لم يعد التعاون العربي مع الاحتلال استثناء ولا انحرافا سياسيا عابرا يمكن تفسيره بضرورات سياسية أو تكتيكية، فما يجري اليوم يكشف عن نمط متكامل من العلاقات يتجاوز التطبيع “التقليدي” ليصل إلى مستوى الشراكات الاقتصادية والأمنية العميقة التي تعيد تعريف موقعه في الإقليم. نحن أمام بنية كاملة يعاد تشكيلها، تقوم على استثمار الاحتلال في تفكيك المنطقة وتحويل توتراتها الداخلية إلى مصدر ربح واستقرار له، فالاحتلال لم يعد يكتفي بإدارة صراعه مع الفلسطينيين بوصفه شأن داخلي، بل بات لاعبا مركزيا في هندسة الخوف العربي وتوجيهه بعيدا عن وجهته الطبيعية.
في هذا السياق لا يمكن فصل صفقات السلاح والغاز ولا ما هو أخطر منها – من تعاون غير معلن – عن مشروع أوسع يسعى لدمج الاحتلال في قلب المنظومة الاقتصادية والأمنية العربية، فالغاز هنا ليس مجرد طاقة، والسلاح ليس مجرد وسائل قتالية، فكلاهما يعيدان تعريف العدو والصديق، ويحولان الاحتلال من كيان استعماري إلى شريك – لا غنى عنه – في معادلات الأمن والاستقرار العربي، وهكذا يصبح المساس به مساسا بمصالح دول عربية قبل ان يكون موقفا سياسيا.
الاحتلال يدرك جيدا ان اقوى أسلحته ليس التفوق العسكري، بل قدرته على شق الأمة، وكسر كلمتها، وتغذية انقساماتها وتحويلها إلى حالة دائمة من القلق، وسباق محموم للتسلح، وعوضا عن كونه الخطر، جرى ويجري تضخيم أخطار أخرى، بعضها ربما تكون حقيقية، وأكثرها مُهندَسة أو متخيلة، جعلت العربي مطالبا – دوما – بالاستعداد لمواجهة ابن جلدته أو شريكه في اللغة والدين والجغرافيا، معادلة تجعل من الاحتلال وسيطا وخبيرا، وموردا للسلاح والحلول الأمنية.
صفقات السلاح الأخيرة تكشف هذا المنطق بوضوح، فالاحتلال لا يبيع فقط منظومات دفاعية أو تقنيات مراقبة متطورة، بل يبيع سردية كاملة، سردية تجعل أمن الأنظمة مرتبطا بالتسلح المستمر والتعاون معه، وهكذا تتحول حرب الإبادة على الفلسطيني من قضية عربية إلى عبء أخلاقي، وشهادة “جودة” على فاعلية السلاح، وحين تشتري دول عربية أسلحته المتطورة أو تصنّعها، لا تشتري تقنية فقط، بل تستثمر في خبرة قتاليه تم اختبارها على جسد الفلسطيني، لتجعل منه مادة تسويقية، لا جريمة، فهذه الصفقات تعيد تمويل الصناعات العسكرية، محولة الفشل الميداني والجريمة إلى فرصة اقتصادية، وتعوضها عن عقود الغيت، فلا يخرج الاحتلال منها ضعيفا، بل ويروج له كمركز تكنولوجي امني متقدم يخدم الاستقرار والسلم.
في الوقت ذاته يتم استخدام الاقتصاد كأداة ترويض، صفقة الغاز مثال على ذلك، فربط امن الطاقة العربي بالاحتلال يعني تحصينه ضد أي ضغط سياسي، وهكذا تنقلب المعادلة، ويصبح الاحتلال جزءا من الأمن القومي العربي، بينما يظل الفلسطيني عبئا سياسيا يجب احتواؤه بفتات المساعدات، لا بإحقاق الحقوق.
عامان وأكثر من قتل غزة وتجويعها كشفت عن إبعاد أخرى لهذا المسار، *الممرات البرية والبحرية والجوية العربية استخدمت بدرجات مختلفة لخدمة الاحتلال، سواء عبر نقل بضائع أو أسلحة أو حتى عبور مباشر، وأكثر من ذلك، سماء العرب كانت ساحة حرب لدرء المخاطر عنه، جرى تمويلها من جيب المواطن العربي، كل ذلك جرى بينما كانت القمم تعقد، والبيانات تصدر، معبرة عن تضامنها مع غزة*، تناقض لا يعكس ازدواجية خطاب فقط، بل وتحول عميق في منظومة القيم والأولويات العربية.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس من خان ومن تواطأ، بل ما الذي جرى لفكرة الأمة؟ هل بقي بقية من مفهوم الأمة في ضوء هذا المشهد؟ هل حكامها اليوم امتداد لمن سبقوهم؟ أو ورثة تاريخ طويل من الصراع ضد الاستعمار والهيمنة؟ لأن فيما نراه اليوم هو قطيعة معرفية وتاريخية، أخلاقية ودينية، حيث جرى استبدال الذاكرة الجماعية بالمصلحة والهوية بالحسابات الضيقة.
الاحتلال يدرك ان أخطر ما يمكن ان يواجهه هو وحدة الأمة، لذلك استثمر في ابقاء العرب في حالة خوف دائم، واستعداد عسكري، لا يوجه نحوه، بل نحو بين مكونات الأمة، وهذه هي معركته الحقيقية، وهي المعركة التي “نجح” فيها حتى يومنا هذا.
هذا ما كشف، وما خفي أعظم، لان ما يعلن عنه من صفقات ليس سوى قمة جبل الجليد، أو يسر يسير من شبكة أوسع من التنسيق والمصالح، وكسر ذلك لا يكون بالانفعال أو الشعارات، بل بكشف الوقائع، وإعادة ربط الاقتصاد بالأخلاق، والسياسة بالمساءلة، بإعادة تعريف الأمن العربي على أسس مختلفة، امن لا يرى في الفلسطيني تهديدا، ولا في الاحتلال شريكا، ودون ذلك، سيبقى العرب دون الأمم، يتسلحون لمواجهة بني جلدتهم، وسيبقى الاحتلال المستفيد الأكبر من هذا الخراب المنظم.
* كاتب فلسطيني
