دومة

وجدي الاهدل

بعد تردد طويل استقر عزم (همود بن محفوظ) على القيام برحلة علمية إلى بئر برهوت وكتابة تقرير عنها لمجلة ناشيونال جيوغرافيك. هو أستاذ ويدرس مادة الجغرافيا الطبيعية. تقدم إلى الجامعة بطلب تمويل الرحلة فكان ردهم أنهم سيوفرون له كذا جالونا من البنزين! لم يفكر حتى في أخذ الورقة أو خسارة أي جزء من طاقته في الجدال معهم.
لقد سبق له قبل عشر سنوات زيارة البئر دار حولها ونظر من فوهتها إلى أعماقها السحيقة متمددا على بطنه وانتهى فضوله العلمي عند ذاك الحد. في هذه المرة قرر أن ينزل إلى البئر ويأخذ صورا وعينات من مائها وصخورها. تجهز للرحلة وأنفق كل ما ادخره في البنك وانتظر بفارغ الصبر انتهاء الفصل الدراسي والامتحانات. في منتصف يوليو تحرك بسيارته ذات الدفع الرباعي موديل نيسان باترول وبرفقته أحد المعيدين وطالب من بادية المهرة. انطلقوا من مدينة (المكلا) إلى مدينة (الغيظة) عاصمة محافظة المهرة حيث قضوا ليلتهم في ضيافة أحد أصدقاء بن محفوظ. وفي اليوم التالي تابعوا طريقهم. في منتصف النهار وصلوا إلى البئر ولفت انتباههم سرب من الحمام يدخل ويخرج من فوهة البئر التي يبلغ قطر فتحتها 25 مترا. تناولوا وجبة شطائر خفيفة ثم بدءوا بالعمل. ربط همود بن محفوظ نفسه بحبل إلى مانع الصدمات بسيارته وهبط حاملا معه حقيبة أدواته وكاميرا فيديو رقمية. عادت السيارة إلى الخلف ببطء وتذكر همود بن محفوظ وهو يهوي بسلاسة إلى القعر الحديث النبوي الذي يذكر أن أرواح الكفار والمنافقين تستقر في هذه الهاوية. والرواية المنسوبة لعلي بن أبي طالب بأن (بئر برهوت) أبغض بقاع الأرض إلى الله تعالى. سمع بوضوح صوت هدير الماء الذي كان يزداد قوة. كان عمود نحيل من ضوء الشمس يضيء زاوية قاصية من القعر الواسع جدا في الأسفل. بعد سبع دقائق وضع قدميه على تربة القعر الرخوة. حرر نفسه من الحبل وراح يصور مسحورا حوائط البئر واستوقفه شكل نحتته الطبيعة على الحجارة.. صورة على هيئة بومة لها رأس إنسان ويدها اليمنى مرفوعة للأعلى وتمسك بالقعسري – خشبة الرحى- المتصلة برحى تامة الاستدارة. ابتسم وتذكر ما تناقلته كتب التاريخ من أن السيد المبجل (دومة) وهو الملاك الموكل بأرواح الكفار يقطن في هذه المحارة. لم ير الماء ولكنه رأى كهوفا كثيرة وعند أحدها لمح خضرة. تفقد مسدسه كان يدرك وهو ابن الصحراء أن الأفاعي تستطيب العيش قرب منابع المياه. اقترب بخطوات حذرة انحنى وشغل كشافه اليدوي. شهق حين رأى الماء يتدفق بغزارة وينساب إلى الأعماق. اغترف بيده غرفة وذاق الماء فوجده عذبا باردا.
قضى ساعة وهو يصور الكهوف التي لها تعاريج ومنافذ لا يعلم مداها. ثم قرر أن يستكشف الكهف الذي يجري فيه الماء ليتتبع مساره. سار منحنيا ولاحظ أن السقف يرشح بمادة سوداء لم يعرف ما هي. شم رائحة الكبريت.. أخذ قبضة من التربة وتفحصها تحت ضوء الكشاف وصدق حدسه: رماد كبريتي ناعم. أخرج من حقيبته علبة وأراد سكب الرماد فيها فإذا به يسمع أنة تردد صداها بوضوح.. ارتجفت يداه ووقعت منه العلبة وبسرعة تدحرجت إلى الماء وانجرفت مع التيار. تلتفت ودار بضوء الكشاف بحثا عن مصدر الأنين ولكنه لم ير أحدا. أخرج علبة أخرى وقد تغلب عناده على شعوره بالخوف. قرر أن يغرف الرماد بالعلبة نفسها ومرة ثانية سمع الأنين أشد من المرة الأولى. فتش المكان بكشافه وشاهد أفعوانا ضخما يسد طريقه. ضربته قشعريرة وبدون تفكير سحب مسدسه وأراد تعميره وفي عجلته هذه سقط كشافه اليدوي وانطفأ. تجمد في مكانه من الرعب وأحكم قبضته على المسدس وشعر بأن الموت يدنو منه. سمع صوتا جهيرا يقول له: “اهدأ يا همود”. قال همود وهو يحاول التماسك وألا يبول على نفسه:
•من أنت¿”
– أنا الحارس.. مسموح لك الخروج بسلام من هنا ولكن لا تحمل معك شيئا من ترابنا”.
•أنت دومة¿
-أنتم مخلوقات عجيبة لا شغل لكم إلا إطلاق الأسماء!
•أنت الملك الموكل بأرواح الكفار¿ -(ضحكة قصيرة) أيها الغبي هذا تعبير مجازي.. المقصود هو أن تجتنبوا هذا المكان.
•كيف عرفت اسمي¿
-بواسطة أمر ما من اسم له.. وبما أنه لا يسمى فإنك لن تتوصل أبدا إلى الفهم.
•لماذا ترفض أن آخذ عينة من هذا التراب¿
-يه مادة محظورة عليكم.
•المهريون القدماء يقولون إن هذه حفرة تسبب فيها نيزك هوى من السماء.
– ذاكرتهم جيدة.. هذه المادة كانت مرسلة إلى الجزء غير المرئي من الكون.
•تعني العدم.
-كلا.. الكون يشبه الشجرة.. أنتم تعيشون على أفنانها ونحن نعيش في جذورها.
• هل سمعت عن الفضول العلمي¿
– هل سمعت عن الغرور الآدمي¿ ذلك الغرور الذي أدى إلى نفيكم إلى هذا الكوكب.
يا رجل لا تكن حقودا.. سآخذ حفنة ضئيلة من هذا التراب وأمضي.
أخرج من جيبه قداحة مزودة بكشاف صغير فتش عن العلبة البلاستيكية فلم

قد يعجبك ايضا