لم يأتِ الإعلان عن الإفراج عن عددٍ من الأسرى من طرفي الصراع كحدثٍ منفصل عن سياق المواجهة، ولا كمبادرة إنسانية معزولة عن الميدان، بل بوصفه نتيجة مباشرة لمسارٍ طويل من الصمود، وتراكمٍ واعٍ للمواقف، وإثباتٍ عمليّ أن من يفرض حضوره في ساحة المواجهة يفرض شروطه على طاولة السياسة.
هذا الاتّفاق لم يُوقّع بالحبر وحده، بل كُتب بسنوات من الثبات، وبأيامٍ ثقيلة من الصبر، وبقناعةٍ راسخة بأن معادلات القوة لا تُصاغ بالبيانات، بل تُفرض بالوقائع. لقد أعاد الفرح إلى قلوب الأسرى وذويهم، لكنه في الوقت ذاته وجّه رسالة أبعد أثرًا: زمن الإذلال المجاني انتهى، ومعاناة السجون ليست قدرًا محتومًا.
الإفراج عن الأسرى هنا ليس لفتة عاطفية، بل حصيلة طبيعية لمعادلة ردع تبلورت بفعل المواجهة المفتوحة، وفي مقدمتها الدور الذي لعبته أنصار الله، حين أثبتت أن الإرادة الحرة قادرة على كسر القيود، وأن الحقوق لا تُمنح لمن ينتظر، بل تُنتزع ممن يفرض نفسه. كل أسير يعود إلى الحرية هو شهادة حيّة على فشل سياسات القهر، وعلى محدودية أدوات البطش أمام صلابة الموقف.
في المقابل، حاول العدوان، ومعه قوى الاستكبار وفي مقدمتها أمريكا وكيان الاحتلال، تحويل ملف الأسرى إلى ورقة ابتزاز سياسي، لا سيما في ظل معركة طوفان الأقصى، سعيًا للضغط على المواقف الحرة، وكسر الدعم اليمني الواضح لغزة، وإعادة إنتاج الصمت العربي المأزوم. غير أن هذه المحاولات اصطدمت بجدار الثبات، وسقطت أمام وضوح الرؤية وصدق الانحياز للقضية.
وهنا تتكشّف صورة الصراع في المنطقة دون رتوش: محور عدوان تقوده قوى الهيمنة والاحتلال، وتدعمه أنظمة التطبيع، في مواجهة محور يرفض الخضوع، ويؤمن بأن الكرامة لا تتجزأ، وأن فلسطين ليست ورقة موسمية ولا شعارًا عابرًا. في هذا السياق، يأتي اتفاق الأسرى شاهدًا إضافيًا على أن خيار الصمود ليس مغامرة، بل مسارٌ يفرض نتائجه، ولو بعد حين.
إن هذه الخطوة تؤكد حقيقة غالبًا ما يُراد تجاهلها: النصر لا يهبط فجأة، بل يُبنى تراكميًا، يبدأ بالموقف، ويتعمّد بالتضحيات، وينتهي بفرض الإرادة. ومع كل تقدّم، يتضح أن فجر الحرية أقرب مما يقدّره العدو، وأن زمن الهيمنة الأحادية يتآكل أمام صبر الشعوب وصلابة المقاومين.
إن الإفراج عن الأسرى، في هذا السياق، ليس نهاية الطريق، بل محطة من محطات الانتصار، ودليلًا إضافيًا على أن من يقف مع الحق بثبات، ويدفع ثمن موقفه بوعي، لا بد أن تكون له الغلبة… ولو بعد حين.
