مشاهد من غزة

أحمد الصباهي

 

 

من مكان، أصبحت تغص فيه المقابر بجثامين الشهداء، حتى نفذت المقابر من القبور، ولأول مرة، تعلن وزارة أوقاف في العالم نفاد القبور، نعم… نفذت القبور في القطاع، فلا عتب أين تدفن الجثامين، وتحولت الأرض بما رحبت إلى صحراء وفيافي. يعيش الغزيون في 15 % من مساحتها، والـ85 % المتبقية هي إما مناطق عسكرية أغلقها الاحتلال، أو مناطق شبه خالية بسبب التهجير القسري.
من مكان نشاهد فيه الأفق البعيد بعد أن أزيلت حيطان المباني التي كانت تحجب أشعة الشمس، فقد أحالها الاحتلال إلى ردم، واستوت على الأرض.
وبحسب إحصائيات فلسطينية محلية فإن الاحتلال هدم 92 % من بيوت الغزيين، و80 % من المدارس والجامعات، و90 % من المستشفيات . هذه المباني البائسة واليائسة في مظهرها، تحتضن في جوفها جثامين أطفال ونساء ورجال، لم تسعفهم اسثغاثتهم . سمع أنينهم القريب لكن ما بيده حيلة، والبعيد غير مكترث . ضيق المكان أغلق عليهم أنفاسهم، وثقلت على صدورهم حجارة المباني الضخمة، فارتقت أرواحهم .
هل يعقل أن المباني المهدمة، احتضنتهم لكي لا تصبح تلك الجثامين فريسة للكلاب…نعم الاحتلال ترك جثامين الشهداء في الطرقات نهشاً للكلاب. في بقعة جغرافية صغيرة، تمتد على بساطها خيم، تؤوي أطفال، ونساء، فلا وجود للرجال، هم غائبون .ربما للقتال، وربما للبحث عن لقمة طعام مغمسة بالدماء؟ تجلس الأمهات إلى جانب خيمهم. تجلس إحدى الأمهات إلى جانبهوعاء “طست” فيه ماء معكَّر وثياب مهترئة…يسأل أحدهم ماذا تفعلين يا أمَّاه، تجيب كل يوم نغسل ثيابنا، لا طعام نطبخه، ولا صحة، ولا تعليم…أولادي يطلبون الطعام، لا طعام لدينا، لدي خمسة أطفال، وكل يوم ننزح إلى مكان جديد .
امرأة أخرى حامل، تضع القدر على النار وقودها قطع من البلاستيك، فالخشب نادر، لا لتطبخ، بل لتسخن الماء ليستحم أولادها، تقول لا “عيش” خبز لدينا، زوجي غائب منذ أسبوع، نعاني من نقص المياه بشكل كبير، وكل يوم نذهب لتعبأة المياه. من مكان غير بعيد، امرأة أخرى تعرض قطن الفرشة على الشمس، فلديها أطفال صغار، يتبولون على الفراش، هل هو من الخوف، أم عادة طبيعية ؟ تقوم الأم بفرط الفرشات، وتستخدم أشعة الشمس كمنظف طبيعي في ظل فقدان المياه، الأب غائب يبحث عن الطعام، والأم مع الأطفال لا تدري ماذا تفعل أو كيف تتصرف ؟ أم أخرى تقف أمام خيمتها، وبجانبها أطفالها، تقول “نفسي حد يشفق علينا”، أبسط حقوقنا ضاعت، وتضيف “مش قاعدة أغسل” يأسانة زعلانة، تعبانة، لا شرب ولا أكل ولا لباس، فقط ذل .
سيدة أخرى تقول نعيش 17 فردا في خيمة واحدة، الخصوصية مفقودة، والماء مفقود، والأدوية كذلك، لا إحساس بالأمان، وننتقل دائماً من مكان لآخر . ماذا عن الطعام، وماذا عن الأسواق ؟ من لديه المال لكي يشتري؟ السكر المادة الغذائية الرخيصة، يرتفع سعرها إلى 8000 % والطحين 1000 %، ومن يريد الحصول على الحد الأدنى من الغذاء، فعليه أن يضع “روحه على كفه” كما في المثل الشائع، فالحصول على “كرتونة” مساعدة تعادل القتل والموت .
أما أجيال غزة، المحرومة من الطعام، فلا صحة، ولا أماكن للعب، والعام الدراسي يؤجل للسنة الثانية . أين يحصول على التعليم ؟ فلا مدارس، ولا جامعات…لقد تحولت الخيمة إلى مأوى ومدرسة وجامعة، ليعيد الشعب الفلسطيني سيرته الأولى، فعلاقته بالخيمة منذ النكبة ؟ كل هذا من المفترض به أن يؤدي إلى تحطيم القلوب، وكسر النفوس، لتنعدم الرؤية إلا من خلال نفق واحد يؤدي إلى الاستسلام، لكن ويا للعجب هذا لم يحصل ! ممن أنتم مصنعون أيها الرجال ؟ بطون خاوية، أجساد منهكة، تحفرون الأرض لزرع عبوة صنعتها أيديكم، تواجهون الجندي المختبأ خلف الدبابة، تظهرون من لا مكان، تزرعون قنبلة من مسافة صفر، فوق أو تحت الدبابة لم يعد يهم، لا خوف، لم يعد للجندي الإسرائيلي وجود بحضرتكم، فالدبابة بيدكم تتحول إلى حطام، والجندي الغازي إلى أشلاء، أنتم العزَّل، وهو المدجج بالأسلحة، أنتم المحجوبون خلف الجدران، وهو المختبأ خلف الدبابات، أنتم المحجوبون بأشعة الشمس وهو المختبأ بطائراته …. يتساءل الجندي الغازي ؟ إلى متى وأنتم لا تستلمون ؟ زرعتم الخوف في قلوبنا، دمرنا بيوتكم، ومدارسكم، وجامعاتكم، ومساجدكم، ومكتباتكم، وقتلنا أطفالكم ونساءكم، ماذا بعد؟ ليجيبه جند الأرض، جبنتم عن مواجهتنا، وتجرأتم على نسائنا وأطفالنا، سنعيد بناء ما تهدم، ستخرجون من أرضنا، فلا أنتم منها ولا هي منكم…نحن ملح الأرض فلا نغادرها.
* كاتب فلسطيني

قد يعجبك ايضا