من الأشياء المهمة التي فعلتها عملية طوفان الأقصى أنها أظهرت كيف يمكن لمجموعة صغيرة لديها القليل من الإمدادات والمرافق ولكن بالإيمان والعزيمة، أن تحرق نتاج سنوات من الجهود الإجرامية للعدو وتجعلها هشيماً تذروها، بضعة ساعات؛ استطاعت إذلال حكومات العالم المتغطرسة، لقد أذل الفلسطينيون النظام الغاصب ومؤيديه بأفعالهم، بشجاعتهم، بعملهم، واليوم بصبرهم وتعرضهم لجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية. هذا درس عظيم.
وفي هذا الواقع يمكن النظر إلى طوفان الأقصى باعتباره إعادة ترسيم للتأريخ، أشبه بالوعود الإلهية في الكتب المقدسة عن حصة المظلومين من ميراث الأرض.
ولا شك أنه وبعد واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، فإن هذه الحادثة أي طوفان الأقصى هي التي تحدد مرة أخرى نموذجاً جديداً للتأريخ، في تقاطع الحقيقة والأسطورة.
نعم، تحمل عملية طوفان الأقصى رسائل واضحة للعالم :
أولا: يمكن للفلسطينيين بسهولة تهديد أمن الكيان الصهيوني.
ثانياً،: إن كل شيء أصبح واضحاً الآن، فالاستمرار في قمع شعب من قبل عدو يتمتع بحصانة “دولية” كاملة سيؤدي إلى كارثة، وهذا ما يحدث .
لقد ظل النظام الدولي، وخاصة الدول الغربية، لعدة عقود صامتاً أمام جرائم الكيان الصهيوني، ومنحت هذه الدول الحصانة الكاملة للصهاينة ليستمروا في جرائم القمع التي يتعرض لها الفلسطينيون، تجاهلوا حق الفلسطينيين في الحياة لكنهم الآن يرون بوضوح أن المقاتلين الفلسطينيين، في لحظة تاريخية، يهبون لإنقاذ أنفسهم من هذا الظلم والجرائم الكبرى، وانطلقوا في عملية جريئة جذبت انتباه العالم أجمع، وخاصة انتباه الخبراء العسكريين والأمنيين .
وإذ لم تفلح كامب ديفيد، وخروج مصر من ساحة الصراع في نزع فتيل المقاومة، فقد أعادت لها الروح، الثورة الإسلامية الإيرانية التي أطاحت الشاه، الذي كان ينظر إليه على أنه حليف وثيق لإسرائيل والولايات المتحدة. اتخذت الجمهورية الإسلامية، بقيادة آية الله الإمام الخميني، موقفاً مناهضاً لإسرائيل وبدأت في تبني القضية الفلسطينية ليصبح مشروعها الأبدي حتى التحرير من البحر إلى النهر .
وضع الإمام الخميني قبل خمسة وأربعين عاماً، قضية فلسطين في قلب الشعب الإيراني وروحه ووجدانه كقضية عقائدية مركزية. ويُسجل له أنه سخّر كل قدرات البلاد في خدمة هذه القضية وشعبها ومقاومتها ومقدساتها، بل جعل تحرير الأقصى والقدس كجزء مهم من مبادئ الثورة الإسلامية، وباتت إيران الجمهورية الإسلامية الحاضنة والرافعة الأساسية في دعم فلسطين والمقاومة ونصرتهما، وهي تتحمل في هذا الطريق الكثير.
وحتى بعد وفاة الإمام الخميني، وبغض النظر عن تغير الحكومات، استمر خليفته آية الله علي خامنئي على نهج سلفه في احتضان قضية فلسطين والمقاومة بالسياسة الخارجية الثابتة وعلى نفس المسار وفي جميع مواقفه.
ولا تزال فلسطين حاضرة ولها نصيب ومساحة كبيرة في ذهن ووعي الإيرانيين، ودعم الإيرانيين لفلسطين هو مقاومة مستمدة من العقيدة والنهج والأيديولوجية، والتي لا تزال تنتقل إلى الأجيال بعد انتصار الثورة .
في أحدث ظهور له قال السيد خامنئي : “انظروا إلى المقاومة لدى حماس وفصائل المقاومة في العراق واليمن ولبنان، فهي كشفت عن قدراتها وأربكت أميركا”، وأشار إلى “أننا ندافع عن المقاومة وفصائلها ونؤيدها حسب إمكانياتنا لكن القرار لهم”.
كلام خامنئي جاء خلال كلمة تم بثها مباشرة من حسينية “الإمام الخميني” في طهران، بمناسبة العام الهجري الشمسي الجديد “عيد النوروز”، حيث لفت إلى أنّ “علينا تعزيز قدرات جبهة المقاومة في المنطقة والكيان الصهيوني خاسر بكل الأحوال”. كان يشير إلى دعم صمود الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية، وفي الضفة الغربية خصوصاً.
لكن فيما يتعلق بعملية طوفان الأقصى الكبيرة والاستراتيجية، فهي ستحدد مستقبلاً خاصاً رسخ المقاومة في فلسطين المحتلة وفي المنطقة، وأحياها من جديد، وهي اليوم الممثل الحقيقي والمشرف للفلسطينيين كما هو واضح من التفاف الفلسطينيين حولها رغم حفلات القتل الجماعية التي يتعرضون لها.
إن غالبية الشعب الفلسطيني اليوم تعترف بالمقاومة كممثل شرعي له، كحركة وطنية حرة في فلسطين، وحتى في مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن وسوريا.
عودة نهضة الإنسان الفلسطيني
إن نهضة الشعب الفلسطيني، وترسيخ هويته الوطنية لم تخمد يوماً رغم كل ظروف التطبيع القسري ما بعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة واتفاقات إبراهيم. من هنا جاء طوفان الأقصى كنتيجة تغير ثقافي عميق في المجتمع الفلسطيني.
غضب الأمة
إن غضب ما بعد الطوفان لم يكن بناء إعلامياً، بل هو غضب حقيقي وإنساني في المنطقة والعالم؛ وتشير المعطيات إلى أن الأغلبية الساحقة من شعوب المنطقة اليوم لا تعترف بإسرائيل من الألف إلى الياء، وبعد انتصار طوفان الأقصى نشهد نموا ملحوظا في شعبية الحركة وشرعيتها على نطاق واسع.
ونستعرض هنا مجموعة مختارة من المواد والتعليقات من الأصدقاء والأعداء حول إنجازات وانعكاسات طوفان الأقصى، الفشل العسكري والاستخباراتي غير المسبوق هو القاسم المشترك للعديد من تفسيرات المحللين الدوليين، الأصدقاء والأعداء، لعملية طوفان الأقصى، وهي أربع قضايا:
ذهول وصدمة في الكيان الصهيوني لن يفيقوا منها والرغبة في عدم تصديق هذه العملية وعدم توقعها من حيث الكمية والنوعية.
الهزيمة العسكرية والاستخباراتية غير المسبوقة التي لحقت بإسرائيل.
الدور الاستثنائي الذي لا يمكن الاستغناء عنه الذي يتولى القيادة العامة لجبهة المقاومة. في تغيير المعادلات العالمية لصالح جبهة المقاومة وتحقيق الحصار على إسرائيل .
استمرار العمل الميداني المذهل لفيلق القدس (حتى بعد استشهاد الحاج قاسم سليماني) في دعم وتوجيه القوات الكبيرة والصغيرة لجبهة المقاومة من باب المندب إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
لكن، ما هي تبعات الكشف عن الطبيعة الزائفة وفشل النظام الصهيوني في إنجازات المقاومة في العمليات الأخيرة على النظام الصهيوني؟
باختصار يمكن القول: كشف الطبيعة الوحشية للكيان الصهيوني وفشل ديمقراطيته المزيف، على الساحة المحلية والإقليمية والدولية.
ارتفاع أعداد القتلى والجرحى والأسرى لدى النظام مقارنة بالحروب الأخرى التي خاضها، حيث أن عدد القتلى والجرحى منذ عام 1973، بحسب الصهاينة أنفسهم، لم يسبق له مثيل.
خلق الفرقة والانقسام بين مسؤولي النظام الصهيوني وداخل المجتمع الهجين وتعريض حكومة هذا النظام، والكيان نفسه للانهيار.
الكشف عن القدرة على صمود المقاومة بالعمليات المشتركة ومدى إحداثيات العمليات في كافة أنحاء فلسطين المحتلة.
استخدام المقاومة أسلحة متطورة ومعدات حديثة في هذه العملية
استخدام الطائرات بدون طيار المسلحة بشكل أكبر من ذي قبل واستهداف المعدات العسكرية الاستراتيجية {الإسرائيلية} مثل دبابات الميركافا
تعثر مشروع التطبيع مع هذا الكيان من قبل بعض الدول العربية وتحييد ما يسمى باتفاقات إبراهيم، وقصر التطبيع المتعثر على الحكومات فقط والتي تواجه تحدي “الشرعية” بسبب خذلانها للشعب الفلسطيني.
وجه طوفان الأقصى رسالة إلى الدول الفاعلة في المجال الإقليمي وداعمي إسرائيل في العالم أن لا يعولوا ويثقوا بهذا الكيان باعتباره كياناً وهمياً وحصاناً خاسراً.
مفاجأة الجيش الصهيوني في المراحل الأولى لعملية طوفان الأقصى وإيصال هذه الرسالة البناءة بأن أي انتهاك أو اعتداء من قبل الصهاينة يمكن أن يؤدي إلى عمل مفاجئ في المستقبل.
10- انعدام الأمن الكامل في فلسطين المحتلة للصهاينة وبدء موجة غير مسبوقة من الهجرة العكسية، وهو ما يتحدى كل الحسابات الاستراتيجية لهذا النظام.
ومن خلال تفسير العواقب المذكورة أعلاه، يتم فك رموز تعبير قادة محور المقاومة، وهي الأبعاد التي لا يمكن إصلاحها لفشل الكيان الصهيوني، الذي بدأ الأمريكيون يعترفون بأنه أصبح عبئاً ثقيلاً عليهم في ضوء تصاعد عمليات المقاومة التي تستهدف تواجدهم العسكري ونفوذهم السياسي في المنطقة.
وكما قال السيد خامنئي في استقبال السنة الهجرية الجديدة بالتقويم الشمسي” كلّ عمل تُنفّذه قوى المقاومة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ضد الأمريكيين، تنسبه أمريكا إلى إيران.
مؤكداً “أن هذا الحساب الخاطئ سيؤدي حتماً إلى تركيع أمريكا التي لا تعرف هؤلاء الناس. هؤلاء أنفسهم أصحاب فكر وإرادة، ونحن بالطبع ندعم فصائل المقاومة”.
وهذا هو المعنى الحرفي لطوفان الأقصى كتوصيف جديد للتأريخ.
صحفي العراق
Prev Post