
في قاعة بيت الثقافة بصنعاء أقيم السبت الماضي معرض صور لشاعر اليمن الراحل عبدالله البردوني في إطار فعالية لإحياء ذكراه والصور التقطتها عدسة المصور اليمني الرائع عبدالرحمن الغابري صديقه وأحد رفاقه الذين لازموه كثيرا في حياته وقد بدت كما لو أنها نفذت إلى أعماق الشاعر أو رصدت حالاته الشعرية الإنسانية حاملة في طياتها دلالات شتى تتوزع ما بين التوثيق والجماليات والمفارقات وتفاصيل الحياة/الشعر.
تحمل الفعالية مفارقة طريفة في كونها فعالية بصرية لإحياء ذكرى شاعر فقد بصره مبكرا وربما لم ير صورته في المرآة لكن الملفت أن كثيرا منها كانت أشبه بلوحات فنية لعل أبرزها وأغربها تلك الصورة التي يظهر فيها البردوني وهو يرفع كلتا يديه واقفا في حوش منزله والثانية وهو يلبس الكوت والثالثة بينما يرد على الهاتف ممسكا بالسماعة. وهي لقطات عجيبة ونادرة ويقف وراءها إحساس فنان وذكاء بصري لكن الجسد ذاته منح الفنان فرصة أكبر في إبداعها إنه يتحرك بحرية دون رقابة بصرية ذاتية مما يهيئ للمصور فرصة لتقتنصه عدسة الفنان في وضعية يندر أن تتحقق حين يتعلق الأمر بإنسان عادي سوف يكون على وعي تام بعدسة الفنان الأمر الذي يجعله يقظا ومتكلفا وربما ليس على سجيته.
ومع هذا فوجه البردوني لم يمثل فرصة للمصور الفوتوغرافي وحسب ذلك أنه مثل ملهما للفن التشكيلي أيضا وهذا يتعدى فكرة البورتريهات التي يرسمها الفنانون لأدباء وأعلام شهيرين تكريما وتخليدا لهم إذ طالما مثل وجه البردوني وجها تشكيليا بامتياز بدءا من تفاصيله وندرة شخصيته وملامحه القوية والمتفردة وانتهاء بتجسيده لمفارقات عدة: المبصر/الرائي والوجه اليمني البسيط الذي قدم من عمق الحياة الشعبية وظل يحمل روح الفلاح لكنه قدم أدبا سيظل أكبر إضافة أدبية جمالية إلى الذاكرة الثقافية اليمنية.
أضف إلى ذلك أن البردوني هو صورة عن اليمن كما يشتهر عنه تلك المروية التي تقول إنه سئل أثناء ما كان في مهرجان شعري في دمشق بسوريا: عن اليمن فقال إذا أردتم أن تعرفوا اليمن فانظروا إلى وجهي وهي مقولة بما فيها من الذكاء والطرافة تحمل حزمة من الدلالات ذلك أن الحفر التي تركها الجدري في وجهه تعكس تاريخا من حياة اليمن الذي عانى المرض والإهمال كما أنها تعكس تضاريسه الجبلية والمتموجة ثم أن سمرته وفوضى شعره وملامحه الأكثر تميزا تكاد تكون بورتريه للإنسان اليمني.
إن وجه البردوني وشخصيته تنتمي إلى الحياة الشعبية والهامش أكثر من انتمائها إلى طبقة الأدباء والمثقفين والنخبة وهي بهذا أصدق تعبيرا عن الإنسانwww اليمني ولطالما تخيلت البردوني وما زلت كأي إنسان شعبي من الطبقة المسحوقة من أولئك الفلاحين والبسطاء بدءا من ملابسه وانتهاء بشعره الذي احتدم بالرموز اليمنية والهم اليمني معجونا بمحليته حتى النخاع وإذا كان البردوني مثلا قد قرأ وهضم كثيرا من التراث والثقافة وأصبح أحد منظري الثقافة “الرسمية” وروادها كشاعر اختط لنفسه أسلوبا وخطا شعريا مختلفا عن الذاكرة الشعرية العربية فإن الثقافة الشعبية ظلت أحد مكونات وعيه الشعري والثقافي يعكس هذا شعره ولغته الممزوجة بمفردات وشخصيات ورموز يمنية ومن قلب الحياة لكنه يتجلى أكثر في تجربته الكتابية الفكرية التي كرس جانبا كبيرا منها للأدب والفنون والثقافة الشعبية اليمنية إلى الحد الذي يمكننا القول أنه إذا أراد أحد معرفة اليمن فعليه بشعر البردوني وأدبه وإذا أراد معرفتها في شكل بصري فعليه بصورة البردوني/وجهه.