الجديد فيها إيقاف نزيف الثروات اليمنية بقرار من صنعاء
الذكرى الـ55 للاستقلال.. بين مفارقات الواقع المرير ومؤامرات الماضي على جغرافيا اليمن
(يا للأسف لا زلت يا الشطر الجنوبي مُرتهن/ وما بقي من ثورة أكتوبر سوى عنوانها// كل الفصائل ذي عليك اليوم رضعت من لبن/ لندن وواشنطن وذولا كلهم جرذانها// استنفري يا لحج يا أبين يا المكلا يا جبن/ وبلِّغوا شبوة تجهز للقاء فرسانها// والله ما تحــتل سنــتيمتر من هذا الوطـن/ لــو تقفــز الدنيا وتزحـف فوقنا بأسنانها// عـيوننا للقـــدس ما بالــك بتحـــرير اليمـــن/ الله يلعــــن والدَي مــن باعها أو خــانها).
في ذكرى الاستقلال الـ55 المجيدة لم يحضرن أي شيء من مشاهد الزهو بهذه المناسبة، بل حاصرني كل ما يعبر عن وضع اليمن المحتل جنوبه من قبل قوى أجنبية بأدوات إقليمية، ومحلية أسوأ من الاستعمار القديم ذي الأجندة الواضحة، سوى الاتساق الموضوعي بين دور الأدوات المحلية والإقليمية التي تلعب دور التهيئة لاستعمار جديد، والنص الزواملي الذي خطه زمّال يماني أصيل هو الشاعر صقر اللاحجي..
ستتطرق هذه المادة لجانب من مفارقات الواقع الذي تعيشه المناطق المحتلة، وبين مؤامرات الماضي وأطماع القوى الاستعمارية وصراعها على جغرافيا اليمن، وثرواتها ومواردها وموقعها الاستراتيجي……….. إلى التفاصيل :الثورة / إعداد/ إدارة التحقيقات
على غير عادتها في السنوات الماضية تأتي ذكرى الاستقلال الـ55 هذا العام، تعيش المحافظات المحتلة ظروفاً صعبة مقرونة بمشروعٍ من التشظي والانقسامات أراده تحالف العدوان الذي لم يبق على أي مشترك يجمع الشتات سوى تأييد حربه وحصاره في اليمن، وسط تلاحق وتضافر الأزمات الاقتصادية والمعيشية، واستحالة معالجة الاختلالات بعد بلوغها ذروة الكارثة، يأتي بعد نجاح التحالف السعودي الإماراتي ومن ورائه بريطانيا وأمريكا في تكريس مشروعه التفكيكي للنسيج اليمني في تلك المحافظات.
الجديد في هذه المناسبة يكمن في أن قرار حكومة صنعاء القاضي بمنع نهب ثروات اليمن النفطية، غيرت معادلة نهب الثروات لصالح الشعب اليمني، ففي شهر الاستقلال نوفمبر وجهت قوات حكومة صنعاء ضربة رابعة ضد ناقلة نفط أجنبية، مفشلة أكبر محاولة لنهب قرابة 2.1 مليون برميل من النفط الخام اليمني، بقيمة تقديرية 174 مليون دولار، من ميناء الضبة في حضرموت، وقبلها ثلاث ضربات طالت موانئ الضبة بمحافظة حضرموت النشيمة وقنا في محافظة شبوة.
ليس المهم هنا إفشال العملية، وإجبار الناقلة براتيكا على مغادرة الميناء خالية الوفاض، فسابقاتها غادرت موانئ النشيمة وقنا التابعين لمحافظة شبوة وميناء الضبة التابع لمحافظة حضرموت، بدون كسر قرار صنعاء الذي أوقف نزيف الثروة الوطنية النفطية؛ بل الأهم أن السفينة الأخيرة “براتيكا” كانت مرفقة بـ2 لنشات، ومدججة بـ6 قطع حربية مجهولة الهوية، لكنها غادرت مجبرة هي وما تمتلكه من قطع حربية لحمايتها.
ومن وجهة نظر المراقبين، تعكس هذه المحاولة العسكرية، إصرار دول العدوان على اليمن التي تتمثل في رباعية (السعودية، الإمارات، بريطانيا، أمريكا)- ومن دار في فلكها من الدول المستفيدة من الحرب في اليمن- على التصدير بالقوة العسكرية وبما يعبر- في حساباتها لمآلات حرب السنوات الثمان- عن سيطرتها المطلقة على النفط اليمني..
ويرى المراقبون إن إفشال صنعاء للمحاولات الأربع وبصرامة ودقة تؤكد للعالم أن معادلة الحرب الاقتصادية تغيرت لصالح صنعاء، التي باتت قادرة فعلاً على حماية ثروات البلاد السيادية، من أي يد تحاول السيطرة عليها حتى بالقوة العسكرية أو الاستعمارية بالأدوات الإقليمية والمحلية.. مؤكدين أن الأشهر الأخيرة وبالأخص فترة ما بعد انقضاء الهدنة وصدور قرار حكومة الإنقاذ منع تصدير النفط خارج مصالح الشعب اليمني؛ شهدت تحركات أمريكية وفرنسية وبريطانية في المياه الدولية المتاخمة لسواحل اليمن ما يعيد إلى الذاكرة الوجود الاستعماري بكل صوره التي لم ينقصها سوى عجزه في تمرير صفقات نهب الثروات، وتحت ذرائع وشعارات متعددة لحماية الملاحة الدولية، ولم يكن لتلك التحركات من هدف سوى استعمار اليمن من جديد.
ما أشبه الليلة بالبارحة
حسب وثائق التاريخ لم يمض على تاريخ حادثة جنوح السفينة (داريا دولت) قُبَالة الشواطئ اليمنية الواقعة ضمن سلطة سلطان لحج العبدلي والحاكمة الفعلية على مدينة عدن- وسيطرة القوات البريطانية على موانئ عدن أكثر من عامين، حيث جنحت السفينة 1837م وأعلنت بريطانيا سيطرتها على عدن وضواحيها في 19 يناير 1839م بعد تهمة سكان عدن وما حولها بنهب السفينة، وكان الهدف المعلن معاقبة المدانين بنهب السفينة وحماية السفن التجارية من اعتداءات مماثلة، بينما الهدف المضمر هو السيطرة المطلقة على طرق التجارة، ثم تحويل المنطقة إلى قاعدة بحرية ومستودعات للسفن البريطانية ترجمة لما أوصى به تقرير ضابط البحرية الكابتن هينز -الذي بعثت به السلطات البريطانية إلى منطقة خليج عدن في عام 1835م ودراسة خصائص موقعها الجغرافي- بضرورة احتلال عدن.
إن تحويل مدينة عدن إلى مركز تجاري وبشري عامر بالحياة المناسبة لتلك الحياة التجارية، جعلت الإنجليز أمام خيار إقامة دولة استعمارية ذات نظام متكامل يذيب التحديات ويحولها لصالحها عبر فرض الأمن وإقامة التعليم واحترام الحقوق لسكان المستعمرة، لإدراكها أن استمرار سيطرتها الحديدية أمراً مستحيلاً لضراوة المقاومة التي واجهتها، فكان لا بد من تطبيق المثل السياسي الخبيث للقوة الاستعمارية الكبرى في العالم حينها “فرِّقْ، تسُدْ”، ولكن تحقيق هذا المبدأ يجب يأتي تحت شعارات تنطوي على إبعاد قيمة كمبدأ الحماية لكل من يحالفها ويلتزم بقوانين مستعمراتها ومصالحها.
ولأن بريطانيا قرأتْ بخبث واقع شتات الجغرافيا بين سلطنات ومشيخات وقبائل، بعين فاحصة، عمدت الى تكريس مبدأ التحالفات مع تلك السلطنات رافعة اسمها في المنابر الخطابية السياسية والمنشورات كقوى حليفة لها من أجل استدامة سيطرتها على ميناء عدن، وعلى مدى أربعة عقود من سيطرتها على عدن نجحت سلطات الاحتلال في توقيع اتفاقيات مع الكيانات الجهوية الطامحة في الحكم، لتضمن اعترافاً متبادلاً بشرعية وجودها مظلة لجمع المتصارعين، مقابل حماية مشتركة، و(مرتبات) دائمة لزعماء السلطنات التي فرختها، وفق ما سمي بـ”النواحي التسع” المتمثلة في إمارات ومشيخات وسلطنات: (لحج “العبدلي” – العلوي – الضالع “الأميري” – العقربي- العوالق السفلى-الفضلي- الحواشب- الصبيحي- يافع السفلى).
الأغرب في هذه النواحي التي نشأت تحت ما يسمى “سياسة الحماية” على أساس أن هذه النواحي تسمى بالمحميات البريطانية يعنى الوجود بحمايتها من هجمات العثمانيين، بعد أن رغبت في الاستقلال عن الدولة العثمانية، بينما كانت هذه النواحي التسع في واقع الأمر: سياجات جغرافية وبشرية تحمي مصالح بريطانيا في عمق تمركزها في عدن وموانئها ومطارها، ومركزها الذي بات تجارياً استراتيجياً لمصالح بريطانيا.
الدليل على ذلك أن سلطات الاحتلال عبر الترغيب بالمال والترهيب بالحرب اشترت من زعماء تلك النواحي مساحات شاسعة من الأراضي لتصنع لها جيوباً عسكرية تؤمِّن تمركزها الأهم في الميناء، حتى استحوذت على منطقة خور مكسر في 1849م، وعدن الصغرى في 1869م والشيخ عثمان في 1882م، والحسوة في 1888م، وما خارج هذه المناطق أشعلت الحروب والنزاعات بين سلطنات ومشيخات جنوب اليمن التي تزيد عن (17) سلطنة ومشيخة، على حدود تافهة وبعيدة كل البعد عن مركز الحركة الملاحية والتجارية “ميناء عدن” الذي أصبح الثاني في العالم في منتصف خمسينيات القرن الماضي، بعد أن اتخم الإنجليز خزائن الإمبراطورية البريطانية بالأموال والعائدات.
استغلال المد القومي
ولان فترة الخمسينيات كانت محمومة بطفرة القومية العربية كنتاج طبيعي للحضور القومي للزعيم عبدالناصر أرادت بريطانيا أن تناغي مدها في جنوب اليمن، ليس حباً في الوحدة العربية حلمها الأزلي وإنما استهدافا للنسيج اليمني المترابط بمسمى سيطمس في ذاكرة الأجيال القادمة الهوية اليمنية، عبر احتمال حدوث تشجيع عربي واسع بهذه البروفة الأولية على طريق الوحدة العربية.
هذا التوجه الاستعماري لم يكن جديدا ففضل عن استمالة الزعامات والقيادات العربية الى صفها بإيهامهم بتحقيق الوحدة العربية الكبرى من أيام الشريف الحسين، “بدأت منذ بداية عام 1934 إلى سلخ هوية الأجزاء الجنوبية والشرقية من اليمن، عن هويتها التاريخية والجغرافية، عبر تغليب الثقافات والهويات المحلية وتغذية النزعات الانفصالية وتعميق هوة الخلافات والصراعات البينية، لضمان طمس الثقافة والهوية الوطنية اليمنية وتكبيل ووأد أي هبة شعبية تحررية”.
ومع إطلالة العام 1952 بدأ الإنجليز بترجمة سياستهم الجديدة عبر الترويج لإقامة كيانين اتحاديين فيدراليين حسب التقسيم الإداري في الإمارات ومستعمرة عدن وتوحيدها في دولة جديدة تسمى “دولة الجنوب العربي الاتحادية”، على أن تبقى مستعمرة عدن خارج الاتحاد، وفي 1954 قدموا وجهة نظرهم بشأن الاتحاد الفيدرالي وإدارته، على أن تتكون من المندوب السامي، وتكون له رئاسة الاتحاد والعلاقات الخارجية والقرار الأول في حالة الطوارئ، ومجلس رؤساء يضم رؤساء البلاد الداخلية في الاتحاد، ومجلس تنفيذي وآخر تشريعي، وفي 19 فبراير 1959 أُعلن رسمياً عن قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي.
وفيما كان الإنجليز يراهنون على اعتراف الحركات القومية في كثير من الدول العربية بتأييد واعتراف سياسي بهذا الاتحاد، حدث العكس.. وفي هذا السياق يقول الباحث والكاتب اليساري قادري أحمد حيدر، في قراءته وثيقة لحركة القوميين العرب المركزية الصادرة في عام 1959م بعنوان “اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية”: سعت الإدارة الاستعمارية البريطانية لإقامة اتحاد فيدرالي في جنوب البلاد، في تصور منها أنها تحسن وجهها القبيح، وتزين شكل وجودها.. وطيلة الحقبة الاستعمارية قسمت بريطانيا جنوب اليمن إلى ثلاث مناطق، أو إدارات، كل منها دويلة، في داخلها دويلات صغيرة مستقلة خاضعة ومقيدة فعلياً وسياسياً بجملة معاهدات واتفاقيات مع الإدارة الاستعمارية البريطانية. وهذه المناطق الثلاث هي: عدن وحكومتها، والمحميات الغربية، والمحمية الشرقية. وفي عام 1954م سعت لإقامة دولتين اتحاديتين، في كل من: المحميات الغربية، والمحميات الشرقية، ثم إقامة ما سمته آخر الأمر “دولة اتحاد الجنوب العربي” وأرادت إدخاله في الجامعة العربية.
وفيما يرى حيدر أن الهدف الأهم من هذه الخطوات هو ضرب وحدة الجغرافيا اليمنية وكانت تلك خطوات سياسية لإعطاء هوية مفتعلة لمناطق جنوب اليمن في صورة هويات سياسية مناطقية قبلية، عشائرية، لكل واحدة منها دويلة مستقلة عن الأخرى، تجتمع في مسمى “محمية غربية” و”محمية شرقية”.. تؤكد المجريات المقرونة بالطفرة القومية الساعية للوحدة العربية في تلك الفترة، إن الانجليز استغلوا المد القومي، لإلغاء الهوية اليمنية بخطوة أولى على طريق الوحدة العربية التي كان لحلمها حضور كبير ومد في حركة القوميين العرب في الجنوب اليمني، واغراء الحركة باعتماد دول الجنوب العربي كدولة معترف بها في مظلة الجامعة العربية، وسعت المستعمر لطرح المشروع السياسي الفيدرالي الجديد، في 11 فبراير 1959م، لكنه قوبل بالفشل وكان لمعارضة جميع أطراف الحركة السياسية الوطنية، بما فيها الإمامة في صنعاء، دور كبير في ذلك الفشل، لكن الدور السياسي والإعلامي الذي لعبته جمهورية مصر العربية كان أكثر وقعا وكشفا لخبث المشاريع البريطانية حينها، وهو ما جعل الجامعة العربية ترفض جميع مشاريع بريطانيا السياسية في جنوب اليمن منذُ مشروع 1954م حتى مشروع 1959م.
وأضاف حيدر: وجاءت “وثيقة حركة القوميين العرب” في هذا الاتجاه، ولكن ضمن رؤية سياسية جديدة جعلت من قراءتها ومناقشتها للمشروع الاستعماري مدخلاً لتأكيد خيارها السياسي من أن لا حل سوى بالكفاح المسلح. ومع قراءة الوثيقة النقدية التحليلية لحركة القوميين العرب، نجد أنفسنا أمام كتابة راقية في الفلسفة السياسية، وأمام رؤية تعيدنا إلى صراع تاريخي قومي، وخطاب حدي يكن عداءً صارخاً لكل ما يتصور أنه خارج نطاق القومية العربية أو فيه شبهة عداء لها، خطاب مشحون بميثولوجية ثورية قومية عصبوية، عدوها الأساس الاستعمار وحلفاؤه والشيوعية، ولكن في هيئة ومضمون خطاب ثوري مقاوم من أجل انتزاع استقلال البلاد العربية ورفض التجزئة والتقسيم.. خطاب، وكتابة محكومة بمنطق صعود حركة التحرير العربية القومية، والدور السياسي القيادي لمصر عبد الناصر، والذي تعتبر حركة القوميين العرب وقياداتها حتى ذلك الوقت (أواخر الخمسينيات) واقعة تحت طغيان الأيديولوجية القومية الناصرية، ولم تبرز بعد ذلك في إطارها أي تباين جدي حول ما سُمي بعد ذلك: اليمين واليسار والذي تشكَّل مباشرة من بعد النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي.
تداعيات ومسار زمني
أخذت ردة الفعل الوطني اليمني بعدا ميدانيا من التداعي الميداني على الأرض خصوصا بعد رفض الجامعة العربية وجمهورية مصر العربية، للمشروع خلافا لما كان يتوقعه المستعمر، لتؤجج الأحداث عبر مسار زمني، من المقاومة التي تطورت الى المظاهرات والاحتجاجات، ففي 24 سبتمبر 1962 شهدت كريتر، مسيرة كبرى سميت بمسيرة الزحف المقدس ضد الاستعمار، وضد دمج عدن في الاتحاد الفيدرالي، وسقوط ضحايا، وفتاة عدنية تنزل علم الاتحاد.. وفي 23 فبراير 1963 شكلت القوى الوطنية جبهة التحرير “الأولى”، جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، في مؤتمر لمناضلي الجنوب بكل فئاتهم في صنعاء، وصدور ميثاقها ونشرة خاصة بها. وفي 19 أغسطس 1963 أعلن عن تشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، التي فضلت الخيار المسلح على خيارات الجبهة السابقة.
وفي 14 أكتوبر 1963 انطلاق الشرارة الأولى للثورة ضد الاستعمار البريطاني، من جبال ردفان، بقيادة عضو جبهة التحرير راجح غالب لبوزة، الذي استشهد يومها. لتبدأ سلطات الاحتلال الإنجليزي بشن حملات عسكرية شرسة على مختلف مناطق ردفان والضالع وغيرها، وفي 10 ديسمبر 1963 أصيب المندوب السامي البريطاني “كنيدي ترافيسكس”، ومقتل نائبه “جورج هندرسن” وجرح 53 من كبار موظفي الإنجليز، في حادثة المطار الشهيرة حيث ألقى عضو الحركة العمالية بعدن “خليفة عبدالله حسن خليفة” قنبلة يدوية في عمل فدائي إيذانا ببدء الكفاح المسلح الذي استمرت أحداثه القاسية التي أجبرت المستعمر على الرحيل الموعد الذي أعلنته الخارجية البريطانية في 22 فبراير 1966 في ما يسمى بالكتاب الأبيض، الذي أعلن رسميا عن قرار بريطانيا القاضي بمنح عدن والمحميات الجنوبية والشرقية الاستقلال مطلع 1968..
وفي 30 نوفمبر 1967 أعلن الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وأصبحت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل إبان حرب التحرير تتولى مسؤولية الحكم، وصدور قرار القيادة العامة للجبهة القومية بتعيين قحطان محمد الشعبي أمين عام الجبهة، رئيساً لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لمدة سنتين، وإعلان تقسيم سياسي وإداري جديد للمحافظات الشمالية والشرقية، يضم 6 محافظات و30 مديرية، وكان الاستعمار البريطاني قد عمل على تقسيم الجنوب إلى 21 إمارة وسلطنة ومشيخة، بالإضافة إلى مستعمرة محمية عدن، لكل منها كيانها السياسي والإداري وحدودها وعلمها وجواز سفرها وجهازها الأمني، والمرتبطة في الأخير بالمندوب السامي البريطاني في عدن.
مرجعية الأدوات
تسليم بريطانيا بزوالها ورحيلها عن أهم مستعمراتها في الهند والشرق والأوسط ومن المنطقة الأكثر أهمية استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، فعمدت الى سن قوانين تصورها للعالم زيفا بأنها الأكثر وفاء لحلفائها إذ التزمت لهم بالنفقات حتى بعد رحيلها، باعتبارهم أدوات مستقبلية لأدواتها الرسمية من الأنظمة الخليجية التي استطاعت بريطانيا بسياستها العميقة تشكيلها وإرساء مداميك حكمها العميل كالسعودية والإمارات والبحرين وغيرها، ولتشكل مرجعيات لأطماعها الاستعمارية والمستقبلية وهو ما تحاول العودة هذه المرة بشعارات أجد وأحدث.
ويرى مراقبون أن ما يجري اليوم في محافظات اليمن الشرقية والجنوبية مختلف تماماً مع وجود الأدوات البريطانية الحديثة (السعودية والإمارات) حيث تفتيت المجتمع اليمني في مناطق سيطرة التحالف بصور تفصيلية أكثر، فبدل المحميات وتعددها، أوجد التحالف أحزمة أمنية، لكل منطقة ولكل كيان وجهة وقبيلة، والكل يستلم المال والسلاح من التحالف السعودي الإماراتي، وفي عمق عدن توجد الفُرْقةُ الأهم والقائمة في قوتي: حكومة المرتزقة، الانتقالي المدعوم من الإمارات، وكلاهما يتصارعان لتأمين أدوات الاستعمار القديم وسيطرتها على الموارد والثروات النفطية والغازية، عبر تلك الأحزمة الأمنية والتشكيلات المفتوحة على التعدد المصالحي الضيق الأفق.
وفيما ذهبت بريطانيا إلى الاتفاقيات الجزئية مع السلطنات كمحميات، وعقد مصالحات بين تلك المحميات ترعاها القوة العظمى لتضمن بقاء زعمائها في الحكم، وبقاءها كحاكم فوق الأطراف، سعى التحالف لاتفاق الرياض بين حكومة هادي وسلطات الانتقالي، فيشعر كل طرف بأنه محمي من الآخر باتفاق الرياض، وبهذا الشعور شرعن التحالف وجوده كحاكم على الطرفين، ومسيطر خارج صراعاتهما في المدن على منابع قطاعات النفط والغاز في حضرموت ومارب وشبوة والمهرة وسقطرى.
الأكثر قرباً من خباثة السياسة الاستعمارية أن هذا التعدد المتباين حد النزاع والتقاتل، جاء تحت شعار حماية اليمن ووحدته واستقراره والاعتراف بهادي وحكومته سلطة شرعية على البلاد، المحصورة في فنادق الرياض، فيما لم تخرج شرعيتها المزعومة عن التوقيع على قرارات التدمير لكل مقومات اليمن البنيوية والاقتصادية والتجارية الدولية من موانئ ومضايق ومطارات، واستلاب ثرواتها النفطية والغازية.
هذا التعدد المفارق لما قام به المستعمر القديم، لم يأتِ بهذا التشعب لأن وسائل الحرب والدمار صارت اليوم أقوى وأكثر فتكاً ودماراً، والمال الخليجي أكثر سيولة وعطاء، بل لأن المصالح خرجت من الميناء متسعة إلى منابع النفط في حضرموت، وشبوة، ومارب، وإلى واحات السياحة والثروات الطبيعية والبيئية النادرة في محافظة المهرة، مينائها الأهم (نشطون) بإطلالته على البحر العربي، وفي محافظة الأرخبيل (سقطرى) المتاخمة للمحيط الهندي.
هذا الاتساع فرض على أدوات المستعمر البريطاني وبإيحاء من دوائره السياسية الماكرة والصانعة لدويلات الخليج، توسيع مهمة نهب الثروات، وهذا يتطلب ضرورة السيطرة عسكرياً على الجزر والموانئ والمطارات وكافة المقومات الاقتصادية، في مسار واضح يعيد إنتاج التاريخ الاستعماري القديم بأدوات حديثة، ولم يعد ذلك خافياً على أحد، بعد وصول القوات البريطانية إلى مطار الغيضة أواخر يوليو الماضي، الذي تسيطر عليه القوات السعودية.
إن ما تقوم به أدوات الاستعمار البريطاني في هذه الأيام المتزامنة مع مرور الذكرى الثامنة والخمسين لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م، التي اقتلعت الاحتلال البريطاني، لمسار واضح على محاولة عودة الاستعمار القديم، فيما الرياض وأبو ظبي وغيرهما من عواصم دول تحالف الحرب والحصار ليست سوى قفازات لبريطانيا، مهمتها الجوهرية منافية جداً لشعار وحدة واستقرار اليمن وحماية أراضيه، بل تمضي في سياق ترجمة خطة حديثة رسمها الجاسوس الدبلوماسي البريطاني نويل بريهوني الواردة في كتابه “اليمن المقسم” الصادر في لندن عام 2011م، رغم أن الكاتب في ظاهره وكثير من طروحاته كان مع الوحدة اليمنية، دلالة تفصح بياناً عن الصلة الموصولة بالمفارقات الواردة آنفاً.
الأهم في هذا سياق الحديث عن ذكرى الاستقلال اليمني الـ 55 من الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، هو الإدراك أن المحتل البريطاني عمد علنا إلى تقسيم ديموغرافيا جنوب اليمن إلى إمارات وسلطنات ومشيخات وكيانات تصارع لتحمي مصالحه الاقتصادية والتجارية، بينما عمدت أدواته القذرة (السعودية والإمارات) إلى تفتيت النسيج اليمني إلى فصائل متناحرة، حسب المراقبين الذين أكدوا أن ما يجري في المناطق المحتلة من أزمات كفيلة بأن تجعل من 30 نوفمبر مناسبة لتحقيق استقلال جديد.