بناء الدولة لم ينته بعد وخلافات الحكم تهدِّد البناء الهش

هل تفتح أزمة الانتخابات الصومالية الطريق لسيناريو الصراع المسلح ؟

تتحاشى النخب السياسية الصومالية الخوض في الأسباب الكامنة وراء الأزمة السياسية العاصفة في الصومال حاليا رغم أنها غير بعيدة عن الإخفاق المتكرر في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كان مقررا الانتهاء منها يوم 24 ديسمبر الماضي، بينما يلوّح الانسداد الحاصل في العملية الانتخابية بتداعيات أمنية خطيرة بدأت ملامحها بالظهور بانقسام قوات الجيش وتشكيل المليشيات المسلحة التي تهدد بانزلاق الصومال من جديد إلى دوامة الحرب الأهلية.
“الثورة”/ تحليل / أبوبكر عبد الله

لا يبدو أن أزمة الانتخابات التشريعية والرئاسية المتعثرة في الصومال ستكون استثناءً، فالتاريخ السياسي لهذه الدولة الملبد بالحروب والأزمات، لا ينفك أن يعيد إنتاج نفسه بمظاهر استعصاء الحلول وتضييع الفرص.
وما حدث مؤخرا من مواجهات سياسية بانتزاع الصلاحيات بين الرئيس المنتهية ولايته محمد عبدالله «فرماجو» ورئيس الحكومة محمد حسن روبلي، يقدم شاهدا إضافيا، خصوصا بعد أمر رئيس الحكومة قوات الجيش بتلقي الأوامر منه مباشرة، وشروعها باستعراض القوة في شوارع العاصمة مقديشو، ما فتح الباب لمرحلة جديدة من الصراع، تتفاعل حاليا في معسكرين صارا على شفا المواجهة المسلحة.
هذا المشهد جاء على خلفية الانسداد الحاصل في العملية الانتخابية وأثار قلقا داخليا واسعا، كما أشاع قلقا دوليا عبرت عنه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة الأمريكية، الذين دعو في بيان مشترك قادة الصومال إلى وضع مصالح البلاد أولوية وتهدئة التوترات السياسية المتصاعدة والامتناع عن الاستفزازات أو استخدام القوة التي يمكن ان تقوض السلام والاستقرار.
وهذه المرة هي الرابعة التي انتظر فيها الصوماليون من نخبهم السياسية إنجاز الانتخابات التشريعية، لكنها تعثرت قبل أن تصل إلى خط النهاية؛ فمن بين 275 نائبا كان يُفترض انتخابهم ممثلين عن أقاليم الصومال الخمسة، أفضت العملية إلى انتخاب 24 نائبا فقط، جميعهم يواجهون شبح الطعون.
خلال عام أدت الخلافات الصغيرة بين الفرقاء الصوماليين إلى إخفاق متوال بتنظيم الانتخابات التشريعية وتعثر علمية انتقال سلمي للسلطة كان الصوماليون يتطلعون إليها بانتخاب رئيس جديد، أملا في إرساء قواعد جديدة في الحكم تطوي سجلا طويلا من الصراع المسلح في هذا البلد الذي مزقته الحروب.
لكن النخب السياسية الصومالية ربما لم تتوقع أن يؤدي الجمود السياسي إلى تطور الخلافات الصغيرة، لتصل إلى حد الانقسام والمواجهات المسلحة بين الرئيس المنتهية ولايته محمد «فرماجو» ورئيس الحكومة محمد روبلي، وبين الاثنين وتيارات الإنقاذ المعارضة التي تشكلت أخيرا من مجلس حكام الأقاليم واتحاد مرشحي الرئاسة، وسط توجهات علنية لتشكيل جيش مواز للجيش النظامي بعدما أعلنا عدم الاعتراف بشرعية الرئيس ومطالبتهما بتشكيل حكومة مؤقتة لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
وبدأت أزمة الانتخابات الصومالية أواخر العام الماضي عندما أخفق الرئيس «فرماجو» بتنظيم الانتخابات، ثم تعيينه في مايو العام الماضي محمد روبلي رئيسا للحكومة وتكليفه مهمة الاعداد للانتخابات الرئاسية قبل أن يعلن تمديد ولايته الرئاسية عامين.
وأثار قرار التمديد معارضة واسعة في مقديشو والأقاليم الصومالية، بما في ذلك رئيس الحكومة روبلي الذي كان قد أفلح في جمع كل الأطراف لمفاوضات خلصت إلى اتفاق على جدول زمني للانتخابات، قبل أن يطيح قرار آخر أصدره الرئيس فرماجو نهاية العام الماضي، وقضى بسحب ملف الاشراف على العملية الانتخابية من رئيس الحكومية ردا على قرار لجنة الانتخابات الفيدرالية سحب الثقة من رئيسها محمد حسن عرو، لتطيح هذه التداعيات بآخر قلاع الترتيبات الانتخابية والتوافقات المحققة خلال الفترة الماضية دفعة واحدة.
هذه التطورات لم تكن في معزل عن تفاعلات سابقة كانت خلّفت تداعيات سياسية وعسكرية برزت إلى الواجهة في أبريل الماضي بانقسام الجيش الصومالي في العاصمة مقديشو، حيث دارت مواجهات محدودة أعقبتها عمليات تمترس قطّعت أوصال العاصمة وأرغمت بعض السكان على الفرار، كما أضعفت قدرات الجيش الصومالي في مناطق الأرياف حيث يقود مواجهات مع مسلحي «حركة الشباب المجاهدين القريبة من تنظيم «القاعدة».

اصطفاف معارض
لم تكن المعارضة السياسية والعشائرية هي الوحيدة التي رفضت قرار الرئيس فرماجو بالتمديد وسحب ملف الانتخابات من رئيس الحكومة، فقد ظهرت تاليا مواقف دولية كانت مجمعة على رفض التمديد وتدين الرئيس المنتهية ولايته بعرقلة العملية الانتخابية ومحاولة تجييرها لصالحه، ما أرغم «فرماجو» في وقت لاحق على إعلان التخلي عن قراره بالتمديد والرضوخ للمطالب الداخلية بتنظيم الانتخابات.
لكن الخلافات بين الرئيس ورئيس الحكومة سرعان ما اشتعلت، بعدما حاول الأخير قطع الطريق أمام الطموحات الخفية لفرماجو بالترشح لولاية ثانية من خلال إقالة مقربين من الرئيس من مناصبهم وتعيين شخصيات معارضة للرئيس الذي أصدر بدوره مرسوما رئاسيا جمّد فيه الصلاحيات التنفيذية لرئيس الحكومة، وهو المرسوم الذي رفضه رئيس الحكومة باعتباره « غير دستوري» كونه جاء بعد انتهاء ولاية الرئيس وانتقال سلطاته إلى رئيس الحكومة بموجب المادتين 91 و103 من الدستور المؤقت.
هذه التداعيات جعلت الصومال للمرة الأولى منذ العام 2012م حيث تمت آخر عملية انتقال سلمي للسلطة، في حالة فراغ دستوري من البرلمان والرئيس الشرعيين اللذين انتهت ولايتهما منذ حوالي سنة، زادت من ذلك التجاذبات التي وصلت إلى اللجنة الفيدرالية للانتخابات، ما أفقدها القدرة على إدارة العملية الانتخابية.
وقلصت هذه التطورات هامش المناورة لدى الرئيس «فرماجو» الذي وجد نفسه بعد تعطل عمل اللجنة الفيدرالية للانتخابات محاصرا وخصوصا بعدما حصل رئيس الحكومة محمد روبلي على دعم كبير من الولايات المتحدة التي تحفظت على قرار تعليق مهام روبلي وإعلانها دعم جهوده لإجراء انتخابات سريعة وذات صدقية فضلا عن إعلانها الاستعداد للتحرك في وجه من يعرقل طريق الصومال نحو السلام معتبرة الإسراع في اجراء الانتخابات الحل الوحيد للخروج من الأزمة.
زاد من ذلك تأييد اتحاد المرشحين لرئيس الحكومة ودعوتهم الرئيس «فرماجو» إلى الاستقالة فورا، واتهامه صراحة بقيادة انقلاب ومطالبتهم باتخاذ إجراءات قانونية ضد «فرماجو» وكل من ساعده «في الانقلاب الفاشل الذي حاول تدمير الهيئات الدستورية في البلاد».

اختلال القواعد
يعزي أنصار الرئيس المنتهية ولايته محمد «فرماجو» تعثر الانتخابات إلى إخفاق حكومة روبلي في تنظيم الانتخابات، والخلافات العشائرية والسياسية التي أعاقت عمل اللجنة الفيدرالية للانتخابات.
غير أن الأوساط السياسية الصومالية المعارضة تتحدث عن أسباب أخرى، على صلة بطموحات الرئيس المنتهية ولايته إلى الترشح لولاية رئاسية ثانية، مدعوما من أطراف إقليمية تسعى لتثبيت سلطته، بما يحقق مصالحها في هذه الدولة المهمة في شرق إفريقيا.
ورغم صدقية بعض هذه العوامل إلا أنها ليست كل شيء، فأكثر ما يمكن ملاحظته في تجربة صومال ما بعد الحرب، أنها أنتجت دولة بمؤسسات هشة، كما أنتجت تشريعات مؤقتة لم يلتفت أحد لمنحها مستوى مناسباً من الشرعية، فضلا عن إنتاجها توافقات هشة للسلام والشراكة الفيدرالية، أخفقت كل الحكومات السابقة في منحها شروط البقاء، وخلفت تراكما للأزمات وحالة من انعدام ثقة بين الأطراف التي نبذت حقبة الصراع المسلح لكنها واقعا أبقت أسلحتها مخبأة خلف الظهور.
ورغم أن الدستور الصومالي كان من أكثر الدساتير في العالم كلفة، حيث بلغت كلفة صياغته نحو 16 مليون دولار إلا أنه خرج ناقصا، وأقر بصفة مؤقتة، ما خلف مشكلات عميقة ليس اقلها تضارب الصلاحيات بين رئيسي الدولة والحكومة، في غياب المحكمة الدستورية المعنية بتفسيره، ناهيك عن عدم تحديده آليات واضحة لانتقال السلطة في حال تعثر الانتخابات وغيرها من النواقص التي يهدد التعامي عنها بجر الصومال إلى نفق مظلم.
وحتى النظام الانتخابي بقي في أضيق مستوياته بالانتخابات غير المباشرة، التي كان مقررا أن تنتقل إلى الانتخابات المباشرة ابتداء من انتخابات 2020م، وتعثرت رغم إقرار البرلمان الصومالي قانون الأحزاب السياسية في 2016م وإرجاء تطبيق نظام التعددية الحزبية انتخابيا إلى أجل غير مسمى.

تحديات الدولة الهشة
الخلل في بناء الدولة الهشة ظل يلازم تجربة الدولة الصومالية الحديثة لأكثر من عقد، فبعد تجربة صراع مرير خاضه الصوماليون لأكثر من 30 سنة، اُعيد بناء دولة الصومال بدعم خارجي بالآلية ذاتها التي تم فيها إعادة بناء دولة أفغانستان بعد الاجتياح الأمريكي وانهيار حكم طالبان، دون أن يستفيد الصوماليون من الفرصة التاريخية في ترسيخ قواعد بناء الدولة القادرة على الصمود أمام العواصف.
والاعتماد على القوات الخارجية لحفظ السلام والمساعدات الخارجية لتسيير شؤون الدولة والجيش، جعل حال الاستقرار الهش مرهوناً ببقاء هذا الدعم، خصوصا مع ضعف البنية العسكرية للجيش الصومالي الذي لا يزال يتقاضى رواتبه من جهات خارجية بحوالي 60.2 مليون دولار سنويا.
وبعد انسحاب القوات الأمريكية والاثيوبية من مقديشو، وقرب انتهاء ولاية القوات التابعة للاتحاد الإفريقي «أميسوم» التي يفترض أن تُسلم مهام حفظ الأمن للقوات الصومالية في يناير الجاري، فإن تصاعد الأزمات السياسية وانسداد أفق الحل السلمي، يجعلان من فرص صمود الدولة أمام هذه العواصف امرا مستبعدا، ويعزى ذلك إلى أن هذه القوات هي من استطاعت إعادة الاستقرار للعاصمة مقديشوا منذ العام 2008م بتنظيفها العاصمة من المليشيا المتطرفة، ومساندتها القوات الصومالية لفرض سيطرتها على كامل الخارطة الصومالية كما هيأت الطريق لأول عملية انتخابية وانتقال سلمي للسلطة عام 2012م.
هذا المشهد تغير كليا اليوم، بعد الانقسام الذي خلفته الأزمة الانتخابية في صفوف الجيش الصومالي حاليا، ما يضعه أمام امتحان كبير للصمود، ناهيك عن التحديات التي قد يواجهها في حربه ضد مسلحي حركة الشباب الصومالية المتربصين بالعاصمة، سيما مع إعلان الولايات المتحدة وقف غاراتها بالطائرات المسيرة، في الدول التي لا توجد بها قوات أمريكية دون موافقة «البيت الأبيض»، ما قد يضعف قدرات الجيش الصومالي في مواجهة خطر الإرهاب المتربص بالعاصمة.

ما العمل؟
يراهن المجتمع الدولي على أن إنجاز الانتخابات التشريعية والرئاسية يمكن أن ينهي مفاعيل الأزمة السياسية ويقلل فرص الانهيار المفاجئ للدولة الصومالية، غير أن الخلافات السياسية وتفاقمها يحول دون تنظيمها، مع فشل الضغوط الناعمة التي قادها المبعوث الأممي إلى الصومال جيمس كرستوفر في حمل الأطراف المتصارعة على استكمال إنجاز الاستحقاق الانتخابي.
ومن الواضح أن هناك حاجة ملحة لتصعيد المجتمع الدولي والأمم المتحدة الضغوط على القادة السياسيين بما في ذلك استخدام سلاح العقوبات الدولية لمن يعرقلون الانتخابات، للخروج من الانسداد الحاصل.
هذا المسار فقط من شأنه أن يفسح المجال لتعزيز قوة مؤسسات الدولة وتوحيد الجيش الصومالي للقيام بدوره في حفظ الأمن العام ومواجهة تهديد الأذرع المحلية لتنظيم «القاعدة، كما سيقطع الطريق أمام أي مغامرات ذات نزعة عشائرية للانقسامات بتشكيل قوات موازية للجيش النظامي، في حين أن القطيعة الدولية مع الصومال في هذه الظروف، ستقود حتما إلى تعقيدات قد تقوض الأمن الهش في شرق القارة الافريقية.
والانشقاقات التي حصلت في صفوف الجيش الصومالي بدت مؤخرا على أنها بدت سياسية، إلا أنها لم تكن بعيدة عن الدوافع العشائرية والعرقية، وهو وضع ربما يقود إلى انقسام أعمق، خصوصا أن الجيش الصومالي لا يزال يتألف من مليشيا عشائرية خاضت الكثير من الحروب في معادلة الصراع على السلطة والموارد.
وعلى أن الرئيس «فرماجو» يريد الحفاظ على استقرار الصومال لحين انتخاب رئيس جديد، إلا أن المعطيات على الأرض قد تجعل هذا الهدف غير قابل للتحقق، في حال لم يسارع بخطوات والتزامات تعزز الثقة بتنفيذ الاتفاقيات السابقة، وتقليص حضور مؤيديه في اللجان الانتخابية كون بقائهم فيها يعني إلقاء المزيد من الشكوك على نزاهة الانتخابات وبالتالي رفضها كليا.
وبالإضافة إلى التداعيات الخطيرة لازمة الانتخابات المتعثرة، فإن المرجح أن تبقى قضية الدستور المؤقت عامل تهديد يلوح بالمزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية في ظل دفع بعض القوى الإقليمية أطرافا محلية للاستمرار بالعمل به رغم المشكلات التي خلفها تطبيقه على الواقع.
المؤكد أن تعثر الانتخابات الصومالية سينتج واقعا سياسيا معقدا، ربما يفقد معه الصوماليون الكثير من التقدم الذي أحرزوه في العقدين الأخيرين في انهاء الصراع المسلح وبناء هياكل الدولة الفيدرالية، ما يجعل قرارات الرئيس فرماجو في الفترة المقبلة المحك لرسم ملامح المستقبل الآمن للصومال أو العودة به إلى دهاليز صراع لن ينتهي.
وما حدث في أبريل الماضي في العاصمة التي شهدت في ساعات قليلة اشتباكات مسلحة اعقبتها انشقاقات في الجيش ونصب متارس مزقت أوصالها بسرعة فاقت التوقعات، يمكن أن يعطي للقادة الصوماليين أوضح صورة للانهيار الشامل الذي قد يحدث في ساعات في حال إخفاقهم في المسار السياسي.
إن الحقيقة الماثلة اليوم تؤكد أن الصومال لم يتعاف بعد ولا يزال أمامه الكثير لبناء الدولة.
وفي ظل مجتمع قبلي تصل فيه نسبة الأمية إلى 80% ومهدد بشبح الانقسام والمجاعة والجفاف، فإن كل معطيات الأزمة الراهنة تنذر بمرحلة صراع مريرة، في حال لم يتداركها الصوماليون بتوافق على تنظيم انتخابات سريعة تؤمِّن انتقالا سلمياً للسلطة، ودونها يعني صراعاً طويلاً قد يدخل الصومال من جديد في دائرة النسيان.

قد يعجبك ايضا