عادل عبدالله
في زوايا قطاع غزة حيث لا يزال نداء الحياة يعلو فوق صفارات الإنذار وحيث تتناثر أحلام الطفولة بين ركام المباني تبدأ معجزة جديدة بالتشكل. إنها معجزة لا تحمل أسلحة ولا ترفع شعارات بل تمسح الغبار عن سبورة وتلمع أقلاماً بالية وتفتح كتباً ممزقة.
هنا..في قلب الدمار يعود الأطفال إلى مدارسهم، ليس كمنتصرين بل كمنتصرين على اليأس.
إنه مشهد لا تكفله الحكومات ولا تخطط له المنظمات الدولية بل يصنعه إيمان راسخ في قلوب معلمين نازحين. أولئك الذين فقدوا بيوتهم وشاهدوا أحلامهم تتهاوى تحت وطأة القنابل قرروا أن أكبر انتقام لهم هو أن يمنحوا طلابهم حلما جديدا. يقفون أمام الصفوف ليس بعباءات الأكاديميين بل بملابسهم البسيطة وعيونهم التي تحمل قصصاً لا تحكى ولكن قلوبهم تحمل من العزيمة ما يكسر جبروت الحرب.
الصفوف ليست كما نعرفها. قد تكون خيمة ممزقة تهب منها الرياح أو غرفة في منزل نصف مدمر أو حتى بقعة تحت شجرة زيتون عتيقة. السبورة قد تكون قطعة كرتون والطباشير قد يكون حجراً أبيض والمقاعد قد تكون حجارة مرصوصة. لكن الأهم هو ما يملأ هذا الفضاء البسيط: ذلك الشغف المتقد في عيون الأطفال والرغبة العارمة في العودة إلى الحياة الطبيعية ولو من خلال سطر في كتاب أو مسألة حسابية.
الأطفال يأتون من كل مكان. بعضهم يحمل جراحاً لم تندمل بعد وبعضهم فقد أحد أفراد أسرته وجميعهم يحملون ذكريات مؤلمة لا تليق ببراءة أعمارهم. لكنهم عندما يجلسون، ويفتحون دفاترهم ويبدأون في ترديد الأناشيد أو حل المسائل تختفي للحظة أصوات الانفجارات ويعود إليهم شيء من طفولتهم المسلوبة. المدرسة هنا ليست مكاناً للتعلم فقط بل هي ملاذ آمن وجرح شاف وحلم يعاد بناؤه يومياً.
المعلمون النازحون أولئك الأبطال المجهولون لا يقدمون دروساً في الرياضيات واللغة العربية فقط بل يقدمون دروساً في الصمود والكرامة. هم يعلمون الأطفال أن القلم أقوى من الرصاصة وأن المعرفة هي السلاح الذي لا يقهر وأن المستقبل لا يبنى بالخراب بل بالعلم والأمل. هم يمسحون دموع التلاميذ ويخففون من خوفهم ويذكرونهم بأنهم رغم كل شيء أطفال ولديهم الحق في الحلم واللعب والتعلم.
غزة تتعافى. لا ليست التعافي الذي نراه في تقارير الإعمار وخطط إعادة البناء. إنه تعافي أعمق تعافي الروح والإرادة. إنه يبدأ من هنا من هذه الزوايا المتواضعة حيث يجتمع الأطفال حول معلميهم. إنه يبدأ عندما يرفع طفل يده ليسأل سؤالاً عن النجوم أو يكتب جملة عن السلام أو يرسم لوحة لبيته القديم. في هذه اللحظات تغزو الحياة كل شيء وتنتصر على الموت.
هذه المبادرة التطوعية هي شمعة مضيئة في ظلام دامس. هي تذكر العالم بأن غزة رغم جراحها العميقة لم تمت. بل إنها تلد الأمل من رحم المعاناة. الأطفال الذين يعودون إلى مدارسهم اليوم هم الأطباء والمهندسون والمعلمون والقادة الذين سيبنون غداً أفضل. هم يبنون مستقبلهم بحروف من نور.. على أنقاض حاضر من رصاص.
في النهاية هذه ليست مجرد قصة عن العودة إلى المدرسة. إنها قصة عن إصرار الحياة على الاستمرار وعن انتصار المعرفة على الجهل والأمل على اليأس. إنها رسالة من غزة إلى العالم: قد تدمر بيوتنا وقد تشرد عائلاتنا وقد تؤلم أجسادنا لكن عقولنا وقلوبنا ستظل دوماً مقراً للأمل والحياة.
