المفاوضات أعطت لبريطانيا فرصة المساومة والمناورة من أجل الانسحاب السهل والمريح لقواتها العسكرية


> استبعدت حكومة بريطانيا جبهة التحرير aمن المفاوضات نكاية بجمال عبدالناصر

> كان الاستعمار حريصاٍ على بقاء التجزئة بين الشطرين عندما سارعت لندن للاعتراف بالدولة الجديدة في جنوب الوطن بالمحافل الدولية

لا شك بأن مفاوضات الجبهة القومية مع حكومة الاستعمار البريطاني هي صورة من صور الكفاح المسلح والنضال الوطني ضد الاحتلال الذي ظل جاثماٍ على جنوب اليمن لمدة قرن ونيف خاصة وقد تخلل تلك المفاوضات سلبيات وايجابيات إلا أن أهم ما فيها هو إنهاء الوصاية البريطانية التي حاولت حكومة لندن التمسك بها من خلال مفاوضات الاستقلال مع الجبهة القومية فكان الـ30 من نوفمبر 1967م يوم الجلاء النهائي لقوات المستعمر البغيض والذي انتهى وإلى غير رجعة لتدخل بعده اليمن مرحلة جديدة.
وقد حاولنا قراءة محاضر اجتماعات الجبهة القومية مع حكومة بريطانيا قبل الاستقلال وهي قراءة مرتبطة بتاريخ اليمن شماله وجنوبه لأن اليمن أرض المهد لعروبة الانتشار الأول لذلك فإن الهدف من قراءة تلك المحاضر استنباط الدروس والعبر والاستفادة منها.
قبل الحديث عن قراءة محاضر الاجتماعات بين وفد الجبهة القومية والحكومة البريطانية الخاصة بالمفاوضات الثنائية التي جرت قبل الثلاثين من نوفمبر 1967م لا بد من التنويه إلى أن أي قراءة موضوعية لأحداث التاريخ الوطني توجب توخي الدقة والعقلانية السياسية والتجرد من العاطفة لأن التاريخ جملة حقائق لا تقبل التجزئة أو التفكيك كون ذلك التاريخ سجلاٍ للشعوب.
على اعتبار أن وقائعه ليست دوائر مغلقة تخضع للنشوة العاطفية بدليل أن تاريخ اليمن قديمه وجديده ماضيه وحاضره جزء لا يتجزأ من التاريخ العربي المعاصر لأن اليمن أرض المهد لعروبة الانتشار الأول قبل الفتح الإسلامي وبعده وإن كنا لا نختلف في ظاهر المعنى والدلالة بأن 30 نوفمبر من عام 1967م ذكرى الاستقلال الوطني وخروج اليمن من جحيم الاستعمار البريطاني لكن عندما نقرأ الظروف السياسية المحيطة بتلك الذكرى التاريخية وفقاٍ لحقائق التاريخ بعيداٍ عن المجازفة وإصدار الأحكام العاطفية فإننا سنجد عند قراءة تلك المحاضر أن 30 نوفمبر بقدر ما كان ذكرى تاريخية للاستقلال الوطني فإنه شكل في مدخلاته ومخرجاته إحدى أهم عقدة الصراع الاقليمي والدولي في اليمن.
ولما كان التاريخ الوطني لليمن شماله وجنوبه مرتبطاٍ ارتباطاٍ وثيقاٍ بالتاريخ القومي للأمة العربية بانتصاراتها وهزائمها فإن إحدى أهم الأسباب التي أدت إلى نكسة 5 حزيران يونيو 1967م تمثلت بالضغط على جمال عبدالناصر لسحب القوات المصرية من شمال الوطن والتي جاءت بناءٍ على طلب مسبق من أعضاء مجلس قيادة ثورة 26 سبتمبر دعماٍ للثورة اليمنية.
حيث أدت تذمر القوى الامبريالية من دعم ثورة 23 يوليو إلى نكسة 1967م وما نتج عنها من تطورات كانت معظم وقائعها سلبية بالتاكيد خاصة وان النكسة مثلت طعنة غادرة للنضال القومي لثورة 23 يوليو وكانت بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الزعيم جمال عبدالناصر ودعا فيها بريطانيا إلى أن تحمل عصاها وترحل عن جنوب الوطن.
كانت تلك الدعوة وسط الدعم والمؤازرة القوية من قبل مصر لثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر المجيدتين بدليل أنه بعد مضي خمسة أشهر من نكسة حزيران 1967م ثم الإطاحة في 5 نوفمبر من نفس العام بنظام المشير السلال حليف جمال عبدالناصر وجرى تغيير النظام الأول الذي قام بثورة 26 سبتمبر 1962م واستبداله بحركة 5 نوفمبر 1967م التي اعترفت في اليوم الثاني 6 نوفمبر بالجبهة القومية الممثل الشرعي والوحيد للمحافظات الجنوبية.
كان ذلك بعد انتصار ثورة 14 اكتوبر 1963م بأربع سنوات وفي 7 نوفمبر 1967م بعد يوم من اعتراف صنعاء بالجبهة القومية بعدن قام سيف الضالعي عضو القيادة العامة للجبهة القومية بإبلاغ وزير الخارجية البريطاني عن طريق المندوب السامي في عدن أن الجبهة القومية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب تتولى السلطة الفعلية في الجنوب وأنها قامت بتشكيل وفد عهدت إليه بمهمة التفاوض مع بريطانيا ونقل السلطة السياسية إليها وتم الاتفاق على أن تجري المفاوضات في العاصمة السويسرية جنيف.
وقد كان الإعلان السابق قد تضمن اشراك جبهة التحرير مع الجبهة القومية في المفاوضات غير أن بريطانيا بحسب معلومات بهذا الشأن طلبت من الجبهة القومية استبعاد جبهة التحرير وتضمين أنها أي الجبهة القومية الممثل الشرعي والوحيد للسلطة في الجنوب.
وقد استمرت جلسات المفاوضات بين الجبهة القومية والحكومة البريطانية ثمانية أيام متواصلة بدأت من 21 وحتى 28 نوفمبر 1967م وفي 29 من نفس الشهر توصل الطرفان إلى اتفاق ترتب عليه إعلان قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية المستقلة بتأريخ 30 نوفمبر 1967م.
وبما أن ثورة 14 اكتوبر عام 1963م كانت قد احرزت انتصارا كبيرا ضد الاستعمار البريطاني وافقدته الأمل في عملية استمرار احتلاله للشطر الجنوبي من الوطن فإن الثلاثين من نوفمبر بقدر ما شكل ثمرة نضال وكفاح الشعب اليمني من أجل الحصول على الاستقلال الوطني فان بريطانيا قد استفادت من المفاوضات التي أثارت تساؤلات عدة حول مشروعيتها بعد نجاح ثورة 14 أكتوبر المجيدة وكان من جوانب الاستفادة تحقيق انسحاب سهل ومريح لقواتها بعد احتلال دام لأكثر من قرن.
واستطاع الشعب اليمني بعد انتصار ثورة الرابع عشر من اكتوبر أن يفرض استقلالا وطنيا بالقوة لأن الشروط الموضوعية والذاتية لنجاح الثورة كانت قد اكتملت بشكل واضح بديلا من اللجؤ إلى المفاوضات مع الحكومة البريطانية وإن كانت المفاوضات قد أسفرت عن تحقيق اتفاقية الجلاء النهائي للقوات البريطانية من اليمن فإنها اسفرت بالمقابل من ذلك عن تبادل السفراء بين الجانبين وتبني بريطانيا دعم الاعتراف الدولي بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مما أخر استعادة الشعب اليمني لوحدته الوطنية وما حدث من صراعات مختلفة بين الشطرين منذ 30 نوفمبر 1967م وحتى مرحلة استعادة شعبنا اليمني لوحدته المباركة في الـ22 من مايو 1990م.
وكان بالإمكان أن تتوحد اليمن عقب ثورتي 26 سبتمبر و14 اكتوبر المجيدتين إلا أن جملة من التساؤلات ينبغي طرحها في ظل احتفال الشعب اليمني بالذكرى التاريخية للثلاثين من نوفمبر 1967م دونما تقليل أو انتقاص من ذلك الحدث لأهميته في مسار التاريخ الوطني المعاصر لليمن والدور الريادي الذي اضطلع به الـ30 من نوفمبر كمحطة سياسية أنهت الوجود الاستعماري البريطاني في اليمن.
لكن ذلك بالتأكيد يوجب ضرورة استقراء التاريخ واستخلاص العظات والعبر من ذلك الماضي بكل سلبياته وإيجابياته وهو ما يتوجب كما أشرنا طرح جملة من الاستفسارات أبرزها كيف تزامن انسحاب بريطانيا في 30 نوفمبر 1967م من عدن وانسحاب القوات المصرية في التاريخ نفسه من صنعاء وكيف يمكن تفسير استبعاد جبهة التحرير من مفاوضات الاستقلال مع الحكومة البريطانية مع أن تلك الجبهة شريك حقيقي وفاعل مع الجبهة القومية في النضال الوطني المسلح ضد الاستعمار البريطاني وكيف يمكن فهم معنى كلام اللورد (شاكلتون) أثناء جلسة المفاوضات الأولى عندما قال بالحرف الواحد أن لدى بريطانيا سبباٍ قوياٍ في التأكد من كفاءة الجبهة القومية وإن كان ذلك قد جاء في معرض رده على كلام قحطان الشعبي أثناء جلسة المفاوضات الأولى بأن أعضاء وفده ليسوا مفاوضين مهرة.
لكن كلام ذلك اللورد في ما معناه يوحي بأن بريطانيا استبعدت جبهة التحرير من مفاوضات الاستقلال خاصة والحكومة البريطانية لم تلتزم بكل نتائج مفاوضات الاستقلال ففي ما يتعلق بالمساعدات المالية ودفع التعويضات العادلة لجمهورية اليمن الديمقراطية بعد الإعلان عن وجودها الرسمي لم تنفذ بريطانيا تلك الالتزامات وإنما كانت تحرص منذ الوهلة الأولى في جلسات المفاوضات على أهمية العلاقات بين عدن ولندن وعلى أن لا يكون هناك قطيعة وأن يتم تبادل السفراء وأن تدعم بريطانيا الكيان السياسي اليمني في الأمم المتحدة ليحظى بالاعتراف الدولي.
طبعاٍ كان لذلك أبعاد سياسية بدرجة أساسية راعت كما أشرنا تأخير استعادة الشعب اليمني لوحدته الوطنية علماٍ بأن الوفدين البريطاني واليمني أثناء مباحثات الاستقلال ناقشا انتقال السلطة وفقاٍ لنص ما تم الاتفاق عليه بانتهاء حماية صاحبة الجلالة المملكة المتحدة البريطانية على المنطقة التي ستعرف بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية واتفقا على أن كافة السلطات والحقوق التي كان يتمتع بها التاج قبل الاستقلال ستقلد إلى الدولة الجديدة اعتبارا من 30 نوفمبر 1967م تاريخ استقلالها.
واتفق الوفدان على إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين وتبادل السفراء واتفقا أيضاٍ على أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ستضمن سلامة أفراد الجالية الأجنبية في إشارة ضمنية تسهيل خروج القوات البريطانية دون مهاجمتها على أن تسلم بعض المعدات العسكرية للدولة الجديدة. بالمقابل من ذلك بحث الوفدان أثناء المفاوضات المواضيع الهامة للجانبين بما فيه موضوع المساعدات المالية البريطانية التي نص الاتفاق على استمرارها لمواجهة متطلبات المؤسسات المدنية والعسكرية كما نص الاتفاق على تطوير البلد وتسليح قوات الدفاع.
أي أن بريطانيا كانت حريصة على إبقاء الاحتلال الدبلوماسي الناعم لليمن بعد إعلان الاستقلال وهو ما يتضح جليا من خلال بنود ذلك الاتفاق المشار إليه بين الجبهة القومية مع الحكومة البريطانية أثناء مفاوضات الاستقلال.
حيث تخلفت عن دفع التعويضات بحسب ما كانت قد التزمت بذلك وكان بالإمكان تهديد قواتها قبل الانسحاب السلمي كشرط للوفاء بالتزاماتها المالية إلا أن ذلك لم يتحقق خاصة وقد دامت فترة طويلة من الزمن تجني ثمر الاحتلال من المحافظات الجنوبية وتستثمر ميناء عدن بيد أن المفاوضات وإن كانت قد راعت هذا الجانب لكن لم يحصل التزام من جانب بريطانيا.
فقد كانت حريصة وفقاٍ على ما نص عليه اتفاق التفاوض على دعم توجه الدولة الجديدة في المحافظات الجنوبية لكي تحظى بالاعتراف. وهذا الشيء بقدر ما في ظاهره أنه جانب إيجابي إلا أنه الحق إضراراٍ بالوحدة اليمنية وكأن بريطانيا كانت منذ البداية حريصة على بقاء التجزئة بالنظر بالتسريع في الاعتراف الدولي بالدولة الجديدة التي نشأت في الشطر الجنوبي من الوطن سابقاٍ.
خاصة وقيام ثورة 14 أكتوبر المباركة كما أوضحنا كانت قد وفرت الشروط الموضوعية لتحقيق الجلاء النهائي من القوات البريطانية غير أن مفاوضات الاستقلال اعطت لبريطانيا فرصة المساومة والمناورة وكأن ما حدث كان في سياق ترتيبات اقليمية ودولية لتسوية سياسية شهدتها اليمن بالنظر كما أوضحنا لعملية تزامن بين انسحاب القوات المصرية كما سبقت الإشارة في 30 نوفمبر 1967م من المحافظات الشمالية من الوطن وكان في نفس الوقت انسحاب بريطانيا من عدن في التاريخ ذاته.
لا سيما والاستعمار البريطاني أراد من خلال مفاوضات الاستقلال ألا يؤدي انسحابه إلى استعادة اليمن لوحدته الوطنية خلافا للتوجهات القومية لثورة 23 يوليو 1952م في مصر والتي كانت ترى بأن ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر المجيدتين شرطان موضوعيان لاستعادة الوحدة اليمنية وهذا التوجه كانت تخشاه لندن لذلك حرصت كما قلنا على عملية التسريع بالاعتراف الدولي وهو ما يعني عند قراءة محاضر المفاوضات التي جرت في الثلاثين من نوفمبر 1967م أن الصراع الاقليمي والدولي كان على أشده في اليمن إلا أن الخلاصة النهائية تبقى في التأكيد على أهمية ذلك الاستقلال الذي كان وفقاٍ للمكن المتاح ولولا ثورة 14 أكتوبر المجيدة ما قبلت بريطانيا بمفاوضات الاستقلال إلا من خلال أن يكون انسحابها من عدن أشبه بانتصار سياسي وليس كما صورته بعض القراءات الخاطئة خاصة في ما يتعلق ببنود تلك المفاوضات كان أغلبها بنود مفخخة.
ففي بند المرتبات والمساعدات المالية عملت بريطانيا للجبهة القومية تفخيخاٍ بذلك الجانب لكي لا تستطيع الدولة الجديدة أن توفي بالتزاماتها المالية بعد رفض بريطانيا الالتزام بذلك البند في الاتفاق وكذلك في ما يخص اشتراط حكومة بريطانيا استبعاد جبهة التحرير من المفاوضات نكاية بجمال عبدالناصر كما أوضحنا كانت بمراهنة بريطانيا أن الأجواء السياسية بعد انسحابها من المحافظات الجنوبية واستلام الجبهة القومية السلطة منها ستكون غير طبيعية وستشهد صراعات سياسية مختلفة خاصة بين الجبهة القومية وجبهة التحرير وحصل ذلك بشكل نسبي.
أي أن بريطانيا أرادت الحاق مزيدا من إضعاف اليمن عقب مفاوضات الاستقلال وما حدث من صراعات سياسية مختلفة كانت من ثمار الاستعمار البريطاني البغيض الذي اعتمد سياسة فرق تسد وهو ما يوجب تقييم ذلك التاريخ كما أوضحنا بتجرد وموضوعية بعيداٍ عن الأحكام الجاهزة أو الاغراءات العاطفية لاعتبارات تتعلق بأهمية الوعي بالتاريخ الوطني خاصة والثلاثين من نوفمبر ذكرى الاستقلال الوطني في ميزان التقييم الموضوعي تخللته سلبيات وايجابيات إلا أن أهم ما في الـ30 من نوفمبر 1967م كان انهاء الوصاية البريطانية التي حاولت التمسك بها في مفاوضات الاستقلال كما كان أيضاٍ ما هو أهم وأبلغ من ذلك إنهاء الاستعمار البريطاني الذي رحل وإلى غير رجعة من جنوب الوطن لتدخل اليمن بعد ذلك مرحلة جديدة.

قد يعجبك ايضا