غابة النفاق العالمي الجديد!

عبد العزيز البغدادي

 

 

تولّدَت عن مآسي وويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية منتصف القرن الماضي رغبة إنسانية قوية لدى بعض مفكري وسياسيي العالم في البحث عن نظام عالمي جديد يضع حداً للنزوات المجنونة التي أثارت الحروب والويلات والتحكم بمصير الإنسانية وتهديد السلام العالمي ، هذه الرغبة الحالمة سرعان ما تبددت ليحتويها نظام للتوازن بين القوتين اللتين ولدتا من رحم الصراع بين المعسكر الشرقي الاشتراكي الذي مثله الاتحاد السوفيتي والصين ودول أوروبا الشرقية ومن إليهم والمعسكر الغربي الرأسمالي ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرها ، وهو توازن لا يستجيب بالتأكيد لأحلام البشر التواق للحرية والعدالة والسلام العالمي بعد طول معاناة ، لكنه ولّد شعوراً بالأمل بتحقق بعض العدالة الناتجة عن توازن الرعب الذي يعبر عن التدافع بالمعنى القرآني (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) سورة البقرة الآية (251)؛
فالهيمنة الكاملة على العالم ينتج عنها ظلم كامل سواء بمفهوم العدالة وفق رؤية الحزب الواحد المهيمن على مفاصل الدولة أو بمفهوم الحرية المنفلتة (دعه يعمل، دعه يمر دعه يسرق دعه ينهب دعه دعه دعه…!!)
تحولت النماذج الممثلة للنظامين وبالذات ما يسمى بالنظام الحر إلى انتهاك صارخ للحرية وإنسانية الإنسان ، ومسخ للفرق بين العدالة والمساواة باسمهما وتحول النموذج الاشتراكي إلى مثال سيئ لديكتاتورية الحزب التي حلت محل ديكتاتورية الفرد ولأن ذلك لم يكن وضعاً طبيعياً فقد تفكك وانهار نظام الاتحاد السوفيتي المعتمد على القبضة الحديدية لأنه حول الإنسان لمجرّد ترس في دولاب العدالة وفق تصوره ؛
الحكم بالقوة لا يمكن أن يدوم مهما حاول الحكام ابتكار أساليب تغيير هذه المعادلة وتحت أي راية أو شعار !!!؛
ونتيجة هذا الانهيار وقع العالم في شباك الرأسمالية المتوحشة ومدعي الحرية من مصاصي الدماء وناهبي خيرات الشعوب وسالبي إرادتها الذين استخدموا كثيراً من الأساليب لإضعاف الشعوب المنهوبة خيراتها وتحويلها إلى مجتمعات مستهلكة (سوق لدول الشركات الاحتكارية) وفي قبضتها ولأنها تؤمن بنظرية 🙁 الغاية تبرر الوسيلة) فقد عملت على تصنيع الجماعات الإرهابية في المناطق والدول التي توصف بأنها إسلامية لتزيد من حالة عدم الاستقرار وبذلك تحققت الكثير من أهداف من يقود العالم إلى التوحش وانعدام الأمن والعدالة؛
إلا أن العالم بدأ يدرك خطورة الهيمنة الغربية التي يقودها اليمين المتطرف والرأسمالية المتوحشة مدفوعة بكل هذه الشراهة في نهب ثروات شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها وأهمية البحث عن مفهوم مشترك للمصلحة المشروعة يرفض السياسات الخالية من أي معنى للعدالة والمساواة سواءً كان مرجعها دينيا أو أخلاقيا أو قانونيا اجتماعيا وضعيا، بعض المحسوبين على الثقافة الذين يعيشون حالة من غيبوبة الاغتراب عن واقع مجتمعاتهم منبهرين ببعض النظريات أو مجندين لها؛
الحرية المطلقة من عقالها وادعاء امتلاك الحقيقة أياً كان منطقها هي أعلى درجات الظلم والاستبداد التي يتفنن روادها في ابتكار الوسائل السرية والعلنية التي تهزأ من كل القيم والمبادئ وصنع ونشر أساليب التضليل لخلق الحروب والأزمات والنزاعات كمشاريع استثمارية مغلفة بالأكاذيب ومن ذلك صناعة الجماعات الإرهابية في البلدان العربية والإسلامية باسم الإسلام لتحويلها إلى مادة خطرة وتصديرها للعالم لإعطاء أبشع الصور عن الإسلام ومعتنقيه وبخاصة العرب ، فقد مثلت هذه الجماعات من خلال ممارساتها في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وغيرها النموذج المرعب للإسلام لدى كل من لا يعرف الإسلام وأدى ظهور هذه الحركات إلى ضعف واضح في حركات التنوير التي كانت قد بدأت في استجلاء مكامن القوة والتجديد في أحكام النصوص والقواعد الأصلية للإسلام ، وبالمقابل كان الطرف المستخدم للجماعات التكفيرية أكثر فاعلية حيث تم تفريخ كثير من هذه الجماعات واستخدامها في اغتيال عدد من المفكرين الإسلاميين المستنيرين ومحاكمتهم بتهم متعلقة بمحاولاتهم الجادة في إجلاء وترسيخ القيم النبيلة التي يتضمنها الإسلام الحضاري وما يحمله من مبادئ التسامح ومحاولة ترسيخ المفاهيم الصحيحة للجهاد والحرية والفرق بين الجهاد والإرهاب ونظرة الإسلام للعالم ودعوته إلى العلم والعمل ، فقد أصبح التكفير بنظر هذه الجماعات المصنَّعة كفراً وسوَّق التكفير والإرهاب على أنه الإسلام !.
(إذا صاحبت في أيام بؤسِ* فلا تنس المودة في الرخاء)
(أبو العلاء المعري)

قد يعجبك ايضا