الثــــورة اليمنيــــة.. الجذور والمسار

محمد ناجي احمد


انطلقت أهداف ثورة 26 سبتمبر و14أكتوبر من أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية “وأول هذه الأهداف لثورة 26سبتمبر ينص على: التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق بين الطبقات.
كما نص الهدف الثالث على: رفع مستوى الشعب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
وكان نص الهدف الرابع: إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف.
ومن الأهداف الأساسية لثورة 14 أكتوبر القضاء على الاستعمار الأجنبي وتحقيق الاستقلال والدفاع عن الثورة والتنمية والوحدة اليمنية(1).
من أجل تحقيق هذه الأهداف كانت مخاضات الثورة، التي كان للأدب دوره في تعزيز القناعات، وشحذ الهمم، وتحريك الإرادات، وكان للثورة دوره في تطور الأدب وأنواعه، شكلا ومضمونا.لغة وخيالا وتصورات وعوالم وألوان، إلخ..

فعن الثورة والأدب:يرى الدكتور عبد العزيز المقالح أن القصيدة عَبَرَتْ “من خلال الثورة من الماضي إلى الحاضر، وشهدت ثورة حقيقية في الشكل والمضمون، وأفسحت الطريق لدخول أشكال جديدة في الكتابة الإبداعية استهوت عشرات الشباب المبدعين ذوي المواهب العالية، بغض النظر عما تسرب إلى صفوفهم من عجزة وأدعياء.وخرجت القصيدة والرواية عن قواعدهما التقليدية إلى فضاء أوسع.ويمكن القول باختصار شديد:إن الأدب قد نجح في إقامة الثورة، وإن الثورة نجحت في فرض الانفتاح وبث الحياة في الأشكال الأدبية وإغنائها من الداخل باللغة الجديدة والصور المثيرة المدهشة، وبهذا يكون الأدب قد قام بواجبه نحو الثورة وتكون الثورة قد قامت بواجبها تجاه الأدب كما ينبغي أن يكون(2).
ويقف الدكتور المقالح في بحثه هذا عند مرحلة التحريض الثوري الممتدة من الأربعينيات وإلى أوائل الستينيات، فيرى أن هذه المرحلة قد انتجت شعرا نضاليا ينضح بالتحريض والتبشير والتنوير، التنوير بالحرية وبالحقوق السياسية والاجتماعية، في قصائد أقرب ما تكون إلى المناشير الرامية إلى صياغة لأهداف سياسية في وضوح، كما هو حال شعر زيد الموشكي…ويقف الدكتور في بحثه هذا بشكل سريع مع شعر الزبيري ولطفي جعفر أمان وعبد العزيز نصر، وعبده عثمان وعبد الله البردوني (3).
عكس الشعر التنافس الذي يدور بين محمد البدر وعمه الحسن بن يحيى على ولاية العهد، فلقد جسد الحسن نموذج التقليد ورفض الانفتاح على العصر، فراهنت عليه السعودية ودعمته، وكان البدر منفتحا على مصر والاتحاد السوفيتي والصين، لذلك كانت الصحف السعودية تصف البدر بـ(الأمير الأحمر)لذلك كان الحسن يوزع الذهب على القبائل والضباط في انتظار موت الإمام أحمد، وحسم الصراع على الحكم لصالحه، فقبل قيام الثورة كانت سجون حجة فيها العديد من أتباع (الحسن) من الضباط الذين اعتقلوا بتهمة العمل التنظيمي على قلب الحكم لصالح الحسن، وقتها كان النقيب علي(سيف الخولاني ) من المعتقلين في حجة، ولم يفرج عنه إلى عند قيام الثورة.
لقد انحاز العديد من رجالات الأحرار اليمنيين إلى محمد البدر، ودعموا ولايته للعهد، كالأستاذ أحمد محمد النعمان والقاضي عبد الرحمن الإرياني، وكانوا يرون في سيف الإسلام الحسن بأنه نموذج للتشدد والحرص على إغلاق نوافذ العصر.
البعد التاريخي للثورة اليمنية
في بحثه (البعد التاريخي للثورة اليمنية…يعدد الدكتور أحمد قايد الصايدي القوى المعارضة للإمام يحيى وأحمد ب:المستنيرين، وكبار أسر السادة التي تسعى إلى أن تحل محل بيت حميد الدين في الحكم، وفئة القضاء الذين تضرر نفوذهم داخل قبائلهم بسبب انتزاع صلاحياتهم ونفوذهم داخل قبائلهم، وذلك بتعيين الإمام لعامل وحاكم وكاتب في كل قضاء وكل لواء.وهناك مشايخ الزراعة (مشايخ الأرض )الذين تتمثل سلطتهم بما يملكونه من أراض كبيرة، وهؤلاء تضررت ملكياتهم ونفوذهم على مزارعيهم في القرى، ثم أخيرا القوى الجديدة التي نظمت نفسها بالنقابات والأحزاب بعد ثورة يوليو 1952م.في عدن والمهجر ومصر: طلاب وعمال وتجار، وقد كان لتأميم قناة السويس دوره في نمو هذه الفئة وتطوير وعيها السياسي.مع نمو حركة التحرر العربية في العراق 1958م، وثورة الجزائر 1954-1962م.
يحدد الدكتور الصايدي كالعديد من الباحثين بداية الحركة الوطنية مع بداية الثلاثينيات، وإن كان البعض يربطها بهزيمة 1934م واتفاقية الطائف، مع السعودية، واتفاقية الهدنة لأربعين عاما مع بريطانيا.


يربط الدكتور الصايدي البدايات الوطنية بشخصية الحاج محمد المحلوي ودوره التنويري، ويبدو لي أن المحلوي رغم عدم امتلاكه لتحصيل علمي لكن عمله في خدمة الأتراك في الترجمة الشفهية قد أكسبته وعيا تنويريا، فقد أثر على مجموعة التفت، وكان لحديثه عن الإصلاح تأثير في وعيهم، ومنهم: أحمد المطاع، وعبد الله العزب وعلي الشماحي، وجاءت مجلة الحكمة التي صدرت عام 1938م برئاسة أحمد عبدالوهاب الوريث لتبشر بالأفكار التنويرية، وفق ما هو ممكن في مجلة رسمية.وفي التربة كان للأستاذ:محمد أحمد حيدرة الذي نشط في أندية عدن وكان رائدا للمسرح هناك منذ عودته من مصر حاصلا على شهادة البكالوريا، ليعمل في التمثيل والإخراج والتدريس، وينشط في العديد من الأندية الرياضية والجمعيات، ثم استقدمه الأخ الأكبر للأستاذ النعمان، ليعمل في تربة ذبحان، وهناك اصطدم حيدرة بعامل التربة وحاكمها وبالأستاذ أحمد محمد نعمان، الذي تخرج من زبيد، وعاد إلى التربة ليعمل في التدريس على الطريقة التقليدية، والدعاء لأمير المؤمنين الإمام يحيى، ومعالجة النساء بالرقية، في مقابله كان حيدرة يدرس تلاميذه مواد حديثه في الرياضيات والتاريخ والوطنية، والموسيقى والعزف على العود، ويدربهم وينظمهم في الكشافة إلخ، فكان الصدام والتحريض عليه، وطلبه إلى صنعاء، فاستبقاه أمير لواء تعز علي الوزير، ليعمل في التدريس بتعز، ثم لازم سيف الإسلام أحمد وحين كان إماما، مواصلا دوره في التدريس والمسرح بتعز، وتنفيذ ما يكلف به من الإمام بما يتعلق ببعض القضايا الاجتماعية مثل تزويج الشباب بمهر محدد.وعرف عنه اشتغاله بالفلك ومواسم الزراعة، وعضويته بالجمعية الفلكية بمصر إلخ.. لكن المكتبة الشخصية لحيدرة، والتي تركها في التربة فوقعت في يد الأستاذ أحمد محمد نعمان أثرت في وعي النعمان فقرر أن يسافر إلى مصر للدراسة، وهناك التحق مستمعا في دار العلوم لعدم امتلاكه شهادة البكالوريا التي تسمح له بالالتحاق بالجامعة…
عند عودة الشاعر محمد محمود الزبيري من مصر التي درس فيها مستمعا في دار العلوم كزميله النعمان-إلى اليمن عام 1941م ونشر أفكارا للإصلاح والتغيير سجن لمدة عام في سجن الأهنوم، حين أطلق سراحه، تجمع الزبيري والنعمان والحضراني والشامي في تعز ليغيروا من خلال التأثير في سيف الإسلام أحمد، لكن سيف الاسلام أحمد توعد العصريين فخافوا منه وفروا إلى عدن، وكان قد سبقهم إلى هناك الشيخ مطيع دماج والأستاذ عثمان عقيل، وهناك بدأوا بالعمل منذ عام 1944م إلى قيام حركة 17فبراير1948م، وكان سيف الإسلام أحمد قد نجح في استقطاب عدد من الأحرار وعلى رأسهم مطيع دماج وعثمان عقيل، فعين دماج عاملا على ناحية في صنعاء، وعين عثمان عقيل في التدريس بالمدرسة الأحمدية بتعز، و كاتبا صحيفة في الصحف التي تصدر في تعز.
وواصل الأحرار مسيرتهم في عدن منذ تأسيسهم لحزب الأحرار عام 1944م ثم تغييره إلى اسمه عام 1946 إلى (الجمعية اليمنية الكبرى) واصدروا صحيفة (صوت اليمن).
لقد تغير اسم حزب الأحرار إلى جمعية حتى لا يعمل الاستعمار البريطاني في مستعمرة عدن على حل الحزب.ومن حزب الأحرار انتقلت المعارضة اليمنية إلى العمل المنظم، فقد أصبح الحزب مؤسسا بقيادة وتنظيم وأعضاء وصحيفة واشتراكات عضوية، وإن كان العديد من المشايخ كالشيخ سنان أبو لحوم ومحمد الفسيل والشيخ القوسي ومطيع دماج قد أثاروا موضوع مالية الحزب التي كان الأستاذ النعمان يحتفظ بأسماء الداعمين للحزب من أبناء المهجر، وكذلك محتكرا للتواصل والعلاقة بالسلطات البريطانية بعدن، مما دفع بسنان أبو لحوم والشيخ القوسي ضرورة أن يعرفوا ميزانية الحزب ومن هم الداعمين، وهي من الأسرار التي كان النعمان يرى أنه الأمين على أسماء اليمنيين الذين يدعمون الحزب خشية من أن يشي البعض بهم، فالنعمان كان يرى أن مشكلة الفلاح مع الإمامة هي أنه يطالب بإصلاح العلاقة بين (العسكري والرعوي) أي أن تكون الدولة وأدوات العنف لصالح تأمين الرعوي، ومشايخ القبائل في معارضتهم للإمامة كانوا ينطلقون من كونهم (أنصار) الحكم، ومن حقهم أن يشاركوا وينازعوا الإمام في السلطة…وقد وصل الأمر إلى أن الشيخ سنان والقوسي ذهبوا للسلطات البريطانية في عدن مطالبين بالدعم المالي لهم، وقد استطاع سيف الإسلام أحمد إقناع المشايخ بالعودة، وترتيب وضعهم، وكان ممن سنان أبو لحوم وزيد الموشكي وطيع دماج وعثمان عقيل ممن عادوا إلى تعز، وتم ترتيب أوضاعهم، وقد قامت حركة 17شباط /فبراير 1948م وثورة 26سبتمبر وهم جزء من بنية نظام المملكة المتوكلية، وعمال وموظفين فيها…
عُرِفَت حركة الأحرار باسم (حزب الأحرار) و(الحركة الدستورية )نسبة إلى الدستور الذي كانوا يطالبون به، وكان الإمام ينعتهم بـ(المدسترين)وعُرِفَت باسم (حركة المعارضة ) لموقفها المعارض لنهج المملكة المتوكلية في الحكم، والمطالبة بالإصلاح، وحركة الأحرار اليمنيين، وهو الاسم الأكثر شيوعا بحسب الدكتور أحمد قايد الصايدي في بحثه المعنون بـ(البعد التاريخي للثورة اليمنية ) والمنشور ضمن كتاب (ندوة الثورة اليمنية ) الصادر عام 2008م عن مركز الدراسات والبحوث اليمني.
أصبح لحركة الأحرار تواصلهم واتصالاتهم بالمهاجرين في (جيبوتي والصومال والحبشة والسودان وكينيا وبريطانيا إلخ) ونشاط إعلامي في عدن من خلال صحيفة فتاة الجزيرة، ثم صحيفة (صوت اليمن )ومصر من خلال كتابات محمد صالح المسمري وأحمد حسن الحورش ومحي الدين العنسي، والعلاقة مع قيادة الإخوان المسلمين في مصر…
وقد انظم سيف الإسلام إبراهيم بن يحيى حميد الدين، فعينوه رئيسا لحركة الأحرار في عدن، وغيروا لقبه إلى سيف الحق، و انظم عبد الله الوزير وعلي الوزير، والرئيس جمال جميل وقد استطاع الفضيل الورتلاني ممثل المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين، والذي بعث إلى اليمن لدعم حركة الأحرار، تحت غطاء تأسيس شركة في اليمن –استطاع أن يجمع بين خيوط واتجاهات المعارضة ضد الإمام يحيى، بل وأن يحرض وينتزع فتوى من عبد الله الوزير بقتل الإمام يحيى، وهو ما تم في 17شباط/فبراير 1948م أثناء زيارته لمزرعته في حزيز جنوب صنعاء، وقد اشترك أحمد الشامي في الوشاية وتتبع تحركات الإمام جنوب صنعاء، وتم ترتيب عملية الاغتيال في بيت عبد الله بن علي الوزير، زوج ابنة الإمام -بمشاركة بعض أفراد الجيش والشيخ علي ناصر القردعي وغيرهم…
ومن الأحرار والضباط الذين عادوا من العراق عام 1937-1938م، ودور الرئيس جمال جميل معلم الجيش في صنعاء، والدور المحوري للفضيل الورتلاني، الذي كان عنصر ربط بين الأحرار وإمام الدستوريين عبد الله الوزير وعلي الوزير، ليتم الاتفاق على الميثاق المقدس ومراء عموم الوزارات، والحكومة والمستشارين، وقد تم تعيين الورتلاني مستشارا للإمام عبد الله الوزير…
قامت الحركة في 17فبراير 1948م بعد أن وقع الأحرار بخديعة تسريب موت وهمي للإمام يحيى، فتم الإعلان من عدن ومصر عن اسم الإمام الجديد عبدالله الوزير، وأسماء الحكومة، ومدراء عموم الوزارات، ومجلس الشورى، والميثاق المقدس…وحين علموا بأن الإمام يحيى لم يمت وأنهم كشفوا سارعوا لاغتيال الإمام، وإعلان ومبايعة عبد الله الوزير، الذي لقب نفسه بالهادي. لكن الحركة سرعان ما سقطت خلال ثلاثة أسابيع، ليدخل الإمام الناصر أحمد يحيى حميد الدين صنعاء، وقد أعدم من رجالات الحركة تسعة وعشرين رجلا، من بينهم عبد الله الوزير وعلي الوزير الشيخ عبد الوهاب نعمان والشيخ علي ناصر القردعي الخ.. ومات سيف الحق إبراهيم في السجن، مسموما بحسب الرواية المشهورة عن المعارضة اليمنية آنذاك. ثم انتقل مركز الحكم إلى تعز التي أقام فيها الإمام الناصر أحمد يحيى حميد الدين.
وبعد الحركة تأسس في عدن (نادي الاتحاد اليمني) الذي أسسه بعض رجالات حركة الأحرار عام 1950م وعُرِف باسم (الاتحاد اليمني) كامتداد لحزب الأحرار والجمعية اليمنية الكبرى، إلاَّ أن (الاتحاد اليمني) ركز على النشاط التعليمي وإرسال الطلاب اليمنيين للدراسة في الخارج، فالنشاط السياسي كان متحفظا عليه من الاستعمار البريطاني في عدن، ويتم تحريكه وفقا لعلاقتهم المتراوحة بين الاستقرار والتوتر مع المملكة المتوكيلة اليمنية.
مع ثورة 23يوليو 1952م في مصر انتقل نشاط (الاتحاد اليمني ) إلى القاهرة، واصبح صوت حركة الأحرار مسموعا في (صوت العرب) وفي الصحافة المصرية، وإن ظل (الاتحاد اليمني ) في عدن يمارس نشاطه التعليمي والسياسي، مع تنامي الصراع والتباين داخل (الاتحاد اليمني)وقد أشرف فتحي الديب مسئول المخابرات المصرية عن حركات التحرر في اليمن وليبيا والجزائر –أشرف على تدريب شباب الاتحاد اليمني على استخدام وسائل التواصل اللاسلكي، والتدريب على استخدام السلاح، وكان الشاعر محمد محمود الزبيري هو الذي يرعى هذا النشاط، وقد استأجر لهم شقة لممارسة هذا النشاط، ومن باب الحيطة، نبه الشباب أنه إذا شاهدهم أي شخص وسألهم عن سبب وجودهم في هذه الشقة فليقولوا له بأنها من أجل أشباع نزوات الشباب، بحسب رواية محسن العيني، في كتابه (الرمال المتحركة )
في عام 1955م قامت محاولة انقلابية بقيادة المقدم أحمد الثلايا معلم الجيش في عرضي تعز،، والذي كان في حركة 1948م واقفا مع الإمام أحمد، وكان قائد مفرزة في حجة بحسب ما يكره الأستاذ عبد لله البردوني.وبالرغم من أن المصريين كانوا من وجهة نظري داعمين ومتواصلين مع أحمد الثلايا من خلال الضباط المصريين الذين قدموا إلى اليمن لتدريب الجيش اليمني، إلاَّ أن حدوث مشكلة الحوبان في تعز، ثم شكوى الفلاحين إلى الإمام أحمد بما تعرضوا له من قتل وإحراق لمزارعهم من قبل الجنود، فقد طلب الإمام من المقدم أحمد الثلايا تسليمهم للاقتصاص، لكن الجنود تمردوا، وباشروا القصر بالرصاص، فما كان من الثلايا إلا أن استغل التمرد ليعلن عن انقلابه، مطالبا الإمام أحمد بالتنازل لأخيه سيف الإسلام عبد الله، ويبدو أن علاقة سيف الاسلام عبد الله بالأمريكان ونشاط النقطة الرابعة بتعز جعل المصريين يتحفظون تجاه هذا الانقلاب، وحين سقط وتم اعتقال الثلايا وعبد الله والعباس، ومن وقف معهم من الاحرار كالقاضي عبد الرحمن الإرياني وعبد السلام صبرة الخ، أرسل المصريون وفدا رفيع المستوى برئاسة حسين الشافعي وعضوية فتحي الديب مسئول ملف حركات التحرر العربية برئاسة الجمهورية والمخابرات المصرية لتهنئة الإمام أحمد بسقوط وفشل الانقلاب.
أحدث انقلاب 1955م تناقضا في مواقف الأحرار من مؤيد للانقلاب كالقاضي الإرياني ورافض ومندد به كالشاعر محمد محمود الزبيري، وبالنسبة للأستاذ النعمان فقد كان حدسه أن الانقلاب سيفشل، فدبر خدعة أن يتم إرساله إلى الحديدة لإقناع محمد البدر بالوقوف مع عمه، وحين التقى بالبدر في الحديدة أقنعه بإطلاق بقية الأحرار في سجون حجة، ليؤازره ويقفوا معه ضد انقلاب عمه عبد الله…
كان انقلاب 1955م وما أظهره من تناقضات وضمور في وعي وحركة الأحرار اليمنيين، الذين كانوا ثوارا في 1948م إصلاحيين في حقبة الخمسينيات وطموحاته الجمهورية، مما جعل الأحرار اليمنيين منذ اندلاع ثورة 26سبتمبر يتحولون إلى عائق، ويصطفون بشكل أو بآخر مع القوى الرجعية التي تآمرت على الثورة، ففي “كل بلد عان تجربة الثورة، اشتبك الثوريون من جهة، والاصلاحيون وخونة المستقبل من جهة أخرى “ثورة داخل الثورة –ريجيس دوبريه…ولغياب فاعلية الأحرار من منتصف خمسينيات القرن العشرين فقد حضر الفعل الثوري، مما يحقق مقولة “إذا غاب الإصلاح حضرت الثورة”.
من الطبيعي أن الانقسامات أو العودة إلى حضن النظام المتوكلي كان بشكل أو بآخر من قبل أولئك الذين لا يختلفون طبقيا عن الحكم، بل إن ثورتهم وانقلابهم في مرحلة الأربعينات كان تعبيرا عن طموحهم لأن يرثوا نظام الحكم المتوكلي بكل سماته، لا أن يغيروا ويذيبوا الفوارق بين الطبقات، كما كان طموح وهدف السبتمبريين، الذي حددوا ذلك كهدف من أهداف ثورتهم.
لم تكن ثورة 26 سبتمبر 1962م نتاج للدوافع والأسباب المحلية فحسب وإنما أضيف إلى ذلك تأثير حركات التحرر العربي والانبعاث القومي “هنا نجد الإشارة إلى أنه مهما كانت الحوافز والأسباب والدوافع المحلية هي المحرك الفاعل للحماس الثوري والدفع نحو الخلاص والانعتاق، فإن تعاظم حركة الانبعاث الثوري ونشاطها المتزايد في محور حركات التحرر الوطني العربية والعالمي، ووضوح ملامح النضال على الساحة العربية والعالمية، وتحديد أهدافه من قضايا سياسية مثل الحرية والاشتراكية والوحدة كما ظهر في الأهداف الستة –لولا ذلك لكانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر حركة تمرد أو انقلاب ربما لا يكتب له يعيش غير أيام محدودة كغيره من التجارب والمحاولات السابقة(4).
وفي أي تقييم موضوعي لأوضاع اليمن والبلدان العربية المجاورة “سواء تلك التي تطل على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر أو التي تقع في أقصى حدودنا الشمالية، سوف تجعل الوجود الاستعماري والأنظمة الرجعية في هذه البلدان في صف المعادين للتغيير، ولن تقبل هذه الأطراف بأية حال من الأحوال وجود أي تغيير، خاصة في منطقة من أهم مناطق شبه الجزيرة العربية خطورة على وجودها السياسي والاقتصادي، لذا فإن الرجعية العربية والاستعمار الأوربي سوف تهب من كل حدب وصوب للإجهاض والقضاء على المولود المحتمل(5).
كان الضباط الأحرار في كتابهم (أسرار ووثائق الثورة اليمنية) يرون في الثورة السبتمبرية تهيئة للمناخات المناسبة لتحرير جنوب اليمن، وكذلك مساندة ومساعدة الطلائع الوطنية في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج على الثورة والتخلص من الهيمنة الاستعمارية على بلدانهم(6).
كانت العلاقة بين مصر والإمام أحمد طيلة سنوات 1955-1961م هادئة وحذرة، مع تعاون ونمو العلاقات مع ولي العهد محمد البدر، مما ساعد على تحسين علاقة اليمن مع الاتحاد السوفيتي والصين، فتم بناء الحديدة قبل السوفيت، وشق وسفلتة طريق الحديدة –صنعاء من قبل الصين، وانظمت اليمن لاتحاد الدول العربية الذي ضم الجمهورية العربية المتحدة والمملكة المتوكلية اليمنية، وبعد سقوط الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م هاجم الإمام أحمد تجربة الحكم في مصر، ودعوتها للاشتراكية، بقصيدة مشهورة، ثم أعلنت مصر حل الاتحاد العرب يفي ذات العام، ليتأسس تنظيم الضباط الأحرار في اليمن عام 1961م، مما يعني أن هناك رابطا بين انفصال سوريا وهجوم الإمام أحمد على نظام الحكم في مصر وتأسيس تنظيم سري في اليمن هدفه الإطاحة بالمملكة المتوكلية وإقامة نظام جمهوري عادل…
كان تنظيم الضباط الأحرار بقيادة حركية مؤثرة على رأسها الملازم علي عبد المغني ومحمد مطهر زيد وعبد اللطيف ضيف الله الخ، وكانت مسئولية التواصل داخل التنظيم والعلاقة مع كل أشكال المعارضة ضد الإمامة داخل اليمن، والعلاقة الخارجية مع مصر من اختصاص الملازم علي عبد المغني، الذي كان على تواصل مستمر مع القائم بالأعمال في السفارة المصرية محمد عبد الواحد، وعن طريق محمد عبد الواحد جاء رد جمال عبد الناصر على رسالة التنظيم، التي يستفسرون فيها عن استعداد مصر لدعم الثورة في اليمن لو قامت، فكان الرد بالموافقة والالتزام بدعم الثورة عند قيامها، وفعلا أوفت مصر عبد الناصر بوعدها، وأرسلت دعمها الذي وصل خلال خمس سنوات إلى أكثر من أربعين الفا، وضحت بعشرات الآلاف من الشهداء على ثرى اليمن.
كان لوعي ونشاط الملازم علي عبد المغني وحركته التنظيمة الدؤوبة الدور الرئيسي في التنظيم وقيام الثورة ليلة الخميس من 26سبتمبر 1962م.ولأن التنظيم كان من الضباط الشباب فقد ضموا إليهم المقدم عبدالله جزيلان قبل أسبوع من قيام الثورة، ولم يخطروه بموعد الثورة إلا قبلها بيوم، واقترحوا أن يكون حمود الجائفي رئيسا للنظام الجمهوري إلا أن تردد وخوف الجائفي جعله يمتنع عن الموافقة، وهو ضعف وتردد وسلبية ظلت ملازمة للجائفي في قادم السنوات، فعرضوها على عبد الله السلال قائد الحرس الملكي لولي العهد، فوافق بشجاعة وجرأة ومغامرة، وتحمل المسئولية، وكان لانضمامه الدور الرئيسي بنجاح الثورة، فقد أمر بفتح مخازن السلاح لتسليمها لضباط الثورة بعد أن كادت الذخيرة أن تنفذ…
تحركت مصر عبد الناصر داعمة لكل أشكال المعارضة اليمنية، سواء (الاتحاد اليمني)بمصر، أو التجار الذين كان على رأسهم عبد الغني مطهر ومحمد علي الأسودي، أو الأحرار وعلى رأسهم عبد السلام صبرة والقاضي عبد الرحمن الإرياني، الذي كان حلقة الربط والتواصل الذي يجمع تنظيم الضباط، والمشايخ والأحرار، والتجار…
خلال الأعوام 1959-1962م نشط حزب البعث وحركة القوميين العرب في الاستقطاب داخل الكليات العسكرية، وفي القطاع المدني، وكذلك نشط الإخوان المسلمين والماركسيين، إلا أنه لم يكن لهم تأثير حقيقي، فالتأثير كان لحزب البعث وحركة القوميين العرب داخل الكليات العسكرية، وفي أوساط النقابات، والتجار…بل إن الإخوان المسلمين كانوا أفرادا تجمعهم لقاءاتهم مع سيد قطب في منزله بمصر، ولم يتحولوا إلى تنظيم باسم (الطليعة العربية الإسلامية)إلا في النصف الثاني من الستينيات برئاسة المراقب العام في اليمن الأستاذ عبده محمد المخلافي…وكذلك تأسس حزب الشعب الديمقراطي عام 1961م، لكن تأثيره ظل تنويريا وتنظيريا نخبويا، ومن المقولات التي ظل يرددها الحركيون في سخريتهم من الشيوعيين بأنهم (يجيدون الكلام) والتنظير لا الفعل الثوري…
كانت محاولة الملازم عبد الله اللقية ومحمد عبد الله العلفي ومحسن الهندوانة عام 1961م لاغتيال الإمام أحمد داخل المستشفى في الحديدة، أثناء زيارته لها، فأصيب الإمام أحمد بالعديد من الرصاص، لكنه تماوت، وفر اللقية والهندوانة والعلفي، وحين علموا بأن الإمام لا زال حيا ولم يمت، فانتحر العلفي، وتم القبض على اللقية ومحسن الهندوانة، وكانت لجنة التحقيق معهم بحسب ما أورده الدكتور حسن مكي، كلا من عبد الله السلال وأحمد محمد الشامي، وقد تعرض اللقية ومحسن الهندوانة لأصناف من التعذيب أثناء التحقيق، قبل إعدامهم…
نص القسم الذي كان يؤديه أعضاء تنظيم الضباط الأحرار:
من خلال التوقف مع نص القسم الذي كان يؤديه الضباط الأحرار سنجد دوائر انتمائهم الوطنية والعربية والإسلامية تمتزج في دلالات هذا القسم وعباراته التي تؤكد على قوة الالتزام والولاء وسرية التنظيم “فقد كان نص القسم الذي كان يؤديع أعضاء التنظيم الذي سمي في البداية “منظمة الضباط الأحرار” ثم تغير إلى “تنظيم الضباط الأحرار”: “أقسم بالله العظيم وبالإسلام الذي أدين به، وبكل المقدسات الوطنية، أن أكون جنديا مخلصا في جيش العروبة، وان أبذل نفسي وما أملك فداء لقيادتي، ووطني، وان أكون منقادا لما تصدر إلي من أوامر، منفذا لها ما دامت أعلم أنها في المصلحة العامة التي جاء من أجلها الدين، وأن لا أخون ولا أفشي سرا للمنظمة ولو أدى ذلك إلى استشهادي، والله على ما أقول وكيل(7).
تشكل التنظيم من القاعدة التأسيسية، وهي التي تقوم بانتخاب لجنة قيادية من خمسة أشخاص، تنتخب كل ثلاثة أشهر، وخلايا أساسية يشكلها أعضاء القاعدة التأسيسية، وخلايا فرعية يشكلها أعضاء الخلايا الأساسية.ويتم ضم كل عضو خلية أساسية يقوم بواجباته على أكمل وجه، ويثبت نشاطه السياسي ووعيه الوطني –إلى القاعدة التأسيسية بقرار منها. وقرارات القاعدة التأسيسية تتخذ بأغلبية الأصوات.ويباح دم كل من أفشى سرا للمنظمة.وتجتمع القاعدة التأسيسية كل شهر باستثناء الحالات الطارئة.وقد تحدد الاجتماع الأول للجنة القيادية في منزل الملازم حمود محمد بيدر.وكان الاشتراك الذي يدفعه العضو ريال شهريا، وتقوم اللجنة القيادية بإدارة شئون التنظيم وإصدار التعليمات والتوجيهات واللوائح وإعداد شروط العضوية، وشروط تشكيل الخلايا الأساسية والفرعية.وجمع وحفظ الأموال، وصرف ما يلزم.ولم يكن أعضاء الخلية الأساسية على معرفة بأعضاء القاعدة التأسيسية، بحيث لا تعرف الخلية سوى اسم مشكلها. وتتشكل الخلية من ثلاثة إلى خمسة أشخاص.
توسعت اللجنة القيادية إلى سبعة أشخاص، وكان أهم شروط العضوية “أن لا يكون متأثرا بالاتجاهات العنصرية والمذهبية والإقليمية والطبقية والقبلية “ويبدو أن المقصود بالطبقية أي بالتراتبية الاجتماعية التي كانت تقسم المجتمع عموديا إلى سادة وقضاء ومشيخ ومزارعين، ومقاشمة ودواشنة ومزاينة وجزارين، وأخدام وغيرها من الفئات المستضعفة اجتماعيا.
وشروط تشكيل الخلايا بأن يرفع عضو من أعضاء القاعدة التأسيسية ترشيحه للأعضاء إلى اللجنة القيادية، وهي التي تنتدب من تراه من أعضاء القاعدة التأسيسية لفحص الأسماء والتأكد من صدق الاستعداد للتضحية، ومن عدم ارتباطهم بأي من التنظيمات السياسية، وان لا يعرف أي عضو مرشح بعد الموافقة أي اسم من أعضاء القاعدة التأسيسية، وكذلك أعضاء الخلايا الفرعية لا يعرفون مشكلي الخلايا الأساسية.
تمكن تنظيم الضباط الأحرار من التواصل مع الرئيس جمال عبد الناصر، من خلال القائم بأعمال السفارة المصرية بصنعاء محمد عبد الواحد، وكان رد عبد الناصر برسالتين مقتضبتين، محتواهما نفذوا وأسفي بالتزاماتي…وقد صاحب تأسيس التنظيم أن أصبح الغضب الشعبي والرفض لنظام المملكة المتوكلية يعبر عن نفسه بمظاهرات الطلاب في صنعاء وفي تعز، وكذلك إضرابات عمال شق طريق صنعاء وتعز والمخا، وتراكم الرفض داخل القبائل والتجار والقضاة والسادة، كل ذلك تجمع لتصبح ثورة 26سبتمبر 1962م هي نقطة الإجماع نحو نظام جمهوري عادل، يذيب الفوارق الطبقية في المجتمع، ويحقق الوحدة الوطنية، ويؤسس لثورة 14أكتوبر 1963م، في تجمع قوى الرافض للاستعمار البريطاني، حين اجتمعوا بدار السعادة بصنعاء عام 1963م، ثم في تعز، ليعلنوا تأسيس الجبهة القومية، وميثاقها الوطني، والكفاح المسلح في جنوب اليمن ” وبدعم مباشر من قبل النظام الجديد وبتوجيه وتدريب وتمويل من القوات المصرية، التي أرسلها عبد الناصر لدعم الثورة والنظام الجمهوري الوليد استطاعت الحركة الوطنية في جنوب اليمن أن تفجر ثورة 14أكتوبر، التي حققت في نوفمبر 1967م استقلال عدن وأنهت السلطنات والمشيخات التي كانت تسمى محميات عدن، وصهرتها في كيان سياسي واحد (جمهورية اليمن الجنوبية)(8).

ـــــــــــــــــــــــــ
(1) “ص97-ندوة الثورة اليمنية…-مركز الدراسات والبحوث اليمني في الفترة 23-24نوفمبر 2008م-الثورة اليمنية –أ.عبده علي عثمان.
(2) “ص6-ندوة الثورة اليمنية –ثورة الأدب وأدب الثورة –د.عبد العزيز المقالح.
(3) ص11-المرجع السابق.
(4) “ص46-47-أسرار ووثائق الثورة اليمنية –إعداد لجنة تنظيم الضباط الأحرار –مركز البحوث والدراسات –نشر بعد خمسة عشر عاما من قيام ثورة سبتمبر.
(5) “ص56-أسرار ووثائق الثورة اليمنية –مرجع سابق.
(6) “ص56-أسرار ووثائق الثورة اليمنية-مرجع سابق.
(7) “ص62-أسرار ووثائق الثورة اليمنية –لجنة من تنظيم الضباط الأحرار –دار الكلمة –صنعاء –دار العودة بيروت 1-6-1978م، وتاريخ الطبع يشير إلى أن الكتاب قد تأخر عن موعد طباعته عشر سنوات، فقد تم تأليفه في 1968أو 1969م.وقد كان القسم على المصحف والمسدس.
(8) “ص59-ندوة الثورة اليمنية –الصادر عام 2008م عن مركز الدراسات والبحوث اليمني –البعد التاريخي للثورة اليمنية –أ.د.أحمد قايد الصايدي.

قد يعجبك ايضا