فلسطين لم تكن يوما ضحية الاحتلال وحده، بل كانت وما زالت ضحية تواطؤ عربي رسمي ممتد، تارة بالصمت، وتارة بالتماهي مع المشاريع الاستعمارية، وأخرى بالمشاركة المباشرة في أضعاف القضية وتصفيتها.
التاريخ مليء بالشواهد التي لا يتسع المقام لسردها، لكنها حاضرة في الذاكرة الفلسطينية، منذ النكبة وحتى اليوم لعبت أنظمة عربية دورا محوريا مكّن المشروع الصهيوني من تثبيت أقدامه وتوسيع خططه، دول كانت يوما في طليعة المواجهة تحولت إلى بوابة للتطبيع، وممرا الزاميا لوساطات تنتهي دوما بتكريس واقع الاحتلال، وأخرى ربطت مصيرها الأمني به، وباتت علاقاتها الأمنية والاقتصادية معه اعمق من أي وقت مضى.
منذ اللحظة التي منح فيها العرب الغطاء السياسي للغرب لتقسيم المنطقة، كانت ملامح التخلي عن فلسطين قد بدأت، والنكبة ثم النكسة لم تكن أحداثا معزولة، بل نتيجة تفاهمات سرية وعلنية، وبمرور الوقت تقلصت مساحة الفعل العربي، حتى باتت أنظمة عربية ترى في الاحتلال ضمانا لاستقرارها، فتعاملت معه كحليف، لا عدو.
ولا يمكن إعفاء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من مسؤوليتها عن هذا الواقع، يوم أخرجت قضية فلسطين من إطارها الأوسع، وجعلتها قضية فلسطينية محضة، فأعفت الأنظمة من مسؤوليتها التاريخية، وأتاحت لها التذرع بان “الصراع” شأن فلسطيني خالص، تحول جاء بدفع مباشر من عواصم عربية سعت للتخلص من عبء المواجهة، فداعبت أحلام الطامحين بدويلة وسجادة حمراء ومسميات، فوقعوا في فخ اعد لهم بإحكام، فعزلت القضية عن عمقها الاستراتيجي، ومنحت العرب مخرجا مريحا للتنصل من التزاماتهم، واتاح للاحتلال مواجه شعب محاصر بلا ظهير حقيقي. ثم رأينا دول اختارت ان تكون راس الحربة عبر التطبيع، وبينما كانت غزة تحرق، وأطفالها يموتون جوعا أو تحت الركام، كانت تمنح الاحتلال شرعية سياسية واقتصادية وأمنية، مسار لم يكن وليد ضعف مؤقت، بل استراتيجية طويلة الأمد، بدأت بتقسيم فلسطين، ثم كرست مع كل هزيمة عربية في حروب وهمية، وتعمقت بتحالفات أمنية واقتصادية برعاية أمريكية، فتحولت فلسطين إلى ملف ثانوي يقايض مقابل حماية الأنظمة، وتدفق الاستثمارات والسلاح الذي لم يُستخدم يوما الا لقتل العرب.
العدوان على غزة كان اختبارا فاضحا لهذه الحقائق، فحرب الإبادة والتجويع مرت أمام أعين عواصم العرب دون ان تحرك فيهم نخوة أو حمية، وجاءت الردود ببيانات وقمم بلا قرارات أو نتائج، وما مواصلة توقيع الصفقات الكبرى والأضخم في تاريخ التعاون الاقتصادي مع الاحتلال في ذروة العدوان الا دليلا إضافيا على رداءة الواقع العربي.
بالمقابل، فالشعوب العربية على النقيض تماما، ترفض التطبيع وتعتبره خيانة، لكن بين وعي الشارع وإرادة الحاكم فجوة تدار بالقمع، خشية ان تتحول الميادين إلى أدوات ضغط، فالعدوان كشف حجم الشراكة غير المعلنة؛ من إغلاق المعابر، إلى الإغاثة الوهمية، والتنسيق الأمني المباشر، ما جعل بعض العواصم جزءا أصيلا من منظومة الحصار، حتى وان حاولت تغليف ذلك بذرائع السيادة أو التوازنات.
خرج المشهد من الغرف المغلقة إلى العلن؛ إعلام ترفرف، اتفاقيات، وعلاقات دبلوماسية، يوم كانت غزة تتعرض للإبادة، والقدس تهود، والضفة تغرق في وحل الاستيطان، فلو فتحت المعابر بلا قيود، أو أوقف النفط عن مصانع الغرب، وجمدت الاستثمارات والاتفاقيات، لوجد الاحتلال نفسه في عزلة، لكنها خطوات تصطدم بإرادة سياسية غائبة أو منقادة للغرب.
وباستمرار هذا النهج، فالخطر لا يقتصر على فلسطين وحدها، لان المشروع الصهيوني لا يقف عند حدود فلسطين، ونجاحه في فرض التطبيع الكامل يعني إعادة رسم خريطة النفوذ والهوية في العالم العربي، والغرب يقرأ هذا الصمت كضوء اخضر للمضي في مخططاته، ويرى ان الأنظمة التي تصمت اليوم ستتنازل أكثر في الغد، فالتاريخ يعلمنا ان من يبيع القدس سيبيع عواصم أخرى.
ومع ذلك، ما زالت هناك فرصة لتغيير المسار ان توافرت الإرادة، فالقدس وغزة وجنين ليست مجرد جغرافيا فلسطينية، بل مفاتيح لصورة المنطقة ومستقبلها، وفلسطين لا تحتاج لعبارات تضامن موسمية، بل إلى قرارات جريئة تربط مصير المنطقة بمستقبل القدس، وتجعل من الحقوق العربية في فلسطين بنودا غير قابلة للمساومة، اما دون ذلك، فان أي ثناء على مواقف العرب لن يكون الا غطاء إضافيا لاستمرار حرب الإبادة.
* كاتب فلسطيني