لو أنفقت المقاومة الفلسطينية ما في الأرض جميعا لتصل إلى هذا الانكشاف لإسرائيل في الغرب، لم تكن لتنجح، على النحو الذي نشاهده الآن بعد طوفان الأقصى، وكأنها كانت ساعة الصفر للعد التنازلي لها!
فمن كان يتصور من قبل أن يصل الاحتجاج ضدها في أكثر من 70% من الجامعات الأمريكية، وأن تكون رعونة رئيسة جامعة كولومبيا؛ المصرية الأصل، سببا في تفجر الموقف على النحو الحاصل الآن، وكأن استدعاءها للأمن لاجتياح الحرم الجامعي كان رمية بغير رام، فتشارك في الحراك جامعات لم تكن قد شاركت في بداية التظاهر ضد العدوان الإسرائيلي، وانحيازا لفلسطين، وفي مشهد غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي!
عندما فعلت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق فعلتها هذه، تذكرت نبيل ميخائيل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أمريكية مرموقة هي جامعة جورج تاون، والرجل –رغم ذلك- كان يظهر على شاشة الجزيرة مدافعا عن الاستبداد في مصر، ومبررا له، فكتبت: لماذا من يعملون في الجامعات الغربية المرموقة من بني جلدتنا يبدون في تصرفاتهم كما لو كانوا تخرجوا في معهد عبده باشا، وهو معهد فوق المتوسط، هالني أنه رغم قدمه لم يحصل على الاعتراف من المجلس الأعلى للجامعات، وهذه قضية أخرى؟!
من كان يتصور من قبل أن يصل الاحتجاج ضدها في أكثر من 70 % من الجامعات الأمريكية، وأن تكون رعونة رئيسة جامعة كولومبيا؛ المصرية الأصل، سببا في تفجر الموقف على النحو الحاصل الآن، وكأن استدعاءها للأمن لاجتياح الحرم الجامعي كان رمية بغير رام، فتشارك في الحراك جامعات لم تكن قد شاركت في بداية التظاهر ضد العدوان الإسرائيلي، وانحيازا لفلسطين
وإذا كان الليبيون، وقبل تفجر ثورتهم، كانوا يعلقون آمالا عريضة على الوريث سيف القذافي، لأنه تعلم تعليما جيدا في احدى الجامعات الأمريكية، فإذا بالأيام تثبت أن العرق دساس، وأنه ابن أبيه الذي لا يفك الخط، فخرج مع الثورة منحازا لنظام مستبد، وفي المواجهة مع قمعها بقوة السلاح، وكأنه لا فائدة ترتجى من سلالتنا، أو كما قال طبيب الفلاسفة وهو يقلب كفيه: ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع؟!
ولكي لا نجلد أنفسنا، فإن “نعمت” وإن كانت مصرية فهي ابنة الحضارة الغربية، فقد غادرت مصر طفلة، ثم إن انكشاف أن التحضر ليس سوى قشرة تستر حقيقة القوم في الغرب، هوّن علينا الأمر، وقد اجتاحت قوات الأمن حرم الجامعات الأمريكية، وتقوم بسحل المحتجين من الطلبة والأساتذة، غاية ما في الأمر أننا نفتقد هذه القشرة. ولم يعد من سلطة الغرب أن يعطي دروسا في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن ما شاهدناه في الجامعات كان امتدادا لما شاهدناه في سجن أبو غريب، فلم يكن خطأ مجندة، بل كان منظومة حكم، فأين الذين أبهرتهم أضواء الغرب وكانوا يتحدثون عنه بمباهاة عن الرقي والتحضر والتقدم، وكأن تأخرنا مرده إلى ديانتنا؟!
وقد تعرف الرأي العام على هذه المنظومة بشكل كبير، بعدما تم الدفع بقوات الأمن لاقتحام الجامعات، عندما استشعرت السلطة في البيت الأبيض أن وجود مستوطنة الاستعمار الغربي بالمنطقة في خطر، وبدا النظام الأمريكي متسامحا فيما يخصه لكن إسرائيل بالنسبة له خط أحمر، ومن هنا كان التصرف على المكشوف، فلم تكن رعونة نعمت شفيق أمرا يخصها، فإذا كان العرق الدساس من دفعها إلى طلب قوات الأمن في كولومبيا، فمن دفع بهذه القوات وصناديدها إلى الجامعات الأخرى؟ إنها منهم وإليهم، وتمثل الوجه الغربي الذي لم يكن معروفا لنا، فإذا تسرب أمر سترناه بطرف ثيابنا لنبقي على الصورة نقية!
فإسرائيل شأن استعماري بالأساس، وعندما غربت شمس الإمبراطورية البريطانية، سلمت متعلقات الاستعمار للساكن الجديد في المنطقة، ولم تكن إسرائيل سوى إحدى هذه المتعلقات التي استلمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وضمنت تفوق جيشها على الجيوش العربية جميعها، ومثل وجودها عدم استكمال الاستقلال الكامل لدول المنطقة بعد نهاية الاستعمار المباشر، كما ضمن وجودها استمرار أنظمة الاستبداد والفشل، حتى لا تقوم للمستعمرات قائمة بخروج جيوش الاحتلال المباشر!
ولأن طوفان الأقصى جعلت مستقبل إسرائيل على المحك، فقد حدث أن فقدَ البيت الأبيض لياقته في التمثيل للنهاية، ومن هنا شاهدنا مشاهد كنا نعتقد أنها حصرية على مجتمعاتنا!
الحراك الذي تشهده الجامعات الأمريكية، كاشف عن أن الدعاية القديمة فشلت، وإذ شهدنا خضوعا عربيا مهينا، فقد عمت المظاهرات العالم الغربي، والجامعات الأمريكية والكندية وغيرها، وإذا بيهود يعلنون انحيازهم للحق الفلسطيني، وإذا بحاخامات يرفعون علم فلسطين، وإذا بالشعوب في أمريكا وأوروبا تنظر لنتنياهو على أنه مجرم حرب، في انكشاف له ما بعده
فبعض الولايات الأمريكية، ولا سيما العاصمة واشنطن، شهدت مظاهرات حاشدة، كما أن الجامعات شهدت هذا الحراك الكبير ضد العدوان، فلم تعد إسرائيل كما كانت، ضحية، ومنارة وسط منطقة مظلمة!
لقد سقطت الصورة النمطية لإسرائيل، وعلى مستوى عالمنا العربي فقد ظللنا ردحا من الزمن نراها وقد انتصرت في الصراع الحضاري بينها وبين العرب، فإذا بها تقتل الأطفال، وتحاصر المستشفيات، وتستهدف المدنيين، وتجوع شعبا في ممارسة للعقاب الجماعي الذي لا يليق بالمجتمعات المتحضرة، وإذا بالحكومات الغربية تدعم هذا الإجرام وتحميه، وإذا بالسلاح الأمريكي يأتي سريعا لقتل المدنيين والمرضى والأطفال!
وهذا الحراك الذي تشهده الجامعات الأمريكية، كاشف عن أن الدعاية القديمة فشلت، وإذ شهدنا خضوعا عربيا مهينا، فقد عمت المظاهرات العالم الغربي، والجامعات الأمريكية والكندية وغيرها، وإذا بيهود يعلنون انحيازهم للحق الفلسطيني، وإذا بحاخامات يرفعون علم فلسطين، وإذا بالشعوب في أمريكا وأوروبا تنظر لنتنياهو على أنه مجرم حرب، في انكشاف له ما بعده!
وسوف يدفع بايدن ونتنياهو الثمن من مستقبلهما السياسي، والمقدر أن الأول لن ينجح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، صحيح أن البديل له هو الأسوأ، لكن رائع أن يكون سقوط بايدن هو بسبب فلسطين وانحيازه لسياسة القتل والتجويع، وإسباغ الحماية على تصرفات مجنون تل أبيب، وليس لأسباب تتعلق بالداخل الأمريكي.
أما نتنياهو فهو في حكم المنتهي، وما إجرامه الآن إلا لشعوره بذلك، فيمد في الحرب مدا، بيد أنه مهما فعل فسوف ينقشع غبار المعارك، ليجد نفسه أمام قدره المحتوم، لكنها لن تكون إسرائيل كما استلمها، التي تحوز على تعاطف المواطن الغربي قبل حكوماته، إنها إسرائيل الحقيقية، التي قتلت الأطفال، وجوّعت البشر، واستهدفت الحي والميت، والمتجردة من أي قيمة إنسانية.
إنها مرحلة تتشكل على بينة!
صحافي وكاتب مصري