البحث العلمي في الجامعات .. “هجر” طويل المدى


عقول يمنية مهاجرة برزت في الخارج.. وكان سر نجاحها البحث العلمي
التعليم العالي: الأبحاث لا توجه لخدمة التنمية.. وشحة الموارد عقبة كأداء
دراسات توصي بضرورة تبني الدولة سياسات البحث العلمي لحل مشكلاتها
البحث العلمي أحد أهم الركائز الأساسية لتحقيق النمو وتقدم الأمم.. وقد شهد العالم خلال العقد الأخير تطوراٍ علمياٍ وتكنولوجيا سريعاٍ وضخما في مختلف حقول العلم والمعرفة. وبات هذا التطور السريع سمة العصر الحالي. وفي نطاق السعي لتنمية الموارد على نطاق الاقتصاد الوطني ووفقاٍ للأسس العلمية التي من شأنها أن تزيد من القدرة الاقتصادية للبلد عموماٍ في مختلف المجالات بات اهتمام دول العالم المتقدم مقترناٍ بالاهتمام بالبحث العلمي وتوفير مستلزماته غير أن مؤسساتنا البحثية وهي الركيزة الأساسية لدعم حركة البحث العلمي وتسخيره في خدمة التنمية وحل مشاكل المجتمع لم تواكب هذا التسابق العالمي في هذا الميدان وهذا ما تؤكده الدراسة العلمية التي أعدها كل من الدكتور فضل الأكوع والدكتور نعمان النجار والدكتور محمود الرميمة من أساتذة الهندسة الطبية الحيوية بجامعة العلوم والتكنولوجيا في أمانة العاصمة حول البحث العلمي في اليمن.. “الواقع والطموح” والتي كشفت أن الإنفاق على البحث العلمي من قبل هذه المؤسسات يقدر فقط بنسبة 0.001% من الميزانية العامة للدولة للعام 2013م وبنسبة 0.4% من ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لنفس العام وبحسب الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي في الجمهورية اليمنية وخطة العمل المستقبلية 2006 – 2010م فإن حجم الإنفاق العام على التعليم العالي يمثل 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 2004 -2005م وتعد هذه النسبة أعلى من المعدل السائد في البلدان التي تشبه ظروفها الاقتصادية ظروف اليمن ويقترب معدل الإنفاق على التعليم العالي في اليمن من مستوى معظم البلدان العربية وبحسب مؤشرات الإنفاق في الموازنة لذلك العام فإن معظم الإنفاق يكون على المرتبات 60% والمنح الخارجية 15% والنفقات الرأسمالية 25% ولا يحظى البحث العلمي بأي نسبة من ميزانية التعليم العالي ويعد هذا الإنفاق أحد المؤشرات التي أشار إليها الباحثون والتي يقاس من خلالها تقدم وتأخر الدول في البحث العلمي ومنها أيضاٍ عدد الطلاب المسجلين للدراسات العليا في الجامعات اليمنية الذي يعد ضئيلاٍ جداٍ ففي جامعة صنعاء على سبيل المثال لا يزيد عدد الطلاب المسجلين للدراسات العليا عن 600 طالب وطالبة في مقابل 77000 طالب وطالبة مسجلين في مرحلة البكالوريوس أما على مستوى الجامعات اليمنية ككل فعدد المسجلين للدراسات العليا لا يتجاوز 1500 طالب وطالبة بالإضافة إلى ذلك فإن أغلب من يمنحون درجة الدكتوارة في مجالي العلوم والهندسة هم ممن حصلوا عليها من جامعات خارجية عن طريق برنامج الابتعاث الخارجي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وأعداد ضئيلة جداٍ من الطلاب اليمنيين الحاصلين على التوفل أو امتحان القدرات GRE بحسب الإحصائيات الأخيرة للاميد ست بالشرق الأوسط ولم تدخل أي جامعة يمنية ضمن أفضل 400 جامعة على مستوى العالم وفقاٍ لما ينشره موقع طومسون رويترز ولا يوجد باليمن المركز القومي للبحوث الذي يضع أولويات البحث بحسب احتياجات الدولة ولا أي من المراكز والمعاهد التخصصية البحثية ولا مجلة أكاديمية محكمة لها عامل قوة كبير وبالنسبة لما يتم نشره من بحوث من قبل أعضاء هيئة التدريس فإن الحافز لهم هو غالباٍ الترقية للرتب العلمية وليس في إطار استراتيجية للبحث العلمي في الجامعات اليمنية.
ويعتقد الباحثون أن أسباب ضعف البحث العلمي في اليمن يرجع إلى أن البحث العلمي لا يمثل أياٍ من أولويات الحكومات المتعاقبة رغم وجود وزارة مختصة بذلك وعدم وجود أي من المعاهد المتخصصة أو الأكاديميات الوطنية التي تهتم بالبحث العلمي مقارنة بدول العالم الأخرى واقتصار عمل وزارة التعليم العالي على الابتعاث الخارجي وعدم وضع أي استراتيجيات للنهوض بصناعة البحث العلمي وعدم اعتماد أي مخصصات من ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لدعم البحث العلمي وغياب أي رؤية أو استراتيجية واضحة للوزارة فيما يخص الابتعاث والاستفادة من عودة المبتعثين لتنشيط البحث العلمي وعدم وجود أي تنسيق بين الجامعات اليمنية المبتعثة والجامعات الخارجية التي تستقبل المبتعثين مما يؤدي إلى انقطاع البحث العلمي للموفد حين حصوله على الدرجة العلمية المطلوبة وغياب التنسيق بين قطاع الصناعة باليمن والجامعات اليمنية والتربية والتعليم ومن بين مسلسل الغياب حسب دراسات حديثة غياب المواضيع التي تعرف البحث العلمي وأهميته في المناهج الدراسية للمراحل الأساسية والثانوية وعدم وجود التوعية التربوية والفكرية بأهمية الباحثين ودورهم في خدمة المجتمع وإدخال قصص علمية لباحثين أثروا العالم بأفكارهم وإنجازاتهم وغياب ثقافة الابتكار بالمراحل الدراسية المختلفة وضعف الإمكانيات المادية والبشرية لنظام التعليم العالي وعدم وجود أي من المجلات المحكمة الدولية والتي لها عامل قوة كبير وغياب المكتبات الرقمية بالجامعات المتصلة بأحدث قواعد البيانات العالمية وعدم الاهتمام بعضو هيئة التدريس بالجامعة واستغلال وقته في البحث العلمي.
فيما يرى الدكتور أنور معزب مدير عام دراسات وأبحاث التعليم العالي بقطاع البحث العلمي في وزارة التعليم العالي أن من بين أسباب ضعف البحث العلمي في بلادنا وعدم استغلاله في التنمية عدم وجود سياسة واضحة للبحث العلمي الأمر الذي ترتب عليه عدم تفعيل قطاع البحث العلمي وشحة الموارد المالية وغياب الإرادة السياسية وافتقار خطط البحث العلمي لمواضيع تخدم المجتمع وتلبي متطلبات التنمية مما يؤدي إلى إهدار للموارد البشرية والمالية.
ويقول معزب: هناك نوع آخر من الباحثين وهم الباحثون الذين يقومون بأبحاث تلبي متطلبات التنمية وتخدم المجتمع إلا أن أبحاثهم لا تجد طريقها إلى التطبيق نتيجة إهمالها من قبل الجهات المعنية ووضعها في أدراج المكاتب وفوق رفوف المكتبات.
منظومة الفساد
الدكتور عامر عبدالحافظ القباطي أستاذ الاقتصاد الزراعي بكلية الزراعة جامعة صنعاء يقول: يرتبط عدم الاهتمام بالبحث العلمي في بلادنا وعدم استغلاله في التنمية بمنظومة الفساد التي من مصلحتها أن يكون كل شيء يعمل بدون أي معايير وقوانين فكما أن القانون هو العدو الأول للفساد فإن البحث العلمي هو أيضا العدو الأول لهذه المنظومة لأنه يوفر معايير علمية لاتخاذ القرارات وتوجيه الموارد بطريقة صحيحة وهو ما لا يعجب هذه المنظومة ويتعارض مع أهدافها فرغم العدد الكبير من الباحثين المؤهلين في أرقى الجامعات العالمية والذين صرفت عليهم الدولة مبالغ طائلة إلا أن توصيات أبحاثهم لا يْعمل بها.
ويستغرب القباطي من لجوء بعض الجهات المعنية إلى الاستعانة بالخبرات الأجنبية بينما أدارج مكاتبها ورفوف مكتباتها تمتلئ بالأبحاث العلمية الرصينة والتي تحتاج منها إلى وضع اليد عليها وإخراجها إلى الواقع الملموس وتوظيفها في مسار التنمية.
ويضيف القباطي: شخصت من خلال بحثي للدكتوراة أهم الاختلالات الهيكلية في القطاع الزراعي التي ترافقت مع عملية التنمية على المستوى الكلي وخرجت بكثير من التوصيات والحلول المقترحة لتجاوز هذه الاختلالات لكن لا فائدة.
إنفاق ضئيل
ويلخص أستاذ أصول التربية بجامعة تعز الدكتور عبدالله الذيفاني في دراسة قدمها لندوة الإصلاح والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن التي نظمها المركز العربي للدراسات الاستراتيجية في بيروت أزمة البحث العلمي في اليمن بالقول: التعليم العالي يعاني عزلة مركبة عن المجتمع والتجديد وعزلة مؤسسات التعليم العالي تؤدي إلى الإبقاء على محتويات برامجها التعليمية في عزلة عن متغيرات الواقع ومتطلباته في التغيير وفيما يخص الإنفاق الحكومي قال الذيفاني: إن ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من الميزانية العامة للدولة ويمثل البحث العلمي فيها جملة أصفار كسرية لا تعرف في دعم البحوث ولا في تمويلها رغم الإدراك النظري لمخاطر هذا الاهمال الذي تصر الحكومة عليه وأضاف: لا نلاحظ تحولاٍ نوعياٍ يبشر بإحداث نقلة نوعية باتجاه دفع البحث العلمي إلى الأمام فمراكز البحوث والدراسات تعاني من أزمات حقيقية في تمويل برامجها ومشاريعها البحثية وموازناتها لا تتضمن بنوداٍ خاصة بالبحث العلمي إلى نهاية التسعينات حيث حدث استثناء باعتماد 10 ملايين ريال سنويا للبحث التربوي ضمن موازنة مركز البحوث والتطوير التربوي.
وأكد أن هناك اهتماماٍ واضحاٍ يظهر في بعض الجامعات بالبحث العلمي وشرعت بتأسيس مراكز للدراسات والبحث العلمي وتأتي جامعة عدن على رأس هذه الجامعات وتحتوي على عدد كبير من المراكز المتخصصة في المجالات المختلفة تليها جامعة تعز ثم جامعة صنعاء وجامعة الحديدة ولكنها بدايات ضعيفة وغير مؤسسة على قاعدة واضحة ورصينة الصلاحيات والإمكانيات.
غياب الدعم
من جانبه يقول الدكتور حسن الدبعي نائب عميد كلية الزراعة بجامعة صنعاء للشؤون الأكاديمية والبحث العلمي: لا يوجد أي دعم للبحث العلمي ومعظم الأبحاث التي يقوم بها الباحثون تدعم من قبل منظمات أجنبية أو قطاع خاص أو جهود ذاتية مشيراٍ إلى أن دعم البحث العلمي وتسخيره في مجال خدمة التنمية بحاجة إلى قرار سياسي.
أبحاث مهملة
من جهته يتحدث الدكتور عبدالكريم البكري عميد كلية التربية بجامعة صنعاء عن القضية قائلاٍ: البحث العلمي سبب رئيسي في تطور المؤسسات والدول ودائماٍ في الدول المتقدمة تتخذ القرارات بناء على أبحاث علمية رصينة وقيمة بينما في بلادنا نلاحظ العكس فمعظم الأبحاث العلمية الرصينة والتي تهدف إلى خدمة التنمية توضع في أدارج المكاتب وعلى رفوف المكتبات نتيجة ضعف الرؤية الموضوعية تجاه ذلك مما ينبغي إعادة النظر فيها.
ويؤكد البكري على وجود أبحاث علمية قيمة في الكلية تتم مكافأة من قام بها من خلال الترقية كما أن تطبيق هذه الأبحاث على أرض الواقع يحتاج إلى تعاون الجهات ذات العلاقة.
توصيات
ويوصي الباحثون في ورقتهم البحثية الموسومة بـ”البحث العلمي في اليمن.. الواقع والطموح” بتبني الدولة لسياسة البحث العلمي كجزء هام لتحسين مستوى دخل الفرد ورفع اسم اليمن عالياٍ واحتساب البحث العلمي في النقاط الكلية لمرشحي وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات ونوابهم وكليات المجتمع وباقي المؤسسات التعليمية وإنشاء معاهد بحثية متخصصة والاستعانة بالعلماء اليمنيين الذين اشتهروا في الخارج في هذه المجالات ويرغبون بالإشراف على هذه المعاهد بأنفسهم خدمة للوطن وإنشاء جوائز تشجيعية للباحثين والعلماء اليمنيين بالداخل والخارج واستقطاب الكفاءات الممتازة والمعروفة عالميا وترغيبهم بالعودة لخدمة الوطن وعقد ورش عمل كبرى لرؤساء الجامعات ونوابهم ورواد الصناعة باليمن لبحث كيف يمكن خدمة القطاع الصناعي باليمن عبر الأبحاث العلمية التي قامت بها الجامعات اليمنية ونقل الخبرة العملية في كيفية النهوض بالبحث العلمي من إحدى الدول التي نشطت مؤخراٍ بالبحث العلمي وتابعت التوصيات: التأسيس لشبكة الباحثين اليمنيين بين الجامعات والمعاهد اليمنية وإيجاد حلقات ربط بينهم وقواسم مشتركة وتطعيم هذه الشبكة بالأعلام والمبرزين بالخارج وتمويل الأبحاث التي لها مردود على البلد وعمل جوائز تحفيزية للباحثين الذين ينشرون أبحاثهم بالمجلات المحكمة عالميا وعمل دراسة لسوق العمل من أجل معرفة البرامج المطلوب الابتعاث فيها.

قد يعجبك ايضا