>وحدة اليمنيين عصية على الاستهداف
>المشاركون: شعور غامر بالأمل وبأن اليمن إلى خير
>دموع الفرحة تمتزج بألق المشهد المهيب
جمال الظاهري
الزمان 26 مارس 2016م الوجهة ميداني السبعين والستين في العاصمة صنعاء كنقطتي تجمع تؤمهما الجموع الغفيرة, فيما كان هناك ميدان رئيسي وقبلة واحدة تقصدها الملايين اليمنية التي تقاطرت إليها تلك السيول البشرية (صنعاء) عاصمة كل اليمنيين.
الهدف واحد والغاية واحدة وإن تعدد المنظمون والداعون لهذا الاحتشاد, الجميع يحمل نفس الهم ويرفع نفس الشعار (صامدون لا استسلام) يزين كل ذلك العلم اليمني الذي يرفرف فوق رؤوس الجميع.
تحديت الحمى خرجت صوب الوجهتين (الميدانين) اللذين كان أحدهما في ساعات الصباح والثاني في عصر نفس اليوم, ركبت في بودي سيارة هيلوكس لا أعرف صاحبها لأنه وبمجرد أن ترى أعلام اليمن وصور الزعيم وشعار الخيل تدرك أنها متجهة إلى نفس الوجهة التي تقصدها.
حشرت نفسي مع شباب ويافعين ورجال في البودي متمسكاً بثياب الشخص الواقف أمامي وانطلقت السيارة وأنا أراقب المشهد المهيب, نظرت إلى عيون من أمر بهم وإلى أفعالهم التلقائية، سبح خيالي مع تلك الهتافات التي كان يتخللها بعض ما مر بي من مشاهد محزنة لضحايا العدوان وما ارتكبته طائراته من مجازر.
مشاهد لافتة وجميلة زادتها جمالاً شعارات التمجيد للوطن
كان صاحب السيارة ومن معه يهتفون لليمن ويؤكدون أنهم سيحضرون الفعاليتين (السبعين والروضة), هذا الأمر لافت حين تسمعه من إنسان بسيط.
لفت نظري أيضاً محلات تجهيز الأعراس والاستوديوهات التي أخرجت مكبرات الصوت إلى أبواب المحلات صادحة بالأناشيد الوطنية الحماسية, التي كانت تجذب الشباب والشيوخ على حد سواء فيخرجون (جنابيهم) راقصين على إيقاعات تلك الأناشيد الوطنية فيلتف حولهم آخرون مستمتعين برقصهم في مشهد لا نراه إلا في مناسبات الأعراس.
مشهد آخر كان لافتاً, إنه رؤيتنا لرجال الأمن والجيش واللجان الشعبية وهم بكامل جاهزيتهم وبادية على محياهم علامات الانشراح, كانوا يلوحون لمن يمر بهم بشارات النصر ويعملون المستحيل من أجل تيسير العبور.
أصحاب السيارات الخاصة حتى أولئك الذين لم يكونوا متجهين إلى مكان الفعالية كانوا يتوقفون ويحملون معهم ما تستوعبه سياراتهم إلى أقرب نقطة سيصلونها قبل أن يغيروا اتجاههم, الأمر هذا كان له أثر طيب على النفس يجعلك تفخر وتعتز بالمستوى العالي من الروح الوطنية لدى الإنسان اليمني.
النساء مع أطفالهن ومن نوافذ المباني الجميلة الواقعة على ضفتي السائلة وخاصة عندما وصلنا إلى صنعاء القديمة كن يلوحن بأيديهن للمتجهين إلى ميدان السبعين فيما الأطفال يصفقون ويرددون شعارات الصمود والثبات وزوامل لطف القحوم وعيسى الليث, مشهد بديع شارك في رسمه من حضر ومن لم يستطع الحضور.
صورة أخرى التقطتها عدستا عيني كانت لمجموعة من كبار السن على الضفة اليمنى للسائلة في بداية مدخل باب السبح المؤدي إلى التحرير, أربعة أو خمسة من المسنين كانوا جالسين يراقبون المشهد باهتمام بالغ وكلما مرت بهم مجموعة تنشد أو تهتف كانوا يشيرون إليهم ويلتفتون إلى بعضهم متبادلين الحديث مشتركين ببعض الضحكات، تمنيت لو أعرف ما الذي كانوا يقولونه لبعضهم.
صباحية اليوم المشهود
كان دخولي ميدان السبعين من الجهة الشرقية المتاخمة للسائلة, ترجلنا من السيارة الثانية لأن الأولى أنزلتنا قبل باب السبح وركبنا مع (شاص), كان المشهد الأول اصطفافاً كبيراً على المداخل أناس يراقبون من بعيد, كأني بهم قد فضلوا هذا المكان لأنه يتيح لهم رؤية المشهد بصورة أوضح, فيما كان الواصلون يمرون بهم مواصلين السير باتجاه الميدان.
تعديتهم مواصلاً سيري باتجاه الميدان الذي تقام فيه الفعالية, ولفت نظري – رغم أن الساعة كانت تشير إلى الثامنة والنصف تقريباً – أن عدد الذين كانوا يغادرون الميدان يقارب عدد الذين هم في طريقهم إليه؟!
الأمنية ورقصة الموت
واصلت السير بين الحشود التي كانت تختلط هتافاتها بكلمات المنظمين والمقدمين للفقرات مع هدير محركات طائرات العدو, – الأمر هذا مضحك مبكٍ في نفس الوقت -, فحين تشاهد الآلاف يهتفون ويرقصون ويتبادلون التهاني ويجزمون بأن اجتماعهم في هذا المكان نصر كبير لوطنهم وشعبهم يتملكك الشعور بالأمان وبأن البلاد إلى خير، وأن شعباً هذه صفاته لا يمكن أن يقبل بالدنية أو الهوان, وحين تنتهي من استخلاص العبر من المشهد الأول وتنتقل إلى جزئه الآخر وتسمع هدير الطائرات وهي تحوم في سماء وطنك مستعرضة أمام هذه الحشود تشعر بغصة كبيرة وتتمنى لو أنك صاروخ يشارك هذه الطائرات رقصة الموت.
المشاهد كثيرة والصورة العامة التي كانت مسك الختام لهذا الحضور كانت أكثر من رائعة.. حيث نزلت إحدى تلك الطائرات التي كانت تعربد في سماء صنعاء مخترقة جدار الصوت محدثة ضجة كبيرة بهدف إرعاب الحضور, فكان الرد الساخر المستهين بها وبما يمكنها أن تفعله بهم من قبل الحشود متمثلاً بصرخات الاستهجان وعبارات التحدي وهم يرفعون السبابة والوسطى ليرسموا شارات النصر.
امرأة عجوز تشق طريقها بين الحشود وعلم اليمن معصوب على رأسها وتهتف (يا دنبوع يا خائن اليمن بعيدة على عينك أنت ومن معك) اليمن لا تقبل الخونة.
منظر استثنائي
لأول مرة وفي هذا الميدان يدخل الناس إلى ساحة الفعالية بأسلحتهم الشخصية دون أن يعترضهم أحد, ليسوا كلهم مسلحين ولكن كان هناك سلاح كافٍ لإحداث ما لا يحمد عقباه, ولكن الجميع مطمئن وكله ثقة بأن لا أحد ممن حضر عنده نية أو يفكر في أذية الآخرين, وكأن كل من كانت تحوم حولهم شبهات في ارتكاب الأعمال الإجرامية خارج اليمن وليس فقط خارج ساحة ميدان السبعين.
المشهد الختامي كان بديعاً ومعبراً لأنه لا يمكنك أن تراه إلا في الحرم المكي.. شاب يحمل أباه فوق كتفيه ويطوف به الميدان، كان المنظر مهيباً, لذا فإن هذا اليوم يستحق أن يخلد وأن يقال عنه يوم انتصر فيه اليمنيون على اليأس.
عصرية اليوم المشهود
صبيحة يوم السبت 26 مارس كان الوجه الأول للكتاب الذي خط المقدمة ونصف الحكاية، فيما النصف الآخر والخاتمة كانت موكلة بخط الستين حي الروضة, وعلى الموعد كان حاضراً وشعلة من النشاط, وما هي إلا ساعة تقريباً من بداية الفعالية وامتلأت جنبات الساحة المعدة للحفل, فكان لزاماً على المنظمين فتح ساحات أخرى كي تستوعب الحشود المتدفقة من كل الجهات.
الحركة والنشاط وتلك الأناشيد والزوامل كانت اختصاصاً تميز به المكان الذي كانت فقرات حفله أكثر تنوعاً, ففي حشد الروضة كان الحضور الكبير للمشاركين – رغم أن هذا الوقت له خصوصيته التي تمنعهم من الخروج إلى الميادين والساحات بسبب (التخزينة), إلاَّ أن عظمة المناسبة والخصوصية الشخصية والعامة لهذا اليوم تغلبت على لذة ساعات المقيل, أمر آخر كان لافتاً كثرة العنصر النسائي, وأيضاً حضور المجسمات المعبرة عن البطولة والتضحية.
لفت نظري أيضا التأكيد في الكلمات التي ألقيت على مواصلة الصمود وعدم التفريط بدماء الشهداء وتضحيات الشعب اليمني, وكذلك مشاركة أكثر من طرف سياسي وتوجه ثقافي بكلمات معبرة عن عظمة الحدث وأهمية المرحلة, والتأكيد على وحدة المصير لكل الأطياف اليمنية.
لقطات مؤثرة
شاب لم يبرأ من إصابته بعد، بعكازين وعلم اليمن من الحجم الصغير مغروس في كنزال الشال ويهتف بالروح بالدم نفديك يا يمن.
فلاشات من داخل الساحة
من المشاهد التي كانت لافتة حضور الكثير من صور الشهداء التي كان يحملها الحضور وصور الدمار .. صحيح أن هذه الصورة كانت حاضرة في السبعين لكنها في هذه الساحة أكثر.
مشهد آخر أحببته ويستحق الذكر هنا وهو حضور مجاميع ممن شاركوا في حشد الصباح ومعهم صور الزعيم وأعلام المؤتمر الشعبي العام, الجميل .. بل الرائع في الأمر أن من حضر منهم فعالية الروضة وبمجرد أن يصل إلى ساحة الاحتشاد كان يعمل على عدم إظهار الأعلام والصور التي قدم بها احتراما لخصوصية المكان ولمنظميه.
المشهد الذي يستحق أن نختم به هو نشاط اللجان التي أشرفت ونظمت المهرجان .. حيث أنها كانت كخلية نحل تعمل ما تستطيعه من أجل استيعاب الحشود التي فاقت استعدادهم وربما فاقت تصور منظمي الفعالية.
لكل مشارك قصة وللمشاعر حكايات
أثناء مغادرتي الميدان باتجاه التحرير بدر إلى ذهني أنه من أجل اكتمال الصورة يجب علي أن اسمع من نماذج لهذا الحضور وأن أدون مشاعرهم وإن أمكن تسجيل قصصهم لأنه فعلاً كان هناك قصة لكل شخص حضر المناسبة دفعته لتجشم عناء الطريق وتحمل حرارة الشمس القوية.
البداية كانت موفقة وفيها الكثير من الدلالات:
حركته البطيئة وعمره الذي يقترب من الثمانين عاماً لم يمنعه من الحضور إلى ميدان السبعين ليشارك أبناء وطنه في التعبير عن رفضه للعدوان السعودي, الكيفية التي كان يمسك بها بيد طفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات وبالأخرى بيد عجوز تبدو عليها علامات القوة كانا لافتين للنظر -.
قتلوا أغنامنا وأحرقوا نخيلنا وما عدنا نستطيع أن نعيش حياتنا بأمان, الطيران (يدكم) يقصف كل شيء ومن يتحرك من ربعنا – رعيان وسيارات وحتى الحيوانات والأغنام, كل شيء يقصفه الطيران.
دمروا الكثير من بيوت القرية وقتلوا النساء والرجال, أما من نجوا من القتل فقد شردوا في الليل، بعضهم ذهب إلى أقاربهم في قرى بعيدة مع إبلهم وأغنامهم وآخرون هربوا عند أنسابهم في وادي عبيدة بمأرب.
الوالد صالح واحد من أبناء قرية مجزر التابعة لمحافظة مارب التي شهدت الكثير من المعارك والكثير من القصف لطيران التحالف الذي تقوده السعودية, كانت نظراته للحشود المتدافعة وتوقفه بين فينة وفينة أمر لافت, فيما كان زيه البدوي ولحيته البيضاء تضفي عليه الكثير من المهابة والوقار, اقتربت منه وسألته عن المشهد الذي أمامه فقال: الحمد لله كنا نعتقد أن أهل صنعاء لا يدركون ولا يهتمون لما يحصل لنا, ولكن ما أراه اليوم جعلني أشعر بأنهم جميعاً خرجوا من أجلي ومن أجل ربعي المشردين.
ويضيف: أود العودة إلى مارب إلى قريتنا في مجزر ولكن ما باليد حيلة أنا رجل شيبة وبعد أن سجن المشترك ولدي صرت مسؤولاً عن حقي العجوز وأولاد ابني وأمهم والحياة هناك تحتاج لمن هو شاب وأخاف أن يتعرض الأطفال للقتل تركنا حياتنا وأصبحنا مستأجرين.
تقاطعه زوجته يا ابني نريد العودة إلى قريتنا بين ربعنا حياة المدينة صعبة اشتقت لمراقبة الأولاد وهم يسرحون بأغنامهم في الصباح, حياة المدينة صعبة, لم نعتد على البقاء داخل البيت طوال اليوم, حياة المدينة لا تناسبنا.
حكاية أخرى
(ن .م) وجهه شاحب مليء بالكنزات التي تبدو كأعقاب الكتب المبعثرة, يرتدي بدلة كحلية اختفت منها خطوط الكي, اليوم بالنسبة لي عيد لأني أشارك هذه الملايين الهتاف والتعبير عن الرفض للعدوان, كان قد بدأ اليأس يصيبني وما كنت لأصدق أن أبناء اليمن سيجتمعون على موقف ورأي واحد بهذا العدد.
عمري 52 عاماً ولكني أشعر بأني عشت في الخمسة الأعوام الأخيرة خمسين عاماً لم أذق فيها طعم الراحة ولم أعرف فيها الأمان, خرجت اليوم كي أساهم وأشارك بقية أبناء وطني في إحياء ذكرى العام الأسوأ من حيث المعاناة, اليوم تضاءل وهان ما عانيته بعد أن رأيت هذه الحشود.
لقد دمروا وقتلوا وأوجعونا وحتى إخواننا العرب والمسلمين خذلونا وقبضوا ثمن دمائنا, لذا خرجت كي أقول للعالم رغم كل شيء حياتنا مستمرة ولن نستسلم, من تناصرونهم لا يمثلوننا وها نحن أمامكم ولا أعذار لكم ولا حجة في استمرار عدوانكم.
– يقولون شر البلية ما يضحك, الأمر هذا واقعي, لأن من أفضل ما ستخرج به اليمن من هذا العدوان أن اليمن وإن كانت خسارته كبيرة إلا أنها ستخرج متحررة من أي قيود أو جميل أو التزامات تجاه كل دول وشعوب العالم وخاصة الدول والشعوب العربية والإسلامية, وبالذات جيراننا الخليجيين, وهذا وحده مكسب كبير لليمنيين.
تصوير- فؤاد الحرازي