ينبعث الصوت من أعماق الضمير نصرة للقرآن الكريم وغضباً له، قبل أن يتشكل حروفاً وكلمات، لأن القضية هنا تتجاوز بكثير كونها ردة فعل طارئة أو عاطفة عابرة.
إنها مسألة تمس صميم الهوية والوجود وتستند إلى إيمان راسخ بجوهر هذه الأمة وحقيقة رسالتها في العالم.
فالقرآن ليس كتاباً عادياً، إنه “الذكر” الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وهو “الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”.
وليس المقصود من تلاوة هذه الآيات التبرك وحسب، بل إنها تؤسس لموقف راسخ وتشكل وعياً حياً وترسم بكل وضوح الخط الفاصل بين الإيمان الحي واللا مبالاة المميتة.
فالقرآن الكريم ليس نصا تاريخياً يقرأ في المناسبات ولا تراثاً ثقافياً يحتفى به شكلياً. إنه دستور حياة شامل ومنهج قيم سامية وميزان دقيق توزن به المواقف والأفكار والسلوكيات.
به تستقى معاني الوجود، وبه تصان كرامة الإنسان وبه تبنى المجتمعات على أسس ثابتة من العدل والرحمة والحق.
ومن هذا المنطلق فإن الغضب لحرمة القرآن الكريم، ليس تعصباً أعمى ولا اندفاعا طائشاً، بل هو شعور مشروع وواجب أخلاقي نابع من إدراك عظمة هذا الكتاب ومكانته المحورية في حياة المسلمين بل وفي مسيرة الإنسانية جمعاء نحو هدايتها وكمالها. وحين يساء إلى هذا الكتاب قولاً أو فعلاً استهزاء أو تحقيرا، فإن الأمر لا يقتصر على مجرد إيغار صدور أفراد، بل إنه يمس وجدان أمة بأكملها ويستفز عقيدتها الراسخة ويضرب في صميم مقدساتها التي تشكل أساس كينونتها. فالصمت في مثل هذه المواقف ليس حكمةً ولا روية، بل هو تراجع عن واجب أخلاقي وديني وقبول ضمني بتطبيع الإهانة والتهاون في شأن ما نؤمن بأنه الحق المطلق.
وإذا اعتدنا السكوت على المس بأقدس ما نملك فما الذي سيتبقى بعد ذلك جديراً بالدفاع والحماية؟
إن الغضب للقرآن هو في جوهره دفاع عن القيم السامية التي جاء بها: دفاع عن العدل في وجه الظلم وعن الكرامة في وجه الإهانة وعن الحقيقة الناصعة في زمن التباس المعايير. وهو غضبٌ واعٍ يجب أن يتحول إلى وقفة مسؤولة وكلمة صادقة وسلوك حضاري يظهر عظمة هذا الدين ورفعة أخلاق أتباعه لا إلى فوضى أو إساءة مضادة تناقض جوهر الرسالة السمحة التي يحملها القرآن نفسه.
لقد علمنا القرآن أن القوة الحقيقية ليست في البطش والعنف، بل في الثبات على المبدأ وأن العزة ليست في الصراخ والضجيج بل في وضوح الحق وثباته.
وعليه ..فإن نصرة كتاب الله تعالى لا تكون بالانفعالات العاطفية المجردة فحسب، بل تكون بإحياء حضوره الفعال في حياتنا اليومية وبالعمل الجاد بأحكامه وتمثيل قيمه السامية في كل تعاملاتنا.
تكون بالرد على الإساءة بالحجة الواعية والبيان الرصين وبالتمسك بالحق دون خوف أو خجل. إن لم نغضب للقرآن فقد فقدنا بوصلتنا الأخلاقية وأطفأنا في قلوبنا جذوة الغيرة على الدين وسمحنا – من حيث ندري أو لا ندري – للتفاهة أن تحتل محل القداسة. أما الغضب الواعي المسؤول فهو دليل حياة القلب وعلامة صحة الانتماء وبرهان صدق الإيمان.
ويبقى السؤال الجوهري مطروحاً أمام كل فرد: أين نقف نحن حين يمتحن صدق انتمائنا وإيماننا؟ إنها مسؤولية الذود عن الحرمة والغيرة على المقدس في إطار الحكمة والموعظة الحسنة حتى نكون شهداء للقيم التي نؤمن بها وحماة لهويتنا التي ينبغي أن تبقى شامخة نقية.
