“الثورة ” تبحث في الجذور “سايكس بيكو”.. المؤامرة التي قسّمت الأمة ومنعت نهضتها الحضارية

 

بداية القرن الماضي التقى الفرنسي “بيكو” والبريطاني “سايكس” في باريس واتفقا على تقسيم تركة الاستعمار العثماني.. عرف في ما بعد باتفاق “سايكس بيكو”
الفصل بين الساحل والداخل لتتقاسم القوى الأوروبية النفوذ في ساحل البحر الأبيض بخط رأسي وعزل مصر عن سوريا بإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين وهذا هو الخط الأفقي
لم تكن الخطوط التي رسمها المحتلون خطوطاً مرحلية تنتهي بانتهاء الاحتلال للبلاد العربية وإنما خطوط حمراء للعلاقات بقيت حتى اليوم
إعلان وعد بلفور البريطاني لليهود إلى أن تم إيجاد ما يسمى بالوطن القومي لهم كان هدفاً أساسياً من أهداف “سايكس بيكو”

المؤامرات المُحاكة ضد الأمة من الداخل والخارج لم تكن مستجدة، بقدر ما كانت مرتبطة بكل مرحلة تاريخية تمر بها حتى وهي في أوج قوتها، وإن هذه المؤامرات التي تحاك ضدها اليوم إنما هي امتداد لحقد وحنق يهودي دفين على مختلف العصور، كشفته آيات كثيرة وردت في الكتاب الكريم، في وضوح مطلق كشواهد لا يمحوها تقادم العصور.

تقرير /عبدالجليل الموشكي

قبل “سايكس بيكو” حدث ما يعرف بـ “الاتفاق الوّدي” بين بريطانيا وفرنسا بتوقيع مجموعة من الاتفاقيات في ٨ أبريل ١٩٠٤م، كنتيجة لتسوية النزاعات الاستعمارية بينهما، ولم يكن ذلك الاتفاق إلا بداية تفاهم للانطلاق نحو الأراضي العربية التي تشكل بالنسبة لهم أهمية استراتيجية وجغرافية، ولعل الوضع الرديء الذي كانت تعيشه البلدان العربية جرّاء الاحتلال العثماني، مثّل مطمعا للبريطانيين والفرنسيين في آن.
معتقد ديني
في الربع الأول من القرن العشرين برزت مؤامرة “سايكس بيكو”، التي نحن في صدد الحديث عنها والبحث عن جذورها وخلفياتها وتفاصيلها، وعلاقتها بواقع الشتات والتشظي الذي تعيشه الأمة الإسلامية، نتيجة ما وصلت إليه من تشرذم بموجب الاتفاقية وما بعدها، وما يصنعه وكلاء الاستعمار من الأنظمة العميلة.
الانطلاق بناءً على المطامع الاستعمارية، ليس كل ما يحرّك قوى الاستكبار العالمي، فهي تنطلق من معتقد ديني، وهنا أكّد السيد القائد عبد الملك بدرالدين الحوثي، في خطابه بذكرى الشهيد القائد 1443، أن استهداف قوى الاستكبار لأمتنا ينطلق من معتقد ديني لديهم.
السيد أضاف “أن المحرك الأساسي للاستهداف لأمتنا هو اللوبي الصهيوني اليهودي في العالم، والكيان الإسرائيلي الذي اغتصب فلسطين، واغتصب أجزاء أخرى من بلدان أمتنا وبلداننا العربية، هو ذراع من أذرعة اللوبي اليهودي الصهيوني”.
دخلت بريطانيا وفرنسا الحرب العالمية الأولى، بناءً على تفاهمات مسبقة بتقسيم تركة الاحتلال العثماني الذي شارك في القتال مع الألمان ضدهم، إلا أن احتلال الأراضي العربية لا مبرر له مهما كان، وكل من المستعمر السابق والمستعمرين الجدد يسعون لتقاسم أرض ليست لهم، وفي سبيل ذلك يحوكون المؤامرات تلو المؤامرات.
عزل الساحل
عزل “الساحل” عن “الداخل” لم يكن جديداً على الفكر الجيوسياسي البريطاني، فهم سبق وأن طبقوه في الخليج من البصرة أعلاه مضيق هرمز، ثم بعد ذلك بالاتجاه نحو الغرب إلى عدن أدناه، ما يعني شكلت بريطانيا طوقاً ساحلياً محيطاً بشبه الجزيرة العربية كاملة.
الفصل بين الساحل والداخل لتتقاسم القوى الأوروبية النفوذ في ساحل البحر الأبيض بخط رأسي، وعزل مصر عن سوريا بزرع غدة سرطانية كانت بريطانيا بدأت في ذلك بإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين، وهذا هو الخط الأفقي.
الأطماع الفرنسية كانت جلية بما يتعلق بشمال سوريا وجبل لبنان وبيروت وما حولهما من المناطق وصولاً إلى الموصل شمال العراق، في الحين الذي كانت بريطانيا تطمع بضم منطقة ما بين النهرين أي العراق والخليج، مع عدم تخليها عن فلسطين التي تعد أساساً لمخططها الإجرامي بعزل مصر عن سوريا.
حالة الشك كانت متبادلة بين بريطانيا وفرنسا، فالأولى قادمة من القرن التاسع عشر الذي جعلها تكون الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس كما قيل عنها، أي أنها عاشت حالة من الازدهار والاستقرار السياسي، والثانية أضعف منها فهي قادمة من ذات القرن الذي تكبدت فيه هزيمة أمام الألمان في ما وصف بحرب السبعين ١٨٧٠ م، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار التي عاشتها، وإن اتفقتا فهو اتفاق اللصوص.
صراع اللصوص
نتيجة خلافات حصلت ربما بسبب تسرب المخططات الأولية لعزل الساحل عن الداخل، بدأت حالة من الخلاف الفرنسي البريطاني تتصاعد، ما جعل رئيس الوزارة الفرنسية “جورج كليمنصو” يطلب من نظيره البريطاني البدء في تفاهمات للاتفاق على مستقبل المنطقة بشكل واضح وصريح.
لم تتردد بريطانيا في قبول الطلب الفرنسي، ووافقت عليه، على أن يتم تشكيل لجنة مشتركة تعقد اجتماعاتها في باريس لتقسيم التركة العثمانية، ومن هنا بدأت تتجلى خيوط المؤامرة التي جرى تنفيذها في اتفاقية من أخطر الاتفاقيات التي غيّرت وجه المنطقة في القرن العشرين.
فرنسا بدورها اختارت ممثلها في هذه المفاوضات وهو قنصلها في القاهرة حينها “فرانسوا جورج بيكو”، وبريطانيا اختارت “مارك سايكس” ليكون ممثلاً لها في المفاوضات، وهذان هما من جرى تسمية الاتفاقية باسميهما لاحقاً.
اليهودي “بنجامين دزرائيلي” رئيس الوزراء البريطاني لدورتين، كان من أبرز الصهاينة الذين تأثر بهم “مارك سايكس”، كان قبل الحرب قد أصبح عضوا في مجلس العموم البريطاني، وعُرف عنه التعاطف مع الصهيونية، وظهر لأول مرة في الشرق الأوسط، في تلك المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا على تقاسم تركة الاحتلال العثماني.
“سايكس بيكو”
التقى الفرنسي “فرانسوا جورج بيكو” بالبريطاني “مارك سايكس” في باريس، وتوصلّا إلى اتفاق بشأن تقسيم تركة الاستعمار العثماني، عرف في ما بعد باتفاق “سايكس بيكو” نسبة إليهما.
المفاوضات الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين “فرانسوا جورج بيكو” و “مارك سايكس” جرت بين 23 نوفمبر 1915 و3 يناير 1916م، وهو ذات التاريخ الذي وقع فيه الدبلوماسيَان الفرنسي والبريطاني على وثائق مذكرات تفاهم بين وزارات خارجية كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك وإيطاليا، وجرت المصادقة عليها من الحكومات في مايو 1916م، على أنها سرية إلا أنّ وثائقها لم يكتب لها أن تظل في طي الكتمان.
ما كان يطلق عليه بتركة الاحتلال العثماني جرى تقسيمه بين المحتلين البريطاني والفرنسي في اتفاقية “سايكس بيكو”، التي نصت على أن تأخذ بريطانيا ما يعرف اليوم بفلسطين والأردن وجنوب العراق، إضافة لمنطقة صغيرة تضم موانئ عكا وحيفا لكي يتسنى لها الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وبالمقابل تحظى فرنسا بجنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان.
من لا يملك!
إنشاء عدة دول عربية، كان من أهم ما تم الاتفاق عليه أثناء المفاوضات، علاوة على المناطق التي سيتم فيها إنشاء هذه الدول، وتحت وصاية من ستكون، وهذا كان في سياق سياسة التقسيم والشرذمة التي يتبناها المحتلون ليسهل عليهم الانقضاض على الأراضي التي يريدونها، حيث يمنون العرب بتشكيل دول لهم بدلاً من أن يكونوا دولة واحدة قوية.
وانتهى الأمر بالاتفاق على رسم خارطة للمناطق في الشرق الأوسط للأراضي التي ستخضع للنفوذ المطلق لبريطانيا وفرنسا، حيث تأخذ فرنسا جنوب الأناضول والسواحل السورية وصولاً إلى بيروت، بالإضافة إلى الموصل ودمشق.
إلى ذلك تأخذ بريطانيا البصرة وبغداد وبلاد الرافدين وجنوب الشام، وجرى الاتفاق على أن تكون فلسطين منطقة تحت الوصاية الدولية، إلا أنها لم تألُ جهداً في السيطرة عليها إبّان الحرب العالمية الأولى، ليحدث بعد ذلك ما حدث.
لم تكن تلك الخطوط التي رسمها المحتلان البريطاني والفرنسي، خطوطاً مرحلية تنتهي بانتهاء الاحتلال للبلاد العربية، بل كانت الخطوط التي رسمت الخريطة المقسّمة التي يريدها المحتل، وبقيت كخطوط حمراء لا تجاوز لها إلا للإفراط في التقسيم حتى اليوم.
لمن لا يملك!
أمعن المحتل البريطاني في تنفيذ الأجندة الصهيونية بدءاً من تبني خرافة الوطن القومي لليهود، والتنسيق لتمويل وإنشاء المستعمرات اليهودية، وصولا إلى تنفيذ مخطط التقسيم للأراضي العربية ووضع فلسطين تحت الوصاية الدولية، ثم الاستحواذ عليها.
رغم أن اتفاقية “سايكس بيكو” جاءت بموافقة الإمبراطورية الروسية حينها، إلا أنه بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا أذاعت الحكومة المؤقتة عندها بنود الاتفاقية، الأمر الذي سبّب حالة من الصدمة في العالم العربي، الجدير بالذكر أن انكشاف الاتفاقية السرية جاء قبل وعد بلفور بشهر.
في الثاني من نوفمبر ١٩١٧م أعلن وزير الخارجية البريطاني “آرثر بلفور” وعده المشؤوم للحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لتتجلى المؤامرة الكبرى التي حاكتها لندن على المقدسات الإسلامية بإنشاء كيانات مغتصبة لا حق لها في الأرض ولا مبرر لوجودها.
يشير إعلان وعد بلفور البريطاني لليهود، إلى أن إيجاد ما يسمى بالوطن القومي لهم كان هدفاً أساسياً من أهداف “سايكس بيكو”، حيث أقدموا على الإعلان لمجرد انكشاف الاتفاقية، وتكشف معطيات الأحداث من الاهتمام والدعم البريطاني فيما بعد حقيقة ذلك.
ولأن المؤامرات الاستعمارية سلسلة معقدة لا تنتهي، فقد تمخضت “سايكس بيكو” باتفاق “سان ريمو” الذي جرى عقده في أبريل ٢٠٢٠م، وتم الاتفاق فيه على تشكيل ثلاثة كيانات، وهي بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين، تحظى بريطانيا بالرافدين والقدس وفرنسا بسوريا.
“فرّق تسد”
منذ احتلالها للبلدان العربية حتى الآن والعرب يدفعون ضريبة التفرقة والشتات والانشغال بالذات، وهو هدف استراتيجي حرصت بريطانيا على تحقيقه، وتحقق لها فعلاً، واستمرت في تنفيذ المؤامرات للسيطرة على العرب ومقدراتهم، وما زالت حتى الآن تمارس سياساتها الاستعمارية البغيضة وإن بشكلٍ آخر.
على مستوى اليمن رغم تحرر شمال الوطن من الاحتلال العثماني إبّان الحرب العالمية الأولى ونشأة المملكة المتوكلية، ظل جنوب اليمن رازحاً تحت الاحتلال البريطاني حتى اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963م.
العراق في ظل الاحتلال البريطاني بعد اتفاقية “سايكس بيكو” جرى تقسيمه إلى ثلاث ولايات وهي بغداد والبصرة والموصل، وكذلك بالنسبة لسوريا رغم تظاهر الفرنسيين بتشكيل حكومة عربية ومراوغتهم في رفع يدهم عن سوريا والرحيل منها لعقود.
لم تكن تغادر قوات الاحتلال البريطاني من منطقة ما خضعت لاحتلالها، إلا وكانت قد شكّلت فيها كياناً مصغراً جديداً على أن يكون دولة، وهو في النهاية تابع لها، علاوة على أن يضاف ذلك الكيان إلى مجموعة الكنتونات المتصارعة التي جرى إنشاؤها من قبل البريطانيين أنفسهم، تنفيذاً لمبدئهم السائد “فرّق تسد”.
الفرنسيون أيضاً، تعرضت بيروت والمناطق المجاورة لها وجبل لبنان لاحتلالهم بموجب اتفاقية “سايكس بيكو”، وظلت قواتهم فيها حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتتمخض الرؤى بإنشاء كيان مصغّر يضاف إلى الكيانات الأخرى.
كذلك الحال بالنسبة لشبه الجزيرة العربية التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني، عدا شمال اليمن، حيث شهد القرن العشرين تكوّن دويلات الخليج الطارئة كالسعودية والإمارات والكويت والبحرين، برعاية بريطانية، لدرجة أصبحت فيها هذه الممالك محميات تابعة للندن.
لماذا “بيكو” وغيرها؟
السيد القائد اعتبر انطلاق الغرب من المعتقد الديني للمسلمين، استراتيجية وسياسة يبنون عليها مخططاتهم، مؤكداً إقامتهم في ذلك مؤتمرات، في مراحل ماضية ومتعددة من التاريخ، يحرِّكها اللوبي اليهودي الصهيوني، تنعقد وتخرج باتفاقيات ومقررات معينة، عدائية بكل وضوح ضد الأمة الإسلامية.
وأوضح السيد القائد أن “اتفاقية سايكس بيكو”، واتفاقيات أخرى، ونقاط ومخرجات لمؤتمرات عقدت في المراحل الماضية، بما فيها من مقررات عدائية، تضمَّنت تقسيم العالم الإسلامي، العمل على منع توحده، وإثارة النزاعات بين أبنائه تحت مختلف العناوين الطائفية، والسياسية، والمناطقية، والعرقية.
هذه البنود هي بالفعل بنود تضمَّنتها الاتفاقيات، والمقررات، التي خرجوا بها، واعتمدوها، وتأتي بهدف ضمان بقاء المسلمين في حالة تخلف وبؤس، ومنع نهوضهم الحضاري، ونهضتهم الاقتصادية، لكي يبقى العالم الإسلامي مجرد سوق للمنتجات والبضائع من تلك الشركات التي تتبعهم، وفقاً لما أكّده السيد القائد في خطابه الأخير.
السيد لفت إلى أنهم يستهدفون من خلال تلك الاتفاقيات والمقررات، أن تبقى حالة المسلمين حالة أزمات اقتصادية، وأزمات متنوعة، سياسية، وأمنية، والحيلولة دون نهضة هذه الأمة نهضةً حقيقية على أساس انتمائها الإسلامي، فضلاً عن فرض أنظمة وحكومات عميلة على شعوب الأمة، تنفِّذ خطط الأعداء في كل المجالات، وتتسلط على الشعوب بالقمع، والإذلال، والاضطهاد، والجبروت.
كل ما سبق من الأهداف إضافة إلى نهب ثروات الأمة، والسيطرة على الجغرافيا، وفرض قواعد عسكرية في المناطق والأماكن الاستراتيجية في بلدانها، واستغلال ثروتها البشرية، أهداف للأعداء أشار إليها السيد القائد في خطابه الأخير، وما “سايكس بيكو” إلا واحدة من الكثير من المؤامرات التي تحاك ضد الأمة في كل مرحلة من الزمن.
لو أن اتفاقية “سايكس بيكو” لم يتم تنفيذ من مخرجاتها سوى تسليم فلسطين للكيان الصهيوني الغاصب، لكان هذا هو أكبر كارثة تاريخية تسببت بها اتفاقية في العالم، فما بالُك في أنها كانت أُم اتفاقيات التقسيم والشرذمة للأراضي العربية والإسلامية، والشاهد الأكبر على قبح مؤامرات الأعداء وأذنابهم العملاء.
لم تصل الأمة إلى هذه الوضعية من الانهزام والذل وسلب الإرادة، إلا بفعل تراكم المؤامرات التي تحاك ضدها، ونتيجةً للابتعاد عن النهج الإلهي الذي حفظه الله لنا بقرآنٍ، خط لنا فيه مسار المواجهة مع الأعداء وأخبرنا بمؤامراتهم وحيلهم، وحذرنا من موالاتهم وأمان مكرهم.

قد يعجبك ايضا