ماذا حدث في اليوم التالي لـ30 نوفمبر¿


استطلاع / صقر الصنيدي –

على مسافة طويلة من تاريخ لا يمحى نقف بإجلال أمام الثلاثين من نوفمبر يوم انصرف آخر جنود الاحتلال البريطاني عن عدن, تاركا خلفه ما يعتقد أنه النهاية لأمه كاملة , وعلى عكس ما ظن فقد كانت البداية ترسم من أجل المستقبل الجديد ولابد أن يكون بين هؤلاء الرسامون الجيل المتحمس من الشباب الذين احتاجوا وقتا ليجتمعوا تحت راية الحزب الاشتراكي اليمني ومع كل الصراعات التي اعقبت الخروج البريطاني وحاولت أن تثني الجميع عن نيل مطالبهم وتكسير ليس فقط قلوبهم بل أحلامهم ظلت الأهداف الثلاثة حاضرة , ويمكن اعتبارها الخطوط العريضة للبناء والتي تضمنها الشعار المرفوع في أول مؤتمر للحزب الاشتراكي في 1978م وسط عدن المدينة الحاضنة لكل من قصدها مستنجدا .

كانت الأهداف إرادة للتخلص مما خلفه الاستعمار ورغبة لحياة وأفق أوسع, ويمكن أن نقف مع الباحث أحمد صالح الجبلي من مركز الدراسات والبحوث صاحب دراسة تركزت على الأهداف الثلاثة وخرجت بحصيلة جيدة عن المرحلة التي أعقبت اليوم الأخير من نوفمبر ومن حياة بريطانيا في اليمن الجنوبي كما كان يعرف .
أيها الرفاق الأعزاء :
لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية .
تحت هذا الشعار يعقد الحزب الإشتراكي اليمني مؤتمره الأول في مدينة عدن في الفترة ما بين 11-13 أكتوبر 1978م .
كانت القاعة الممتلئة بهذه الكلمات على حيطانها وعلى ألسنة وقلوب الحاضرين تحدد ملامح المستقبل القريب .
ويقف الجبلي عند تحليل الشعار ومقصده ويقول لنلق نظرة على النداء في بداية الشعار “لنناضل من أجل” والتي بتقديرنا من قبيل المقدمة النافلة التي تسيء إلى صورة الشعار. فهل يمكن تطويع الهدف في شعار بصيغة بديلة¿ نعم يمكن ذلك. فعوضاٍ عن “لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية” يمكن صيغة ذلك مثلاٍ في النداء التالي: “الثورة تنادينا” أو “الثورة في خطر”.
وبالطبع لا يجوز رفع هذا الشعار إلا إذا كانت الثورة في ذلك الحين محفوفة بالمخاطر القاتلة. أما أن ندعو الجماهير بمثل هذا الشعار في حين أن الثورة تواجه المصاعب والمخاطر المعتادة والتي يمكن مجابهتها ودون استعظام تلك المخاطر والمصاعب أو الاستهانة بها فإننا بذلك نكون قد أربكنا الجماهير بتصويرنا الحالة التي هي عليه الثورة بأنها الخطر الداهم الذي يحيط بها بينما الحقيقة هي على غير ذلك .
يسري ذلك على الجزءين الآخرين من الشعار بصرف النظر عما إذا كان هذان الجزءان يمتلك كل منهما مقومات الشعار الرئيسية .
لقد توصلت الدراسة الحديثة للجبلي إلى أن الهدف الأول مرتبط بالهدف الثالث, أي أنها أهداف لا تضع أي اعتبار للجغرافي التي ورثها المحتل ونترك المجال للباحث كي يفصل أكثر .
ومع ذلك لا مفر من أن يواجه المرء التساؤل إزاء الثورة المقصودة في الشعار: الدفاع عن أية ثورة: ثورة سبتمبر أم ثورة أكتوبر أم المقصود أن الثورتين ليستا إلا موجتين أو وجهين أو مرحلتين لثورة واحدة هي الثورة اليمنية الديمقراطية. ذلك أننا نقف في بعض النصوص أو يفهم منها على الأقل على أن الثورة اليمنية ثورة واحدة كما جاء في كلمة الافتتاح التي ألقاها الأمين العام في المؤتمر الأول للحزب, حيث يشير إلى أن “نظرتنا الوحدوية لقوى الثورة اليمنية تفرض بالضرورة من حيث المبدأ على حزبنا الاشتراكي اليمني أن ينطلق في معالجاته لمختلف قضايا الثورة من وحدة أهداف شعبنا.. وأن ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر هما تجسيد حي لمسيرته النضالية الواحدة”.
وبمثل هذا الفهم نقرأ في الفصل السادس من برنامج الحزب الفصل الأول: القضية الوطنية اليمنية بأن استراتيجية الثورة اليمنية مرتبطة عضوياٍ ودون انفصام بوحدة ثورتي سبتمبر وأكتوبر كوحدة تتوج وحدة الأرض والشعب اليمني وبالتالي وحدة مصالحه المشتركة .
لقد كانت تطلعات السياسيين المعاصرين لكل الويلات أكثر نضجا من مراحل تالية يتخلون فيها عنما كان كل إيمانهم ومقصدهم ومسعاهم النبيل وهو ما سيحاول الجبلي إيضاحه بصورة أوسع.
ويرى أن الفهم الشائع لدى الحزب الاشتراكي اليمني آنذاك عند رفع الشعار أن الثورة في الشمال لم تستطع مواصلة مسيرتها.. وأجهضت.. بينما استطاعت الثورة في الجنوب مواصلة تحقيق مهامها الوطنية الديمقراطية.. وبما أن الدفاع يعني على وجه التحديد الذود عن مقام وضع كائن قائم فعلاٍ لا افتراضياٍ فإن السؤال البديهي: إذا كان بإمكان الحزب الدفاع عن الثورة في الجنوب حيث يحكم ومن ثم يملك كل وسائل الدفاع عن الثورة في الجنوب فمن غير المفهوم كيف يمكن للحزب الدفاع عن الثورة في الشمال حيث يحكم خصومه السياسيون¿ هذا أولاٍ. وثانياٍ إذا كان الدفاع عن الثورة أي ثورة هو الدفاع عن مصالحها وقواها الاجتماعية ومؤسساتها وإنجازاتها إلخ.. فكيف له أن يدافع عن وضع هو بصدد الإطاحة به¿ إن ذلك شبيه بصنع الدائرة المربعة أو الكرة المكعبة .
ويستمر الرأي الذي ذهب إليه الباحث استنادا إلى موقف جديد للحزب فيما بعد ويقول :
غير أننا في مكان آخر نعثر وبصريح العبارة على أن المقصود بـ”الدفاع عن الثورة” هو الدفاع عن ثورة أكتوبر كما هو بين في النص التالي من برنامج الحزب الفصل الأول: القضية الوطنية اليمنية: “إن جماهير الشعب اليمني قد ناضلت في الشمال والجنوب من أجل حماية سبتمبر كما شاركت في النضال ضد الاستعمار البريطاني وسوف تستمر تناضل في الإقليم كله من أجل الدفاع عن ثورة أكتوبر وتلاحم الثورتين اليمنيتين”. أي أن ثورة سبتمبر ليست بحاجة الآن إلى من يدافع عنها (بعد أن انتصرت وحققت كامل أهدافها¿!) ويأتي الآن الدور على ثورة أكتوبر للدفاع عنها من قبل كل الجماهير اليمنية من أجل “”تلاحم الثورتين اليمنيتين.
وبالانتقال إلى الهدف الثالث في الشعار وفي توجهات الأطراف السياسة والحركات الأخرى وهو الوحدة اليمنية التي كانت من أساسيات العمل المشترك بين جميع الأطياف السياسية في عدن ويشرح الجبلي بقوله :
قبل المؤتمر الأول للحزب لم يكن شعار “الوحدة” أحد مكونات شعار الحزب لأن الاعتقاد كان سائداٍ لدى الأحزاب الثلاثة التي كونت “الحزب الاشتراكي” بأن الخطوة التي كانت تسبق توحيد الوطن تتمثل في توحيد أداة الثورة اليمنية الأمر الذي تحقق في “الحزب الإشتراكي اليمني”. فقد جاء في برنامج الحزب. “الفصل الأول: القضية الوطنية اليمنية”
“إن إستراتيجية الثورة اليمنية مرتبطة عضوياٍ ودون انفصام بوحدة ثورتي سبتمبر وأكتوبر كوحدة تتوج وحدة الأرض والشعب اليمني وبالتالي وحدة مصالحه المشتركة.
وكذا مرتبطة بوحدة الأداة على صعيد الإقليم كله لكي تتمكن من تحقيق الأهداف الإستراتجية التاريخية لشعبنا اليمني.
ذلك أن “أداة الثورة اليمنية الطليعية السياسية لشعبنا تعتبر صمام الأمان الوحيد الذي به فقط تتم مواصلة مسيرة الثورة بثبات قبل الوحدة وبعدها نحو بناء اليمن الجديد .
بطبيعة الحال لم يعدل الحزب الاشتراكي عن الطريق العام الذي تبنته عموم الحركة الوطنية أو التفكير السياسي في اليمن عموماٍ إزاء الوحدة. فغير خاف على أن موضوع الوحدة اليمنية كان من أهم الأهداف الوطنية التي نادى بها معظم أطراف الحركة السياسية منذ نشأتها في النصف الأول من القرن العشرين .
إذا لقد كان الاتفاق على الوحدة اليمنية سائدا بين المختلفين على المسائل الاخرى وكانت الوحدة ثمرة من شجرة الانتصار على الغزاة الأجانب ولم تكن مجرد مخرج من مشاكل قائمة وفي هذا رد لكثيرين ممن يدعون خلاف ما كان حاصلا بالفعل حتى قبل ظهور الحركات السياسية المكونة من مختلف الأنحاء فقد سبق للسياسيين قبل أن تضمهم الحركات أن تفانوا في السعي نحوها كهدف أساسي للتقدم وهو ما تذهب إليه دراسة الجبلي :
أما النزعة الوحدوية لدى القيادات السياسية والاجتماعية التقليدية قبل نشأة الحركة السياسية المنظمة الحديثة فقد كانت ترد في التفكير السياسي لدى بعض النخب التقليدية عند بعض الأحداث السياسية الهامة في البلاد. ولعل أول ورود لهدف الوحدة اليمنية ولاحت إمكانية تحققه عملياٍ على الأقل في تفكير أصحابه كان في نهاية الحرب العالمية الأولى عندما انخرط العديد من أبناء الشعب اليمني في الشمال والجنوب في القتال مع العثمانيين ضد الاحتلال البريطاني .
ذلك أنه بعد أن “قاتلوا الإنجليز قتالاٍ مريراٍ وقدموا أنفسهم وأموالهم بجانب الأتراك أربع سنوات واسترجعوا جميع الأجزاء في الجنوب ولم يبق غير عدن وحدها محصورة من كل جانب.
ولما وضعت الحرب أوزارها.. طلب القائد التركي علي سعيد باشا من حكومة الإمام أن تبعث من يتسلم هذه المناطق كلها ونصح اليمنيين جميعاٍ بالوئام والإتفاق” بعد ذلك “ذهب رؤساء اليمن ومشايخها (بالياء في الأصل – أ.ج.) إلى صنعاء يستقبلون حكومة الإمام ويطلبون منها العون السريع للاحتفاظ بما قد حرروه من الاستعمار فلم يقبل منهم أي رأي أو مقترح بل قبض عليهم وزج بهم في ظلمات السجون. فقد كان الإمام على اتصال بالإنجليز بواسطة القاضي العرشي مندوبه الرسمي الذي كان مقيماٍ في عدن منذ بدء الحرب العالمية الأولى وبواسطة بعض أمراء الجنوب الذين يرهبون الوحدة اليمنية”.
وبشكل متماسك ينتقل الباحث إلى الربط بين ما كان يحدث في الماضي وما هو حاصل اليوم ويرى أن من خلال الكتلة السياسية التي نجحت في رسم الخطوط الأولية لليمن يمكن السير حاليا بثقة ويقول :
أحاول وأجرب القول هنا أن شعار “الوحدة” – وعلى هذا القياس الإصرار في هذه الأيام على بقاء “الدولة المركزية” من قبل بعض القوى السياسية ورفضها للدولة الاتحادية – ليس بإمكانه أن يشكل ولا ينبغي أن يشكل عصا فكرية غليظة حيال اجتهاد التفكير السياسي إن كان الهدف هو رفع الظلم والغبن بشتى أنواعهما وصورهما عن الشعب اليمني أو عن أي جزء منه .
عموماٍ ما كان من الأهداف التي يشير إليها شعار الحزب (لنناضل من أجل..) إلا هدف “الوحدة اليمنية” الذي يسري عليه مفهوم الشعار السياسي أما موضوعات “الدفاع عن الثورة” و”تنفيذ الخطة الخمسية” فليست إلا مهاماٍ عامة ما كان يجوز لها أن ترفع شعاراٍ للحزب. هذا أولاٍ. وثانياٍ نزعم أن رفع المهام العامة التي هي بمثابة واجبات يومية في شعارات لا يمكن تفسيرها سياسياٍ – بصرف النظر عن النوايا – إلا أن هذه المهام يواجهها خلل بنيوي في تكوين من رفعها إلى مستوى الشعار .
أما علاقة هدف الوحدة ورفعها إلى مستوى الشعار من قبل الحزب الإشتراكي فأمر يمكن فهمه إذا وضعنا في الاعتبار أن لهذا الشعار شعار الوحدة وظيفة سياسية هي أنها علامة رمزية على رفض الحزب لواقع التشطير وأنه يسعى على الدوام باتجاه تحقيق الوحدة وبالطرق السلمية كما تشير وثائقه. ويفهم ذلك بصورة أوضح إذا ما استدركنا الوضع السياسي القائم في الفترة التي جرى فيها التحضير للمؤتمر الأول للحزب ثم انعقاده في أكتوبر من عام 1978م.
كما يمكن القول أن هدف الوحدة يمثل تحقيقه المنعطف الرئيسي – حسب رؤية الحزب الاشتراكي اليمني – في مسار الثورة الوطنية الديمقراطية في اليمن .
بالمجمل يمكننا القول أن اليوم الأخير من نوفمبر كان يوما ومازال ناصعا في تأسيس حراك حقيقي يمتلك قناعة ليست مقامة على الآنية والانفعال بل على أساسات ثابتة إلى حد معقول , وهو يوما يجعلنا نفكر مجددا قبل القفز فوق أي مسار ونحو أي اتجاه أن الصدفة لم تكن ما يتحكم بتطلعات وآمال الناس بل الضرورات والمصلحة وكل الروابط التي يمكن التفكير فيها وتقديرها وليس إنكارها كما لو كانت طارئا يمكنه الزوال بزوال السبب.

قد يعجبك ايضا