لا أدري لماذا أشعر أن التاريخ يعيد تكرار مشاهده في اليمن بالذات؟ إذ بتدقيق النظر في البلدان الأخرى لا نجد سوى التغيير في مساره , كمصر مثلا , ربما لفارق الرؤية والثقافة والتغير الثقافي الذي بدوره يؤثر على مسارات الحاضر والمستقبل , ولكون أهل مصر يتعاملون مع التاريخ كتاريخ متحرك له سلبياته وله إيجابياته، ولذلك نجد في فنونهم مشاهد صادقة عن حركة التاريخ دون تضليل أو زيف , فهم حين يكتبون عن فترة الملك فاروق يكتبون بحيادية تكاد تختفي فيها الذات ليبرز الموضوع , وحين يتناول كل الفترات التي مرت فنيا سواء دراما تلفزيونية أو سينمائية أو مسرح يتناولون في رؤاهم الفنية الفترة بما لها وما عليها أي بقدر عال المنسوب في الموضوعية والحيادية، وتكاد الذات تتوارى خلف المشاهد والحوارات , كما أنهم لا يجدون غضاضة من عرض خصائص المجتمع السياسي والاقتصادي في كل التاريخ بقدر كاف من الانتماء الى الوطن , في حين عندنا في اليمن يتكرر التاريخ كمهزلة غير ذات قيمة في الوجدان العام ولها تأثيرها السلبي على وحدة الصف , وقد تعمل على توسيع دائرة الشقاق وتترك ندوبا بالغة التعقيد على الوحدة الوطنية من خلال ردود الفعل التي تبرز على السطح , ولعلنا شاهدنا خلال الأيام السالفة أحدهم وهو يقود مركبته وبيده “مايك ” وعلى المركبة مكبر صوت وهو يطوف شوارع عدن وينادي بضرورة تطهير عدن من كل شمالي ويدعو إلى اقتحام البيوت والأحواش لطرد كل أبناء الشمال .
مثل هذه التصرفات الحمقى قد تترك شرخا في النفوس، وقد تجبر من يتضرر من هذا السلوك على الانتقام من كل ما هو جنوبي وله حضوره وتواجده في الشمال، كما أنه سيعمل على تعزيز الفرز المناطقي ويعزز من البعد النفسي في الانسجام ويحاول أن يرسم صورة مقيتة عن أبناء الجنوب ويؤطرها في صورة نمطية تظل حاضرة بقوة حضور الفعل الأحمق في الذاكرة وفي التصور العام .
في القرن الماضي كانت هناك قوتان كبيرتان تفرضان سيطرتهما على اليمن الطبيعي , الدولة التركية في الشمال وبريطانيا في الجنوب , وقد توصلتا القوتان المستعمرتان إلى اتفاق تقسيم في عام 1914م فرض حدودا سياسية في جغرافيا النفوذ , ولم يكن للقوى الوطنية أي رأي، كما أن بريطانيا أخلت بذلك الاتفاق من خلال توسعة نفوذها إلى الضالع وكمران ودخولها في صراع مع اليمن بعد أن حاولت السلطة الوطنية التي حررت الشمال من الأتراك عام 1918م أن تحرر اليمن من بريطانيا ودعمها للقبائل بالعتاد لتحرير الجنوب وكانت طلائع الجيش الوطني الذي غالبه من القبائل قد وصل إلى لحج , فسارعت بريطانيا إلى دعم الإدريسي في شمال الشمال لمنازعة الإمام يحيى السلطة ثم تحركت إلى جزيرة كمران واحتلتها , وتحركت طائراتها لضرب بعض المناطق في ذمار وغيرها , وتمددت حتى ضمت الضالع إلى سلطتها , وبعد قيام عبدالعزيز آل سعود المدعوم من بريطانيا بتأسيس الدولة السعودية دعمته بالمال والسلاح ودخل في حرب مع الإمام يحيى حتى وصلت طلائع جيشه إلى الحديدة وانتهى ذلك الصراع باتفاقية الطائف المعروفة .
التهديد القادم من شمال اليمن ترك مصفوفة من المخاوف على بريطانيا فحاولت بسط نفوذها على جغرافيا الجنوب , ونظرا لطبيعة التركيبة الاجتماعية القائمة على العصبية عملت بريطانيا على تنميتها والتفاعل وفق معطياتها فكانت المحميات الست فكرة قابلة للتحقق , فمبدأ بريطانيا كان يقوم على فكرة “فرق تسد ” ثم عملت بكل طاقتها على تعزيز فكرة الجنوب العربي لتفصل الجنوب عن هويته التاريخية , ووجدت فكرة الجنوب العربي هوى عند بعض سكان عدن ممن جاءت بهم شركة الهند الشرقية , وكانوا يفتقدون إلى عنصر التاريخ في الوجود والتعايش في عدن وما جاورها فيما يسمى اليوم بالمثلث , ونشأ حزب الرابطة الذي اشتغل على الفكرة زمنا ولم يكتب له النجاح , بعد أن اشتد أوار الحركة القومية العربية وقوي عودها , وتفاعل معها بعض المثقفين في الجنوب وتشكلت حركة القوميين التي حكمت بعد التحرير في الجنوب وتلاشى حزب الرابطة حتى كاد أن يكون في أسرة بيت الجفري وتلاشت معه فكرة الجنوب العربي .
عودة بريطانيا إلى إحياء هذه الفكرة هي المهزلة التي بدأت على شكل مأساة في القرن الماضي وتتكرر اليوم في صور شتى في الجنوب على ذات المبدأ القديم من التفرقة بين كيانات المجتمع وهي تدرك أن الفكرة سوف تصطدم مع شبوة، ومع حضرموت، ومع المهرة، ومع الجزء الأكبر من أبين، ولن يكتب لها النجاح .
هذه المهازل التي تتكرر في الجنوب اليوم يتحمل المثقف والسياسي وزرها، لأنهما غفلا عنها ولم يقوما بتفكيكها ولم يكتبا عنها حتى يحدثا انحرافا في مسار المستقبل بل تركوها حتى تتكرر لتحدث كل هذا الشقاق والانهيار في النظام والطبيعي .
في مصر كدولة ذات تأثير ثقافي على مستوى المنطقة تجارب يفترض الأخذ بها والاستفادة منها، فثورة يوليو المصرية التي أحدثت تغيرا بنيويا عميقا في مصر والعالم العربي عملت على تنمية البنية الثقافية والفنية وقامت بترميز مجموعة كبيرة من رموز الفن والأدب والفكر وبهم ومن خلالهم استطاعت رسم خارطة المستقبل من خلال قوة الوعي وصمود الهوية الوطنية أمام التفكيك والتجزئة، وقد صرحت وزيرة خارجية أمريكا أيام موجة الربيع العربي قائلة : لقد فشلنا في مصر لأننا نواجه هوية وطنية غير قابلة للتفكك .
لعل ما يحدث اليوم في اليمن يلهمنا التفكير في المستقبل وتجاوز عثرات الماضي، وإعادة التفكير في بناء خطط واستراتيجيات لبناء الإنسان حتى يكون أكثر انتماء إلى تاريخه وأرضه وميلا إلى استقلاله وبناء ذاته ومتجاوزا للعصبيات وعوامل الشقاق .
