في ذكرى مولد رسول الحرية والعدالة والدولة المدنية

عبد العزيز البغدادي

 

 

يرى البعض أن مصطلح (الدولة المدنية) مصطلح حديث بعيد عن الدولة الدينية قريب من الدولة العلمانية ، وفي رأيي المتواضع أن ما يُقَرِّب الدولة المدنية من الإسلام تميّزه عن بقية الأديان بإبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً كورشة عمل دائمة لإعمال العقل ، ولا حياة لأمة لا تحترم حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي ، ويعتقد رموز الاستبداد ومن يسيئون استخدام الدين في السياسة أن بإمكانهم إبقاء العقل رهن الاعتقال والاتهام وهذا مع شديد الأسف ما زال حال الأمة منذ ألف وأربعمائة عام ونيف تنازعت بلاد المسلمين خلالها نظرتين : نظرة يعمل أصحابها بالقول والفعل على جعل رسالة الإسلام تبدو أضيق من سَمِّ الخياط, وأخرى يحلُم أصحابها بأن يكون بالفعل رحمة للعالمين والمقارنة بين بدايات التنوير في ما مضى وبين ما يجري اليوم تصب في مصلحة الماضي وهذا الأمر أراه شديد الخطورة على المستقبل.
لقد شهدت المحاولات التاريخية الأولى لإقامة الدولة باسم الإسلام محطات ارتكبت فيها أخطاء جوهرية أعاقت بناءها على أسس مدنية وبالتحديد في ما يخص حسم الخلاف بشأن أحقية الحكم ، وطبيعة النظام السياسي في الإسلام وهذا ما يستدل به بعض الباحثين على عدم وجود نظرية سياسية في الإسلام ويرونه سببا رئيسا في استمرار نزيف الدم في معركة السباق على الكراسي مع أن المفترض أن بقاء باب اختيار الحاكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مفتوح لم يكن عبثياً مع الاحترام للآراء المختلفة في هذه المسألة ، وهدفه تقدير المصلحة العامة وفق مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ، واستناداً إلى الأمر الوارد في الآية الكريمة (وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ) وهو وفق بعض الفقهاء أمر قطعي الدلالة على أن كلمة (الشورى) القرآنية تعادل كلمة (الديمقراطية) اليونانية المركبة وتعني حكم الشعب نفسه بنفسه ، وبهذه النظرة للحكم في الإسلام يمكن أن يتاح المجال لتراكم معرفي ينتج تجربة ذاتية منفتحة على تجارب الآخرين بثقة وبصيرة تتحاور فيها كل الآراء مع الأخذ في الاعتبار أن أي فرد أو مجتمع أو دولة لم يعد بإمكانه اليوم العيش بمعزل عن التفاعل مع ما وصل إليه التطور العلمي الحديث في العالم في زمن قهرت فيه ثورة تكنولوجيا المعلومات والانترنت كل الحواجز والفواصل وجعلت الرقابة على تدفق المعلومات شبه مستحيلة فقد أصبح كل فرد يحمل في جيبه بنكاً عالمياً للمعلومات بحجم خرافي في صغره وسعة محتواه ، ومن يفكر في إعادة عقول الناس إلى القمقم بحاجة لمراجعة مداركه وقدراته العقلية.
لقد حولت نزعات السباق على السلطة نعمة بقاء باب الاجتهاد في الإسلام مفتوحاً في قضية اختيار الحاكم إلى نقمة منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة الذي ضم نفراً من الأنصار ونفراً من المهاجرين الذين أطلقوا على أنفسهم أهل الحل والعقد كأول معارك محاولات الإقصاء السياسي باسم الإسلام بين من نظروا للحكم بأنه مرتبط بالعرق والنسب ومن رأى فيه غنيمة حرب مرتبطة بالغلبة ولو لم يصرح ، وهو في الحقيقة المفترضة لا هذا ولا ذاك ، ولكنه دعوة إلى التمسك بالحرية والعدالة كأساس للحكم واختيار الحاكم بناءً على القدرة والصلاحية والكفاءة وفقاً لمعايير كل مرحلة تاريخية لأن الاختيار مرتبط بتدبير شؤون الناس وأحوالهم واختيار الشخص المناسب ، وهذه مسائل دنيوية تعتمد على العلم والتقوى المرتبطة بالعدالة والخبرة والمعرفة والتجربة ، وما تجنيد الدين للسياسة إلا تغييب لهذه الحقائق المفترضة تغلبت فيه لغة المصالح الشخصية وشهوة السلطة على المبادئ والقيم المتفق عليها نجم عنها في المرحلة الأولى من صدر الإسلام إنهاء فترة حكم ثلاثة من خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) الأربعة أي جميع من تلا أبا بكر وهم على التوالي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بالاغتيال السياسي لتبدأ المرحلة الثانية التي عمل فيها معاوية على استغلال ظروف الاضطراب السياسي للقيام بتوظيف الآية القرآنية (قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآء بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ) (الآية 26) سورة آل عمران ) ليولي ابنه يزيد من بعده وهو توظيف سياسي فج لا زالت الأمة تعاني منه أنتج ما يشبه الفراغ السياسي المزمن لتبقى رغبة الاستيلاء على السلطة متحفزة وجعلها وراثة وهي سنّة سيئة لا تتفق وروح الإسلام سارت عليها الدولة الأموية فالعباسية ثم الزنكية والأيوبية والمملوكية والسلجوقيين ثم الإمبراطورية العثمانية التي أطلقت عليها بريطانيا وفرنسا الرجل المريض بعد أن استشرى فيها الظلم والفساد ، ومزقت جسدها وقسمته إلى دول ودويلات وفق اتفاقية ( سايكس بيكوا) بعضها قلبت أسماءها باسم حكامها مثل المملكة السعودية ، ونحن هنا لا نضع جميع حكام تلك المراحل في سلة واحدة من حيث الحرص على بعض سمات العدالة، ولكن جوهر ما نتحدث عنه وجود قاسم مشترك يجمعهم واستنادهم إلى حق إلهي مزعوم وهو محض افتراء على الله والدين أدى إلى انهيار حكمهم لأن ما بني على الباطل والكذب زائلٌ وعوامل انهيار الدول وزوال المستبدين يكمن في الداخل ويستغله الخارج.
إن التوريث الذي سنه معاوية سيبقى إثمه جرحا مفتوحاً في حياة المسلمين إلى ما شاء الله لا يلتئم إلا على يد من ينبذ العصبية بكل صورها وأشكالها ويقدر قيمة الحرية من عباده الصالحين.
دينُ الإله أشعَّ باسم محمد * والله ربِّي لا إلهَ سواهُ

قد يعجبك ايضا