصول على مصدر آخر من خارج المنطقة، عندما لفت جهاز التسجيل الذي أحمله في يدي انتباه أمين علهان، صاحب المقصف، ليبوح – بعد أن عرف أنني صحافي – بكل ما احتفظت به ذاكرته من أحداث الأربع السنوات من الدمار.
يقول علهان: إن “المنطقة قصفت طيلة السنوات الماضية بشكل متقطع، حيث تعرض السوق لثلاث غارات أسفرت عن تدمير محطة للوقود وستة محلات تجارية بينها محل للمواد الغذائية يضم بداخله بضاعـــــة يزيـــد سعـــــرها عن 40 مليون ريال (67 ألف دولار) أحرق بالكامل”، ويضيف لـ “الثورة”: قتلت الغارات 18 مواطناً في السوق وجرحت ثلاثة آخرين، فيما بلغ عدد ضحايا سكان القرية أكثر من 60 مواطناً كما دمرت أكثر من 10 منازل تعرضت للقصف الجوي المباشر”.
نزوح جماعي
بالقرب من مدرسة الفلاح التي كانت شاهدة على جريمة طائرات تحالف العدوان بحق الطفلة إشراق المعافا، كان عبد الله النهمي، من بني معصار، وهو صاحب بقالة صغيرة (متجر لبيع المواد الغذائية بالتجزئة)، ينتظر على بوابة المحل دون حراك، لكأنه يائس من بيع بضاعته. يقول في حديث لـ”الثورة” إنه بقي في السوق مع عدد قليل من الشباب بعد أن نزحت القرية بالكامل، تحت تهديد الغارات. كان عبد الله يبيع بضاعته فقط للجيش واللجان الشعبية، الذين يمرون إلى الجبهة عن طريق السوق. يضيف قائلاً: “عشنا في قلق متواصل. الطائرات تقصف المنازل والمحلات التجارية، وقذائف الكاتيوشا تتساقط بشكل عشوائي”.
بالنسبة للنهمي، فإن الحياة خلال ما مضى قاسية، خاصة مع انقطاع الكهرباء والاتصالات نتيجة استهداف التحالف لشبكاتها الهاتف في المنطقة منذ بدء الحرب على اليمن في 26 مارس 2015، يضيف قائلاً: “كنا نتواصل مع أهلنا النازحين في صنعاء عن طريق الرسائل مع المجاهدين”.
مسورة نهم
في الطريق إلى هناك كان الحاج عبد الله السلطان، عائداً نحو قريته مسورة، بعد أن وصلته أخبار تحرير نهم بالكامل وتأمين القرية من تساقط قذائف المرتزقة عليها، يقول سلطان في حديث لـ “الثورة”: “عانينا مما عاناه أبناء نهم من العدوان الأمريكي الصهيوني والسعودي”، مضيفاً أن مسورة مأساة نهم الكبرى، حيث دمّر فيها نحو 50 منزلاً، وتلقت مئات الغارات الجوية وقذائف الكاتيوشا”. ويردف بحرقة وصوت عالٍ: “لا بيت في مسورة إلا وبكى، أنا استشهدت بنتي وابن أخي، وهناك الكثير غيرهما استشهدوا بنيران العدوان”.
في مسورة استهدفت طائرات التحالف وصواريخ مرتزقته المساجد والمدرسة والمواشي والمحلات التجارية وسيارات المواطنين وانتهى سوق المنطقة، ما دفع أهالي القرية إلى مغادرتها.
بالعدسة
وثقت عدسة “الثورة” الدمار الذي تركته الطائرات والقذائف على امتداد الطريق. عربات نقل بمختلف الأحجام محروقة أو تالفة، محطات لم يتبق سوى الأثر، ومحلات تجارية مدمرة. جسور مفصولة عن بعضها وأسواق تشكو إلى الله خلوها من الحياة، ومنازل تبحث عن أهلها الذين غادروها نازحين ومنهم من غادرها إلى الآخرة. مطاعم لم نتعرف عليها إلا من خلال الرسوم الغرافيتية التي تزين ما تبقى من جدرانها، ومدارس لا تزال تحتفظ بآثار القصف، إلى جانب طريق تتوزع على جانبيه بقايا سيارات المواطنين التي أحالتها الغارات الجوية إلى خردة.
في البطنة حيث التقينا المواطن عبد الله في سوق محطة القشعة، كانت المحطة غير موجودة هي والمنازل المحيطة بها. هنا أيضا يتوقف لقاؤنا بالسكان الذين لا أثر لهم في القرى التي مررنا بها لاحقاً، لكن المرافقين لنا في الرحلة: شايف النعيمي وكهلان السدح، وهما من أبناء نهم، تحدثا إلينا عن ما تبقى من القرى القريبة من الخط المؤدي إلى مفرق الجوف في مديرية مجزر، حيث استهدف الطيران كبرى المدارج والسيارات التي قطع تدمير الجسر طريق عبورها، كما يقول النعيمي.
تدمير كلي
بحسب ما تحتفظ به ذاكرتي من حديث كهلان، فإن المواجهات عند وصولها منطقة برّان استهدف التحالف كافة قراها على الرغم من وجود بعض العناصر المؤيدة له، حيث أدى القصف إلى تدميرها بشكل كلي، كما طال القصف منازل المبدعة في بيت أبو حاتم وبني بارق ومنازل بيت ربيد وآل علهان وآل حيدان والسنجري والنشف والحول التي دمرت كافة منازلها.
على الطريق المؤدي إلى وادي ملح أيضا، “استهدف تحالف العدوان قرى: بيت السيد وشيحان والنخلة في النعيمات والحجيرة والمدفون والجيف وغيرها، وتعرضت قرى الوادي، التي كانت قد سقطت بيد المرتزقة، للنهب والتدمير وتعرض أهلها للتهجير”، حد قول النعيمي، وكما أشارت “الثورة” إلى ذلك في قصة خاصة عن الوادي، نشرت الأسبوع الماضي.
عودة الحياة
اليوم وبعد أربع سنوات من الدمار، تعود الحياة تدريجيا إلى مديرية نهم بعد طرد المرتزقة منها إلى مناطق بعيدة في مارب والجوف؛ إذ يعبر الأهالي عن استبشارهم بنتيجة عملية البنيان المرصوص العسكرية، وما أتاحه لهم الهدوء الذي عاد إلى قراهم خلال الأسابيع الماضية من مساحة للحلم بعودة الحياة من جديد.
تصوير/ فؤاد الحرازي