من رجب الأغر.. إيمان لا يموت

بشير ربيع الصانع

 

 

في أول جمعة من شهر رجب الأغر من كل عام، يعيش الشعب اليمني المسلم مناسبة تاريخية وإيمانية كبرى، تذكر بدخول اليمن في الإسلام، حين قدم الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- إلى أرض اليمن حاملًا رسالة النبي محمد -صلى الله عليه وآله-، داعيًا أبناء هذا شعب إلى دين الله، فاستجابوا عن وعي وبصيرة وإيمان صادق.
وتتواصل صفحات هذه الذكرى المجيدة بوصول الصحابي الجليل معاذ بن جبل إلى تعز، حَيثُ انطلق نور الإسلام ليشرق على قلوب أهل اليمن طواعية واختيارًا، في محطة مفصلية من محطات صدر الإسلام، سبقت انتشار الإسلام في ربوع اليمن كافة.
تظل هذه الذكرى عظيمة لأنها تمثل اليوم الذي دخل فيه شعبنا اليمني في الإسلام، وببركته عُرِفَ بقية الأعياد الإسلامية.
ويبقى اليمنيون مميزين بين شعوب الأُمَّــة الإسلامية؛ حَيثُ يعرفون تاريخ دخولهم في الإسلام بدقة، في حين لا تستطيع كثير من الشعوب تحديد التاريخ الدقيق لإسلامها، وهذا دليل على عمق الارتباط بين هذا الشعب ودينه منذ اللحظة الأولى.
لقد حافظ الشعب اليمني عبر تاريخِه على الاحتفاء بهذه الذكرى بخصوصية، عبر مظاهرَ إيجابية كصلة الأرحام وذكر الله وإظهارِ السرور والابتهاج.
لكن الأهم هو الاستفادةُ من هذه الذكرى في شُكر نعمة الإسلام، والحفاظ على الهُوية الإيمانية، وترسيخها في واقع الحياة والأجيال المتعاقبة.
يقولُ الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، وأعظمُ نعمة أنعمُ الله بها علينا هي نعمة الإيمان، التي شرف الله بها شعب اليمن حين قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: “الإيمان يمان، والحكمة يمانية”، هذا النص النبوي المبارك يحدّد هُوية شعب ومسار أُمَّـة ومسؤولية تاريخية؛ هُوية يجب المحافظة عليها وترسيخها وبناء الحياة عليها، لأن الإيمان هو التزام عملي وموقف وسلوك وثبات عند الاختبار.
لقد تجذر هذا الإيمان في واقع الشعب اليمني عبر الأجيال، فأثَّر في الروحية والأخلاق والمواقف والعادات والسلوكيات، حتى صار الإيمان جزءًا من تكوين هذا الشعب، فجاء التعبير النبوي العظيم: “الإيمان يمان”، وكأن هذا الشعب منبع يتدفق منه الإيمان، وبيئة ينمو فيها الإيمان.
يختبر الله عباده في انتمائهم الإيماني، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.
فالاختبارات تأتي في المواقف والالتزام ومواجهة الحلال والحرام والوقوف مع الحق، ولا يقبل الله مُجَـرّد الكلام، بل الصدق في الإيمان بالعمل والموقف والثبات.
ونحن اليوم نعيش زمنًا خطيرًا، زمن الغزو الفكري والحرب الناعمة والهجمة الثقافية، حَيثُ يسعى أعداء الأُمَّــة إلى مسخ الهُويات وتجريد الشعوب من إيمانها، كما قال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا}؛ لأنهم يعلمون أن الأُمَّــة إذَا فقدت إيمانها فقدت كُـلّ شيء، وَإذَا حافظت على إيمانها استعصت على السقوط والسيطرة.
ومن هنا نفهم ما جرى في يمن الإيمان مؤخّرًا؛ حين خرج هذا الشعب خروجًا مليونيًّا عظيمًا غضبًا لله وكتابه الكريم، رفضًا لتدنيس القرآن الكريم والإساءة إلى مقدسات الأُمَّــة.
كان هذا الخروج تعبيرًا صادقًا عن هُوية متجذرة، ودليلًا حيًّا على أن هذا الشعب لا يزال حي الإيمان، يقظ الغيرة، حاضر الوعي، ولم تمت فيه الغيرة على كتاب الله، ولم تُسلب منه قدسية القرآن.
وفي عالم صمتت فيه شعوب وتراجعت فيه أمم واعتادت فيه المجتمعات على الإهانة والتدنيس، وقف اليمن وحده، شعبًا بالملايين، ليقول: إن القرآن خط أحمر، وإن المقدسات لا تُدنَّس، وإن الإيمان لا يُساوم عليه.
هذا هو الإيمان اليماني الذي تحدث عنه رسول الله -صلى الله عليه وآله-، إيمان يُترجم إلى موقف، وحكمة تتحول إلى فعل، ووعي لا ينفصل عن المسؤولية.
ومن هذه الهُوية الإيمانية نفسها، جاء موقف اليمن في إسناد إخوانه في غزة وفلسطين، موقفًا نابعًا من الإيمان، مترجمًا للحكمة اليمانية، مصداقًا عمليًّا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وآله-: “الإيمان يمان، والحكمة يمانية”.
فلولا هذا الإيمان، لما وقف اليمن هذا الموقف المشرف، ولما تحمل تبعاته، ولما انحاز إلى المستضعفين في غزة، في وقت تخلَّى فيه كثيرون، وسكت فيه العالم عن جرائم الإبادة التي يرتكبها العدوّ الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني المظلوم.
هذه المواقف، من الغضب للقرآن إلى إسناد غزة، هي سلسلة واحدة، عنوانها: الهُوية الإيمانية، وجوهرها: الصدق مع الله، وثمارها: العزة والكرامة والثبات، وهي تجسيد حي لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ}.
فحفظ الله اليمن وأهله، وجعل هذه الذكرى الإيمانية محطة لتجديد العهد مع الله، والثبات على طريق الإيمان، والاستمرار في الدفاع عن مقدسات الأُمَّــة ونصرة مظلوميها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

قد يعجبك ايضا