خاضت القوات الأمريكية خلال القرن الحادي والعشرين حروباً في كل من أفغانستان والعراق، ونشرت قوات تدخل في سوريا تحت شعار مواجهة الإرهاب الذي مثّله صعود تنظيم داعش. وواجهت القوات الأمريكية في هذه الساحات حروب مقاومة شعبية عبرت عن رفض شعوب وقوى هذه البلدان لاحتلالها، وانتهى احتلال أفغانستان بإعلان الانسحاب الأمريكي بعد عشرين سنة، بالتسليم بالفشل؛ بينما يدور النقاش حول كيفية التعامل الأمريكي مع المقاومة في سوريا والعراق، على خلفية ارتباط هذه المقاومة والاحتلال الأمريكي بموازين القوى المحيطة بأمن كيان الاحتلال وتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، لكن التحدّي الذي تواجهه القوات الأمريكية في البحر الأحمر يبدو مختلفاً على كل المستويات.
من الزاوية الاستراتيجية تصنف الحالة التي تواجهها القوات الأمريكية في البحر الأحمر، بمواجهة نظاميّة بين جيشين متقابلين، يفترض أن لا يستطيع خوضها بوجه القوات الأمريكية إلى جيش دولة عظمى، حيث لا توجد قوات أميركية تحتل أراضي يمنية وتواجه حرب مقاومة شعبية، بل ثمة مواجهة تدور بين الأساطيل الأمريكية ووحدات الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية ساحتها البحر الأحمر. وخلال أكثر من شهر تفشل القوات الأمريكية في إسكات مصادر النيران اليمنيّة. وتستمر الصواريخ والمسيّرات اليمنية باستهداف السفن في البحر الأحمر، وتتعرض السفن الحربية الأمريكية لبعض من هذه النيران.
من الزاوية الاستراتيجية، هذا التحدي النوعي يجعل من اليمن دولة عظمى، أو من الجيش الأمريكي جيش دولة عالم ثالث. فالمواجهة الدائرة على مستويات الاستخبارات والتقنيات والنيران، تقول بأن اليمن نجح بتحقيق التوازن مع القوات الأمريكية، وأدخلها في حرب استنزاف، حيث أن كل الجيشين اليمني والأمريكي يستهدف الآخر. ووفق معايير الجيوش النظامية، ينجح الجيش اليمني باحتواء الضربات الأمريكية والعودة بعد كل ضربة إلى استئناف إطلاق النار كأن شيئاً لم يكن، فلا يتحقق الردع خشية مخاطر المواجهة، ولا تحقق المواجهة ذاتها ما يتسبّب بإضعاف قدرة الجيش اليمني على إطلاق النيران. وتبدو القدرات الاستخبارية والتقنية والنارية للجيش اليمني موازية لما يملكه الجيش الأمريكي، أو ما يستخدمه في هذه المواجهة على الأقل، طالما أن الأمور تُحسَب بنتائجها.
القضيّة هنا لا تتصل بالمعنويات، لأن لا مواجهة برية بين الطرفين، بل تبادل للنار عن بُعد. وفي هذا التبادل، ثلاثة عناصر، المعلومات والتقنيات والطاقة النارية، وفي حرب تقليدية بحريّة يبدو اليمن وأمريكا على طرفي معادلة توازن، معيارها الاستمرار بالوتيرة ذاتها خلال أكثر من شهر، يقول الأمريكيون في كل مرة إنهم يكتشفون خلال المواجهة أن اليمنيين أدخلوا عنصراً جديداً إلى ميدان الحرب، ويتحدّثون مرة عن صواريخ بالستية مطوّرة يجري استخدامها في المواجهة البحرية، ومرة أخرى عن غواصات مجهّزة لهذا النوع من المواجهة، ويعترفون بامتلاك اليمن معلومات كافية عن حركة السفن التجارية والحربية وكيفية استهدافها. وتثبت المواجهة قدرة اليمن على تنظيم الحركة والنار بما ينجح بتفادي الاستهدافات الأمريكية.
خلال مرات عديدة نجح اليمن كجيش نظامي، بفرض إرادته على السفن التجارية التي حظيت بحماية السفن الحربية الأمريكية، وأجبرها على تغيير وجهتها بعدما حاولت البحرية الأمريكية مواكبتها لتمكينها من العبور بعكس الإجراءات والتعليمات اليمنية. وهذا يعني على المستوى الاعتباري والمعنوي إلحاق الأذى بمكانة البحرية الأمريكية وسمعتها وقدرة الردع الأمريكية، بحيث لا يمكن النظر لنتائج المواجهة الدائرة خارج إطار فشل قدرة الردع الأمريكية من الزاوية الاستراتيجية.
خلال عام ونصف كان الأمريكيون يقولون: إن المواجهة الروسية الأوكرانية غير المتماثلة أظهرت أن الجيش الأوكراني أسقط قدرة الردع الروسية، واليوم يمكن القول ببساطة إن المواجهة بين الجيش الأمريكي والجيش اليمني أسقطت قدرة الردع الأمريكية.
*رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية