عزلة أمريكية إسرائيلية في مواجهة إجماع دولي:أي تداعيات منتظرة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الدولة الفلسطينية؟

 

إن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي، اعتمد «إعلان نيويورك» الذي سبق وأن اعترف بالدولة الفلسطينية المستقلة وتسوية القضية الفلسطينية وفقا لحل الدولتين، إلا أن صدوره بأغلبية ساحقة مثل انتصارا جديدا للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية بعد أن صوتت 142 دولة على القرار، في أول تحالف دولي كبير داعم للدولة الفلسطينية وضع كل من دولة الكيان والولايات المتحدة في عزلة دبلوماسية وسياسية غير مسبوقة.

تحليل / أبو بكر عبدالله

يمكن القول إن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة مثل نقطة تحول استراتيجية مهمة في الدبلوماسية الدولية تجاه القضية الفلسطينية، بعد أن أعادها إلى صدارة الاهتمام الدولي في ظل إجماع دولي غير مسبوق تجاه مطالب إنهاء الحرب في غزة ووقف سياسات التجويع والحصار والاستيطان وفرض حل الدولتين كخيار وحيد مدعوما من الأغلبية الساحقة لدول العالم.

والقرار جاء هذه المرة معززا بدعم دولي غير مسبوق للسلطة الوطنية الفلسطينية في ظل تقديرات تتحدث عن تداعيات قد تعيد صياغة المعادلات الإقليمية والدولية، بما يدفن مشروع الكيان في انتاج واقع جديد يمنع قيام الدولية الفلسطينية.

ومع الإقرار بأن التأثير المباشر للقرار قد يكون محدودا لكونه قراراً غير ملزم قانونيا، إلا أن التداعيات المرجحة للقرار قد تغير المشهد كليا في ظل زخم سياسي ودبلوماسي دولي يتجه نحو تغيير المعادلات الإقليمية والدولية، في ظل الموجة الجديدة من الاعترافات الدولية بفلسطين والمتوقع انطلاقها خلال مؤتمر القمة الدولي المقرر عقده في 22 الشهر الجاري في نيويورك.

ووفقا لنتائج التصويت، فقد صوت مع القرار 142 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة في حين رفضت القرار 10 دول وامتنعت عن التصويت 12 دولة، وهي نتيجة كاسحة مثلت انتصارا دبلوماسيا وسياسيا كبيرا لصالح مطالب الشعب الفلسطيني المشروعة بإقامة دولته المستقلة على التراب الفلسطيني وفقا لحل الدولتين.

إذا استثنيننا دولة الكيان الإسرائيلي، لم تصوت ضد القرار سوى دولتين فقط هما الولايات المتحدة والأرجنتين، في حين أن الدول الأخرى كانت هامشية وتابعة وقرارتها ترتبط بمصالحها مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولديها مبرراتها المعروفة التي دفعتها للتصويت ضد القرار، ما وضع كل من اسرائيل الولايات المتحدة لأول مرة في مواجهة كل دول العالم.

ولعل أهم ما في هذا الحدث هو نتائج التصويت التي أظهرت أن 5 % فقط من دول العالم عارضت القرار، ما أفصح عن عزلة دبلوماسية كبيرة لإسرائيل والولايات المتحدة في هذا الملف.

أهم ما تضمنه القرار هو دعوته للإنهاء الفوري للحرب في غزة ودعم جهود وقف إطلاق النار وتشديده على ضرورة استئناف المفاوضات وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة اقتصاديا وتأكيده على ضرورة تنفيذ حل الدولتين عبر خطوات «ملموسة ومحددة زمنياً ولا رجعة فيها»، فضلا عن دعمه لخطة إعادة إعمار غزة تحت مظلة السلطة الفلسطينية.

القرار الذي كان موضع ترحيب من السلطة الوطنية الفلسطينية، دان حركة المقاومة الإسلامية «حماس» حيال هجمات 7 أكتوبر 2023م، كما أدان الكيان الصهيوني حيال الهجمات على المدنيين في غزة وتدميره البنية التحتية المدنية وسياسته الإرهابية المتمثلة في الحصار والتجويع بحق الشعب الفلسطيني، ناهيك عن مطالبته حماس بإطلاق سراح الرهائن وتسليم الأسلحة إلى السلطة الفلسطينية.

إجماع دولي

بالنظر إلى نتيجة التصويت فقد وافقت على القرار 142 دولة تمثل الأغلبية الكاسحة لدول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة، في حين أن من صوت بـ»ضد القرار» كان فقط 10 دول يعرف الجميع أوضاعها وما يحملها لاتخاذ مثل هذا الموقف، باستثناء الولايات المتحدة والأرجنتين.

وقرار الولايات المتحدة بالتصويت ضد القرار، لم يكن جديدا، فهي دائما تتبنى موقفا يعطي الحق لإسرائيل في ما تسميه «الدفاع عن نفسها» ومعارضة أي إجراءات دولية قد تقوض أمن دولة الكيان، وهو موقف لم يختلف عن مواقفها السابقة التي تعارض أي قرارات أممية تعتبرها منحازة ضد إسرائيل أو تمنح شرعية لدولة فلسطين دون اتفاق تفاوضي مباشر بين الطرفين.

أما الأرجنتين فهي معروفة بانحياز سياساتها الخارجية، لما تمليه المواقف الأميركية والغربية، وهي مواقف غالبا ما تتأثر بعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، فضلا عن الدور الذي يلعبه المجتمع اليهودي في الارجنتين في التأثير على قراراتها الخارجية ولا سيما المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي.

المجر كذلك صوتت برفض القرار كونه يتعارض مع السياسات التي تنتهجها حكومتها اليمينية المحافظة التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الكيان والولايات المتحدة الأمريكية، ومثلها دولة باراغواي التي عرفت تاريخا باتباع حكوماتها المحافظة، المواقف الأمريكية في المحافل الدولية.

وبقية الدول تبدو هامشية وليس لها وزن مؤثر في القرار الدولي مثل دول ناورو، ميكرونيسيا، بالاو، بابوا غينيا الجديدة، وتونغا، وكلها دول صغيرة في المحيط الهادئ وترتبط بعلاقات اقتصادية وعسكرية وثيقة مع الولايات المتحدة، وتتلقى مساعدات مالية منها.

ويمكن قراءة مواقف الدول الرافضة للقرار بصورة عامة على أنها استجابة لواقع ما تعتبره تحالفاً استراتيجياً مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي تبني عليه مواقف ترفض منح الشرعية للدولة الفلسطينية خارج إطار المفاوضات المباشرة، ناهيك عن الاعتبارات الاقتصادية ولا سيما للدول التي تعتمد على المساعدات الأمريكية.

وقد امتنعت 12 دولة عن التصويت، من بينها دول مثل التشيك وغواتيمالا وجنوب السودان، وهو موقف يعكس محاولة هذه الدول عدم تحدي الولايات المتحدة مباشرة أو عدم الرغبة في اتخاذ موقف حاسم في قضايا شائكة قد تؤثر على علاقاتها مع الولايات المتحدة.

ما يؤكد ذلك هو التقارير الدورية التي تكشف عن ضغوط تمارسها الولايات المتحدة على بعض دول العالم للامتناع عن التصويت أو للتصويت ضد القرار، رغم أنها لا تتبنى مواقف مناهضة لإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.

تداعيات محتملة

رغم أن القرار الجديد يعتبر قراراً غير ملزم قانونا إلا أنه حمل وزنا دبلوماسيا وسياسيا كبيرا عكس بوضوح الإرادة الصلبة للمجتمع الدولي تجاه واحدة مع أعقد وأطول قضايا الصراع في العالم.

ذلك أن القرار كشف عن إجماع دولي غير مسبوق على ضرورة إنهاء الحرب في غزة ووقف فوري لإطلاق النار ورفع الحصار وإنهاء المعاناة الإنسانية، وفتح الباب أمام التدفقات المالية الدولية لإعادة إعمار غزة تحت قيادة السلطة الفلسطينية.

والأهم من ذلك تأكيده على تنفيذ حل الدولتين كخيار لا تراجع عنه، وفق خارطة طريق واضحة ومحددة زمنياً، بما في ذلك خطوات «ملموسة ولا رجعة فيها» ودعوته إلى عقد مؤتمر دولي رفيع المستوى في نيويورك في 22 سبتمبر الجاري لمتابعة تنفيذ القرار والمصادقة على الاعتراف بدولة فلسطين وتفعيل آلية دولية دائمة لمتابعة القضية الفلسطينية وضمان تنفيذ القرارات ذات الصلة.

أهمية القرار تتزايد في كونه لم يتعلق فقط بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وحتمية إنشائها وفقا لخيار حل الدولتين وحسب بل قدم كذلك إجماعا دوليا غير مسبوق على ضرورة إنهاء الحرب في غزة كمقدمة لتنفيذ حل الدولتين.

وعلاوة على ما أعطاه القرار من دفعة معنوية للفلسطينيين بدعم نضالهم السلمي من أجل قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، فقد شكل في الوقت ذاته أساسا متينا لموجة جديدة من الاعترافات الدولية بفلسطين وهي الموجة التي من المقرر أن تعلن خلال أعمال مؤتمر القمة الدولي المقرر عقده في نيويورك يوم 22 سبتمبر الجاري، والذي يتوقع أن تعلن فيه عدة دول اعترافها رسميا بدولة فلسطين وفي المقدمة منها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، ما سيعزز مكانة فلسطين في المحافل الدولية ويمهد الطريق لحصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.

بالتوازي، فإن القرار سيشكل ضغطا دوليا غير مسبوق على دولة الكيان الإسرائيلي، قد يضعف الشرعية الدولية لإسرائيل، كما أنه قد يعزلها دبلوماسيا في ظل الإجماع الدولي على قيام دولة فلسطينية مستقلة، والذي قد يمهد الطريق لتداعيات مستقبلة قد تذهب فيها دول العالم نحو فرض حل الدولتين، ووضع الكيان الإسرائيلي تحت طائلة عقوبات اقتصادية وعسكرية في حال استمراره في تجاهل الإرادة الدولية.

ما سيساعد على ذلك هو ارتفاع وتيرة العزلة الدبلوماسية على دولة الكيان والتي يتوقع توسع رقعتها مستقبلا مع إعلان المزيد من عواصم العالم الاعتراف بفلسطين، وهو بلا شك أمر في غاية الأهمية قد يرغم دولة الكيان على مراجعة سياستها الإرهابية التي تمارسها منذ نحو عامين وأكثر في الأراضي المحتلة.

والعجلة لن تقف عند هذا الحد، إذ أن إدانة القرار للهجمات الوحشية الإسرائيلية على المدنيين في غزة وتجريمه سياسات التجويع والحصار، يمثلان سابقة مهمة قد تفتح الباب لمزيد من الملاحقات القضائية ضد المسؤولين في حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية.

ومن جانب آخر فإن القرار ستكون له تداعيات على الداخل الإسرائيلي في كبح توجهات حكومة نتنياهو لتوسيع سرطان المستوطنات، ومساعيها لخلق واقع جديد يمنع قيام دولة فلسطينية، خصوصا مع إفصاح بعض دول العالم عن عزمها فرض عقوبات على المستوطنين والمنتجات الاستيطانية التي ستخضع هي الأخرى للعقوبات الدولية.

مكاسب محققة

ترحيب السلطة الفلسطينية بالقرار كان له ما يبرره، فهو عزز جهودها في الحصول على الشرعية الدولية من خلال الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وتأكيده حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، فضلا عن تعزيز الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية ودعمه لجهود السلطة في للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة.

وبالمقابل، فقد أدركت السلطة الفلسطينية أهميته القرار في كونه سيعمل على عزل إسرائيل دبلوماسيا وسيزيد حجم الضغوط الدولية عليها، بما في ذلك رفع سقف المطالبات الدولية بمساءلة إسرائيل إزاء انتهاكات القانون الدولي وفتح الباب أمام ملاحقات قضائية محتملة في محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة إسرائيل على انتهاكات القانون الدولي.

والقرار بصورة عامة مثل دعما مهما وكبيرا للسلطة الوطنية الفلسطينية خصوصا وهو منحها تفويضا دوليا لإدارة المفاوضات المستقبلية وتفويضا في قيادة مشروع إعادة إعمار غزة ومواجهة محاولات الكيان فرض واقع جديد على الأرض أو التهام مناطق جديدة في الضفة الغربية أو الاستمرار في سياسات التهجير القسري.

أكثر من ذلك تعزيز دور السلطة الوطنية الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في الداخل وفي المحافل الدولية، وهو الموقف الذي يجهض المساعي الإسرائيلية لتحييد السلطة الوطنية الفلسطينية عن المشهد.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعلن القرار بوضوح رفضه أي تغييرات ديموغرافية أو إقليمية ناتجة عن الاحتلال، بما في ذلك التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين.

ويمكن اعتبار أن القرار أساسا قد يعزز الموقف القانوني الفلسطيني في المحاكم الدولية ويوفر سندا قويا لقضايا الحقوق التاريخية، كما يرسخ مبدأ عدم شرعية الاستيطان ويشكل سنداً للمقاومة السلمية والعمل الدبلوماسي.

مراجعات منتظرة

التوقعات تشير إلى أن هذا القرار سيؤثر على المواقف الدولية بشكل كبير لصالح القضية الفلسطينية، خصوصا وانه منح المزيد من الشرعية الدولية لحل الدولتين بوصفه الخيار الوحيد القابل للتطبيق، كما سيشكل مستقبلا ضغطا أخلاقيا وسياسيا على الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين مثل ألمانيا وإيطاليا، خصوصا مع اعلان دول مثل فرنسا وبريطانيا وكندا خططا للإعتراف الرسمي بفلسطين خلال قمة سبتمبر المقبلة.

والعزلة الدبلوماسية التي أنتجها هذا القرار ستدفع بلا شك بعض حلفاء الكيان إلى مراجعة سياساتهم خصوصا مع تزايد الانتقادات الدولية للإجراءات الإسرائيلية في غزة والضفة.

والمأمول أن يعمل هذا القرار على نقل جزء من قيادة عملية السلام من الولايات المتحدة التي توصف بأنها وسيط منحاز، إلى أطراف دولية أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والدول العربية، مما قد يخلق توازنا جديدا في الدبلوماسية الدولية.

عقبات في الطريق

كل التقديرات تشير إلى أن التداعيات المتوقعة لهذا القرار ستكون وخيمة على إسرائيل على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

والسيناريو الأقرب هو أن يؤدي القرار إلى تصاعد الضغط الدولي على حكومة الكيان الإسرائيلي وحملها على تغيير سياساتها والموافقة على مفاوضات جادة، تعيد إلى الطاولة خيار حل الدولتين، وإرغامها على وقف سياساتها الاستيطانية وتوجهاتها المعلنة لإحداث تغييرات على الأرض تمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة وكذلك توجهاتها في تصفية القضية الفلسطينية بسياسات التدمير الشامل والتهجير القسري.

لكن المشهد لن يكون إيجابيا تماما، فهناك عقبات قد تحول دون تحقيق النتائج المرجوة من القرار وفي المقدمة استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل في استخدام الفيتو لحمايتها في مجلس الأمن وهو أمر قد يقلل من تأثير القرار.

ولا شك أن الانقسام الفلسطيني سيؤثر أيضا على القرار وتداعياته المتوقعة، إذ أنه وبدون مصالحة وطنية وحكومة موحدة، ستواجه العديد من عواصم العالم صعوبات كبيرة في تنفيذه.

ومن غير المستبعد أن تلجأ حكومة الكيان إلى التشبث بموقفها وتحدي المجتمع الدولي، مما يدفع نحو المزيد من التصعيد والعنف الذي قد تزداد ضراوته في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي، وهو أمر قد تلجأ معه حكومة الكيان إلى الخداع بالذهاب إلى خفض مستوى حرب الإبادة التي تشنها في قطاع غزة وإبطاء وتيرة مشروعها في التوسع الاستيطاني لضمان بقاء الوضع الراهن كما هو دون الشروع بخطوات تعزز الحل الحقيقي للأزمة.

واستنادا إلى حالة الانقسام الحاصلة في المشهد الفلسطيني، فإن السؤال الهام هو في مدى قدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على تجاوز التحديات التي قد تعرقل طموحاتها في تحويل المكاسب الدبلوماسية والسياسية التي تحققت نتيجة القرار الأممي إلى واقع ملموس.

قد يعجبك ايضا