الثورة /
في مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد رسول الله محمد صلوات الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وأفضل الرسل ، حيث وُلد يتيمًا في عام الفيل، ثم ماتت أمه آمنة بنت وهب من نساء المدينة في سنٍّ مبكرة خلال عودتها من زيارة أهلها من المدينة إلى مكة ؛ فكفله وربَّاه جدُّه عبد المطلب بن هاشم عليه السلام ثم عمُّه أبو طالب عليه السلام ، فتزوج عليه الصلاة والسلام من خديجة بنت خويلد عليها السلام ، حتى أتاه الأمر الإلهي بالدعوة إلى الله وإلى توحيده ودعوة الناس إلى الإسلام دين الله.
فدعا عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك، وكانت دعوته في مكة على مرحلتين بداية ، السرِّيَّة التي استمرت لثلاث سنوات، ثم الجهرية التي استمرت عشر سنوات ، ثم كانت الهجرة إلى المدينة المنوَّرة بعدما واجهته قريش وناصبته العداء والحرب ، فجاءه الأمر من الله بالهجرة إلى الأوس والخزرج في المدينة المنورة بعد أن عقدوا بيعتهم مع رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم.
هاجر عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة بعد شدة وتنكيل كفار قريش بالمسلمين الذين آمنوا بالرسالة والرسول صلوات الله عليه وآله وسلم ، فأسس في المدينة دولة الإسلام وصارت منطلقا للدعوة إلى دين الله ، وكانت عاصمة دولة الإسلام النبوية ، وعاش في المدينة عشر سنوات حتى ارتحل- عليه وآله الصلاة والسلام- إلى الله.
وتعتبر ذكرى الهجرة النبوية محطة تاريخية متجددة في حياة الأمة لارتباطها برسولها محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” وبمسيرته وحركته بالرسالة الإلهية، في كل ما يتضمنه ذلك من دروس وعبر تستفيد منها الأمة في كل عصر، وفي مواجهة التحديات بكل أشكالها، ولتصحيح وضعها، ولبناء مسيرتها على أساسٍ صحيح، وهو ما يتوجب أن تستفيده الأمة اليوم وفي هذه المرحلة الحساسة.
اليوم يدخل العام الهجري الجديد 1445هــ ، ومناسبة بداية العام الهجري ، هي هجرة رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة ، ولهذه المناسبة أهميتها ودلالاتها وقدسيتها ، ولهذا فقد ارتبط التاريخ الإسلامي بالهجرة النبوية، لتكون هي الأساس التاريخي الذي يعتمد عليه المسلمون في تاريخهم، وللهجرة النبوية أهمية كبيرة جدا في تاريخ المسلمين ، لما نتج عنها وترتب عليها من آثار وأحداث ، وهي محطة تاريخية لها أهميةٍ كبيرةٍ جدًّا في تاريخ المسلمين، فيما نتج عنها وترتب عليها من آثار ونتائج مهمة وكبيرة وإيجابية.
قبل الهجرة النبوية لم يكن يعرف العرب قبل الإسلام التقويم أو التأريخ السنوي المتسلسل بالأعوام بل كانوا يؤرخون مواليدهم بالأحداث الكبرى والوقائع المشهورة، كقولهم ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفيل، وهو العام الذى حاول فيه أبرهة الحبشي هدم الكعبة مستخدما الفيلة فأهلكه الله دونها.
ولأن الهجرة النبوية كانت حدثا تاريخيا هاما باتت تاريخا متسلسلا للعرب والمسلمين منذ ذلك الحين ، ولهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة أسبابها ، وأحداثها وفيها مواقف ودروس للأمة كلها ، ولليمنيين الأوس والخزرج الذين استوطنوا المدينة المنورة وتحملوا المسؤولية باحتضان الدعوة الإسلامية ورسول البشرية محمد صلوات الله عليه وآله وسلم ، أدوار خالدة حددت مصير الإسلام والدولة الإسلامية.
ما قبل الهجرة
بدأ رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الإسلام في مكة ، التي كان منها بداية انطلاقته في مسيرته النبوية ، وتوجه بالجهد في المرحلة الأولى للدعوة النبوية في إطار جغرافيا مكة ، فتوجه بالدعوة إلى الإسلام إلى أبناء المجتمع المكي؛ لكي يكوِّنوا هم الأمة المسلمة، والحاضن الأول لهذا المشروع الإلهي ، لكي تكون مركزاً منطلقا للدعوة إلى البلاد كلها ، لأن مكة هي المركز الديني الإلهي المهم في الأرض ، تنطلق منه هذا الدعوة من خلال موسم الحج والمناسبات الدينية، تنطلق هذه الدعوة إلى غيرها من المناطق، فمكة هي أم القرى.
بقي النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” يتحرك في مجتمع مكة، ويدعوهم إلى الله “سبحانه وتعالى”، ولكن ارتباطاتهم بزعمائهم وقادتهم الطغاة المجرمين، جعلهم ينصرفون عن الدعوة ، وقد رأى كبار كفار قريش في هذا الإسلام وفي هذه الرسالة الإلهية حداً من نفوذهم، ومنعاً لسيطرتهم واستغلالهم واستعبادهم لذلك المجتمع، وكان بإمكان قريش أن تنال شرفا عظيما بحمل الرسالة النبوية ، لكن أكثريتهم وكبارهم انصرفوا إلى مواجهتها.
رفضت قريش الإسلام وواجهت الدعوة وهي تقطن أطهر بقاع الأرض مكة المكرمة، وتحرك كبار كفار قريش ومريديهم ضد الرسالة الإلهية وضد رسول الله محمد صلوات الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به ، فتحركت قريش ضد هذه الرسالة، وكعدو لهذه الرسالة، ولرسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وبعد طول صبر منه صلوات الله عليه على تكذيبهم، على تعنتهم، على جدالهم، على أساليبهم في إطلاق الدعايات المتنوعة ضد هذه الرسالة وضده “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، وفي آخر عام من الدعوة التي استمرت ثلاثة عشر عاما في مكة بدأ رسول الله صلوات الله عليه وآله سلم بعقد لقاءات مع القبائل الوافدة.
بيعة العقبة والترتيب للهجرة
في الأعوام الأخيرة للدعوة النبوية في مكة كان رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم يلتقي عادةً بالقبائل الوافدة إلى موسم الحج، ويدعوها إلى الإسلام، وعندما أتى الإذن الإلهي بالهجرة، بدأ يبحث عن مجتمعٍ بديل للمجتمع القرشي ، يكون حاضنا للدعوة والدولة ولديه القابلية لأن يتأهل لحمل راية الإسلام، ولأن يدخل في الإسلام، ويجعل من نفسه المجتمع الحاضن الذي تتكون فيه الأمة المسلمة.
ومن لقاءاته صلوات الله عليه تلك ، كان لقاؤه ببعض الأوس والخزرج القبيلتين اليمنيتين اللتين سكنتا يثرب ، فدخلوا في الإسلام، وعادوا إلى قومهم، ونشروا الإسلام أكثر، وعاد معهم في الموسم الذي يلي ذلك الموسم عدد أكبر ممن التقوا برسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وأيضاً دخلوا في الإسلام، وبايعوه فيما سمي ببيعة العقبة الأولى ، وفي الموسم الذي يليه أتى عددٌ أكبر منهم وبايعوه، واتفقوا معه على الهجرة إليهم، فكانت بيعة العقبة الثانية.
شرف حمل راية الإسلام ، والتوفيق الإلهي العظيم ، كان من نصيب قبيلتين من قبائل اليمن، هما: الأوس والخزرج، الأوس والخزرج قبيلتان يمانيتان قطنتا في يثرب ، أو فيما أطلق عليه فيما بعد (بعد هجرة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”) بالمدينة المنورة، وهذا الشرف وهذا الفضل الكبير الذي حظي به مجتمع أتى ضمن التدبير الإلهي، وهذا فيه دروس مهمة جدًّا، كيف أنَّ مجتمع مكة الذي أثَّر على أكثريته ارتباطه بطغاته من أمثال: أبو جهل، وأبو لهب، وأبو سفيان… وغيرهم، وعاش أسيراً لأولئك الطغاة، خاضعاً لهم، متجهاً باتجاههم، ووصل به الحد إلى المؤامرة على النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في الفترة الأخيرة، التي حدثت عندها الهجرة، وترتب عليها مباشرة حركة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في هجرته من مكة إلى المدينة ، فيما نال الشرف قبيلتان يمانيتان هما الأوس والخزرج.
خرج رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم مهاجرا بعدما وصلت قريش معه إلى حد التآمر على قتله ، والقرآن الكريم تحدث عن هذه المؤامرة بقول الله “سبحانه وتعالى”: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: الآية30].
وبعد اشتداد الأذى للمسلمين اتجه مكرهم إلى المكر والمؤامرة على حياة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، بعد أن درسوا عدة خيارات في الاستهداف للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، في سعيهم لإطفاء نور هذه الرسالة، ولمنع النبي نهائياً من مواصلة عمله في حركته بالرسالة الإلهية.
عقدت قريش اجتماعها ، وتدارس كبار مشركيها خيارات التصفية لرسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم في اجتماع عقدوه بدار الندوة ، فدرسوا الخيارات المناسبة لهم بهدف استهداف النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ، إما بالاعتقال والسجن، {لِيُثْبِتُوكَ}، وإما بالقتل، وإما بالإخراج من مكة والنفي منها ، فاستقر رأيهم على خيار القتل، واختاروا لهذه المهمة مجموعةً من شجعانهم من بطون مكة لينفذوا هذه الجريمة بحق النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وحددوا الليلة التي ينفِّذون فيها هذه الجريمة، فنزل الوحي على النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بالتفاصيل عن هذه الخطة والترتيبات المعدة لها، ومع ذلك الأمر من الله “سبحانه وتعالى” للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ليهاجر من مكة إلى المدينة.
خروج رسول الله ونوم الإمام علي في فراشه
خرج رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم فيما كان قتلة قريش يتربصون به ليلا على باب مخدعه ، وافتداه الإمام علي بن ابي طالب بالنوم على فراشه حتى يوهم قريش بأن رسول الله ما زال نائما.
ليلة الهجرة نام الإمام عليٌّ عليه السلام في مرقد النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” كعملية تمويهية، وخرج النبي متخفياً، وخرج باتجاه الغار، غار خارج مكة، في الجهة المعاكسة لاتجاه المدينة، في عملية تمويهية وتدبير حكيم، وبقي مختفياً في الغار- كما في بعض الأخبار والسير- لثلاثة أيام، تلك اللحظة لربما كانت من أخطر اللحظات على حياة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” من جانب، وعلى مسيرة الرسالة الإلهية من جانبٍ آخر، حالة حرجة وحسَّاسة جدًّا، وفيها درسٌ مهمٌ جدًّا.
الأعداء عندما بدأوا بالبحث بعد فشل عمليتهم تلك ذهبوا تلك الليلة لمراقبة بيت النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وهجموا في آخر الليل على منزل النبي، فلم يجدوا النبي ووجدوا عليًّا عليه السلام، وفشلت خطتهم، بدأوا بالبحث بشكلٍ مكثف عن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وأعلنوا جائزةً مغرية لمن يدلّ عليه، أو يدلي بمعلوماتٍ تكشف موقعه أين هو، وكانت هذه الجائزة: مئة ناقة، عرضوها لمن يدلي بأي معلومات تساعدهم على إلقاء القبض على رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” أو قتله، ثم بدأوا يتحركون في عملية بحثٍ مكثفة في كل مكة، وفي كل محيطها، وفي خارجها، واستعانوا بمن يقتفون الآثار ويتتبعونها، في الأخير اكتشفوا أثر خطى النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وأين اتجه.
تتبعوا أثر الخطوات حتى وصلوا إلى الغار، ولم يكن معه إلا صاحبه، كما في القرآن الكريم وهو يروي لنا ما ورد في قوله جلَّ شأنه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية40]،وفي اللحظة التي وصل فيها الأعداء إلى جوار هذا الغار كانت أخطر لحظة على مسيرة الرسالة الإلهية، وعلى الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، لكنه في تلك اللحظة كان عظيم الثقة بالله “سبحانه وتعالى”، وكان يُطَمْئِن صاحبه قائلاً له: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، بما تعبِّر عنه هذه العبارة في تلك اللحظة الحسَّاسة والحرجة من ثقةٍ عظيمةٍ بالله “سبحانه وتعالى”، وتوكلٍ عليه جلَّ شأنه، واطمئنان إلى نصره وتأييده.
{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، أتت الرعاية الإلهية والتدخل الإلهي المباشر في تلك اللحظة الحسَّاسة جدًّا والخطرة للغاية، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}، يعني: على النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}، وفَّر له الدعم والإسناد الكافي واللازم على المستوى النفسي، ولما يضمن أيضاً حمايته في قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}، ففشلت كل جهودهم، وخابت آمالهم، ونجحت عملية الهجرة بكل ما ترتب عليها من نتائج مهمة وكبيرة، استمرت وامتدت آثارها ونتائجها العظيمة المهمة إلى اليوم، وتمتد إلى قيام الساعة، بكل ما يترتب عليها على امتدادها من نتائج كلما أعادت الأمة الارتباط الوثيق بمبادئ هذه الرسالة وقيمها.
{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}، كلمة الله دائماً هي العليا، وهي لا تنخفض، وهي لا تسقط، تبقى عاليةً دائمةً، والأمة كلما تمسَّكت بها، والمؤمنون كلما التزموا بها واتبعوها، يكونون هم الأعلون، ولذلك لم يقل هنا: وَكَلِمَةَ، قال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالرفع، {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}؛ لأنها دائماً كأمرٍ ثابتٍ هي العليا، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فنجحت عملية الهجرة.
وصول النبي صلوات الله عليه وآله إلى يثرب
وعندما هاجر النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” إلى يثرب، إلى المدينة، إلى المجتمع الذي رحَّب بهذه الرسالة الإلهية، ودخل فيها، وتحرك لنصرتها، وحظي ذلك المجتمع المشكل من الأوس والخزرج باسمٍ عظيمٍ من الله “سبحانه وتعالى”، يعتبر وسام شرفٍ كبيراً جدًّا، لقد سمَّاهم الله بالأنصار، هذا اسم من الله.
وفي أيام معاوية حاول معاوية أن يلغي هذا الاسم عنهم، فكانوا مستعدين للثورة والقتال، ولا أن يلغى عنهم هذا الاسم، هذا الاسم ارتبط بقيامهم بهذا الدور في نصرة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، ونصرة الإسلام، فسمَّاهم الله في كتابه الكريم بالأنصار.
الأنصار امتازوا عن مجتمع مكة الذي كان مجتمعاً مادياً، وكان مجتمعاً معجباً بالطغاة والظالمين والجائرين والمستكبرين، ففشل ولم يتأهل لنيل هذا الشرف الكبير، ولم يخرج منه إلا القليل، ممن كانوا أخياراً ومسلمين، وانطلقوا في صف الرسالة الإسلامية في مراحلها تلك، لكن مجتمع الأنصار امتاز بمميزات مهمة، تمثِّل دروساً ينبغي أن يحرص مجتمعنا الإسلامي على الاستفادة منها في كل مرحلة وفي كل زمن.
الله “سبحانه وتعالى” جمع هذه المميزات الراقية والعظيمة في آيةٍ مباركة، عادةً ما نتحدث عنها في كل مناسبة من هذه المناسبات عندما نتحدث أو نلقي كلمة، يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: الآية9]، هذه المواصفات المهمة والعظيمة هي مواصفات لم تقدَّم على أساس أن تكون حصرية لمرحلة زمنية معينة، للأنصار في زمن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، إنها المواصفات التي يحتاج إليها مجتمعنا الإسلامي في كل زمن وفي كل مكان؛ لكي يكون مؤهلاً لحمل هذه الرسالة الإلهية، وملتزماً بها، وحاملاً لرايتها، ولكي تتحقق له نفس النتائج التي تحققت لذلك الجيل الذي حمل هذه المواصفات، فارتقى من خلالها إلى مستوى عظيم، أهَّله للقيام بدورٍ تاريخيٍ كبير، بني عليه التحولات الكبرى في المجتمع الإنساني.
الأمة إذا أرادت أن تعود إلى الصدارة في الواقع البشري بكله، الأمة إذا أرادت أن تكون هي المؤثرة لا المتأثرة، والمؤثرة من هذا الموقع: من موقع أمةً خيِّرةً، مؤمنةً تقيةً، أمةً تلتزم بالقيم الإلهية العظيمة، الأمة إذا أرادت ليس فقط أن تكون مستقلة، بل أكثر من ذلك: أن تكون مع استقلالها هي المؤهلة لقيادة المجتمع البشري كافة، فعليها أن تلتفت إلى هذه المواصفات العظيمة والمهمة جدًّا، وهي مواصفات مشرِّفة، وقابلة للتطبيق والتحلي بها في واقع الناس.
امتياز الأنصار واستيطانهم مدينة يثرب
هذه المواصفات المهمة جدًّا، في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: من قبل المهاجرين الذين هاجروا من مكة ومن مناطق أخرى إلى المدينة، {الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ}؛ لأنهم سكنوا في يثرب منذ مدة طويلة، الحال يختلف عنهم وعن غيرهم من بقية المهاجرين، هم في الأساس هاجروا منذ مدة طويلة إلى ذلك الموقع، إلى تلك المنطقة، واستقروا فيها.
تحكي السِّير والأخبار أن الأوس والخزرج استقروا في يثرب منذ زمن تُبَّع الملك اليماني المشهور ، وأنه أخبر القبيلتين اليمنيتين الأوس والخزرج وأرادهم أن يسكنوا يثرب ؛ لانتظار هذا النبي الموعود في آخر الزمان “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، ولكن الآية المباركة تذكر إضافةً إلى عبارة: {الدَّارَ} {وَالْإِيمَانَ}، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}، وهذا يلفت نظرنا إلى مدى التحلي والالتزام بالمبادئ والقيم الإيمانية التي بلغوا فيها إلى هذه المرتبة، وكأنها سكنت فيهم وسكنوا فيها.
الإيمان هو العنوان المهم جدًّا والراقي والعظيم الذي تشرُف به الأمة، وترتقي به الأمة، وتعلو به الراية، والذي يغيِّر واقع الحياة بكله، والذي يجعل الأمة في الموقع المتقدِّم، والذي يساعد على حلّ الكثير من المشاكل التي تعثر بها الأمة، وتسقط بها الأمة، وتضيع بها الأمة، يضع الأمة في الاتجاه الصحيح والسوي، يترك أثره على المستوى الروحي، على المستوى الأخلاقي، على المستوى القيمي، على المستوى السلوكي، على مستوى المواقف.
الإيمان حالة حاكمة، تحكم في الإنسان كل تصرفاته، كل مواقفه، حتى في روحيته، حتى في سلوكياته، حتى في مواقفه، بمعيار التوجيهات الإلهية، هذا هو الإيمان، وهذا هو الذي يرتقي بالإنسان، يسمو بالإنسان، يشرف بالإنسان، ويعظم به الإنسان، هذا هو الذي يجعل من الإنسان إنساناً لا يبقى كالأنعام أو أضل من الأنعام، يسمو بالإنسان، فيأتي العنوان الإيماني هو العنوان الجامع، والعنوان الرئيسي، والعنوان الأساس، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
الأوس والخزرج لم يكن فقط دورهم ينحصر بأن يحاولوا الاستحواذ على النهوض بهذا الدور، بل ليكونوا نواةً لأمةٍ تتسع دائرتها، وهم داخلها النواة، والبيئة الحاضنة، والأرضية الصلبة التي تستقبل هذه الدائرة فتتسع أكثر وأكثر حتى تكون أمةً كبيرة وأمةً عظيمة، وهذا درسٌ لأمتنا اليوم ، ما أكثر الأنانيات، ما أكثر الحساسيات، ما أكثر سفاسف الأمور التي يمكن أن تضرب أخوةً بين مجتمع ومجتمعٍ آخر.
{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}: ليس عندهم أي حساسية أبداً تجاه ما يمكن أن يحصل عليه هذا الذي هاجر إليهم، هم يحبون الخير لهؤلاء الذين يهاجرون إليهم، لا يتحسس، لا يتعقد، لا يشعر بالحسد والغيرة أنَّ هذا حصل على شيء، أو أعطي شيئاً، أو ناله شيء من الخير، لا، بل أكثر من ذلك كما قال عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، وهذه ميزة راقية جدًّا، إذا وصلت الأمة، إذا وصل أي مجتمع من المجتمعات إلى هذه الروحية العالية جدًّا، وهي ذات قيمة في الوزن الأخلاقي والميزان القيمي: أن يُؤْثِروا على أنفسهم، فمعنى هذا: أنهم يريدون الخير للآخرين، أنهم يحملون نفوساً كريمة، نفوساً معطاءة، نفوساً يمكن أن تقدِّم أي شيء في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وفي سبيل أن ينتصر هذا الحق، أن تنتصر هذه الرسالة، أن يسود هذا الدين، ونفوساً كريمة معطاءة، إلى هذا المستوى من العطاء: أنه يمكن ليس فقط أن تقدِّم مما في وسعها أن تقدِّمه، بل أن تُؤْثر.
حمل الأنصار روحية العطاء كما وصفهم القرآن الكريم ،{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، وهذه الروحية التي حملت الإيثار هي من حملت هذا المشروع الإلهي ، وأي مجتمع يحمل هذه الروحية يُؤْثِر على نفسه؛ سيكون مجتمعاً جديراً بحمل هذا المشروع الإلهي، وجديراً بالنصر والتمكين، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وهذه ميزة كبيرة جدًّا، البعض قد يعطي إذا كانت ظروفه متيسرة، البعض من الناس قد يصل إلى درجة أن يُؤْثِر على نفسه لكن إذا كانت الظروف لا بأس، يستطيع أن يجبر هذه الخلة بشكلٍ سريعٍ ومباشر. أما هم فهم يؤثرون على أنفسهم حتى في الظروف الصعبة.
{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، إذا تخلَّصت الأمة من الشح- الأنانية هي نتاج الشح- فيمكن أن تكون مفلحة، والأمة المفلحة هي التي تظفر، تتحقق الأهداف من خلالها، تتحقق النتائج بجهودها وتضحياتها؛ لأنها بهذه المواصفات المهمة ستكون أمةً عملية، متحررة من قيود الخوف، ومن قيود الطمع، والأمة إذا تحررت من قيود الخوف ومن قيود الطمع، كانت أمةً صابرة، قوية، متجلدة، متحملة، تحمل هذا المشروع، ويمنحها الله “سبحانه وتعالى” منه العون والتوفيق والنصر والتأييد، وتواجه كل التحديات والصعوبات مهما كانت؛ لأنها تعتمد على الله أولاً، ولأنها تلتزم في واقعها العملي بقيم عظيمة، قيم تكفل النجاح لمن يتحلى بها، تعليمات تضمن الفلاح والنصر لمن يلتزم بها.
ولذلك نحن في هذا الزمن عندما نتطلع إلى هذه المناسبة، ونأخذ العبرة من مجتمع مكة الذي خسر أكثرية أبنائه، ثم نأخذ العبرة من مجتمع يثرب، من الأوس والخزرج، من الأنصار الذين سمَّاهم الله بالأنصار، وما تأهلوا به لنيل هذا الشرف الكبير من مواصفات عظيمة، نستفيد نحن في هذا الزمن سواءً كشعبٍ يمني، أو كأمةٍ مسلمة، درساً كبيراً للجميع، درساً كبيراً لنا كمسلمين، كأمةٍ مسلمةٍ بشكلٍ عام، ونحن في مواجهة التحديات، وأمةٌ لها مشاكل، مشاكل كثيرة في واقعها، تحتاج إلى الاستفادة من سيرة نبيها وتاريخها الطويل، تستفيد الدروس والعبر التي تساعدها على حلِّ مشاكلها، على تصحيح وضعيتها وتصحيح مسارها، وعلى أن تبني واقعها على أساسٍ صحيح، وهذا ما ينبغي أن نركِّز عليه.
مناسبة الهجرة النبوية مليئة بالدروس والعبر والأحداث المهمة ، وهو ما يستوحى من ذكراها السنوية ويؤخذ ، على نحو يكرس قيم هذا المجتمع النبوي الأنصاري في واقعنا.