صنعاء أسطورة “المباني البرجية”


المباني الحديثة تحاول طمس الهوية المحلية ولا تمت بصلة للبيئة اليمنية

العمارة الصنعانية راعت زوايا الإشعاع الشمسي ودرجة الحرارة والرطوبة والرياح خلال الفصول الأربعة

تميزت العمارة اليمنية عن العمارة العربية بتفردها وثرائها في الشكل والمضمون وكذا التفاصيل الإبداعية..
حيث تنوعت المباني اليمنية القديمة بالتنوع الطبوغرافي لليمن فشيدت مباني معبرة عن البيئة والأرض كلاٍ بحسب موقعها لذلك تنوعت الأفكار والتصاميم لإخراج مبان تعبر عن العمارة التلقائية التي عكست الظروف البيئية في البناء المحلي للشكل المعماري..

البناء المعماري في اليمن والذي يعود عمره إلى 4000عام بحسب ما أشارت إليه الحفريات والاكتشافات يدل على عمق التراكم المعرفي الذي تناقله الأبناء عن الأجداد عبر آلاف السنين والمستوى الذي وصل إليه التقدم التقني للبنائين لإنتاج مبان برجية بتقنيات بسيطة ومن المحيط البيئي..
وقد أثبتت المواد التقليدية كفاءتها في مواجهة المتغيرات البيئية.. ونجح المعماريون في إيجاد حلول تقلل من التأثيرات البيئية وموائمة للتضاريس المختلفة.. وقد راعى المعمار اليمني زوايا الإشعاع الشمسي ودرجة الحرارة والرطوبة والرياح خلال تعاقب الفصول الأربعة..
وتعتبر العمارة اليمنية الصنعانية على وجه الخصوص نتاجاٍ لسلسلة من التجارب المتعاقبة على مر السنين تبنتها الأجيال السابقة وطورتها دون أن يحدث أي انفصال حضاري..
حقائق علمية
يندر وجود بيوت منخفضة إذ يعتبر البيت الصنعاني التقليدي " بيت برجي " ويأخذ البرج في المبنى التقليدي شكل المربع أو شبه المستطيل الذي يحقق أدنى كسب حراري في الصيف وأدنى فقدان حراري في الشتاء.. كما أن كمية الطاقة تتدرج تنازلياٍ كلما زادت الأبنية في الارتفاع.. وتكتسب السطوح العمودية أقل كمية من الطاقة في الصيف وتقل مساحة السطوح الأفقية المعرضة للتأثير الخارجي بتعدد الطوابق .. أما في الشتاء فتنعكس الصورة تماماٍ وتستلم الأبنية المرتفعة اكبر كمية من الطاقة على عكس الأبنية المنخفضة وذلك بحسب ما أثبته خبراء في الهندسة المعمارية ..
كان اليمنيون الأوائل قد أدركوا بتجربتهم وذكائهم الفطري حين أولوا المعمار اليمني عناية كبيرة من خلال الاهتمام باتجاهات البيت فتعد الجهة الجنوبية أفضل الجهات لبناء الغرف الرئيسية في البيت لاستقبال إشعاع الشمس شتاءٍ والحد من تعرضها لأشعة الشمس صيفاٍ ويعرف الاتجاه الجنوبي بالاتجاه (العدني) وعلى العكس من هذا الاتجاه فإن الجانب الشمالي المعروف باسم (القبلي) البارد شتاءٍ وهو يعد أسوأ الاتجاهات للبيت ويخصصه المعمار القديم للمخازن والحمامات وذلك لعدم تعرضها للإشعاع الشمسي واستقبالها للرياح الباردة شتاءٍ وتعرضها لأشعة الشمس صيفاٍ وعلى هذا الأساس أطلق اليمنيون حكمتهم المعمارية التي تقول " البيت العدني بيت كامل والبيت الغربي نصف بيت والبيت الشرقي ربع بيت أما البيت القبلي فليس ببيت).
وهكذا صاغ اليمنيون منذ الأزل قواعد ذهبية ثابتة لفن البناء الرامي لتحقيق التوازن الحراري بين متطلبات درجات الحرارة لتحقيق التبادل الحراري واستقراره خلال ساعات اليوم ..
مواءمة للبيئة
وتبدأ المواد المستخدمة في العمارة اليمنية باستعمال الحجر في الطوابق السفلية التي يصل سمكها إلى (80سم ) وتبنى الأساسات بحجر البازلت الأسود والمعروف باسم (حجر الصورع) حيث تقاوم للرطوبة والملوحة فضلاٍ من أنها تعتبر مادة مناسبة للأساسات لامتيازها بصلابة عالية..
أما الطوابق العليا فتبنى من مادة الطوب المحروق ويتميز بخفة الوزن وسهولة الزخرفة نظراٍ لانتظام أحجامه .. وقد أثبتت التجارب المعمارية أن الطوب المحروق له القدرة العالية على التخزين والمقاومة الحرارية ..
كما تعد الشبابيك وأشكالها وأحجامها في البناء الصنعاني التقليدي بحسب الحاجة إليها وكذا بحسب التوجه الجغرافي والاتجاه الرأسي للمبنى .. وبهذا أدت العوامل المناخية دوراٍ فعالاٍ في تشكيل محددات التصميم وعناصره من البيئة المحيطة والمصادر الطبيعية ..
فشل العمارة العصرية وتقنياتها
من زاوية أخرى وفي محاولة لمسايرة التطور ومواكبة الحياة العصرية وما تحمله من معطيات جديدة أصبحت النظرة إلى العمارة التقليدية من أنها لم تعد صالحة لمواكبة العصر.. حيث ساهم الترويج الإعلامي في الانصرف عن الأنماط التقليدية والتوجه إلى البناء الحديث..  ما أدى إلى هجر الموروث الحضاري والإنساني والاتجاه نحو العمارة المستوردة التي وجدت لها سوقاٍ رائجاٍ فظهرت مبان غريبة تحمل عناصر وخصائص لا تمت بصلة إلى العمارة المحلية.. نتيجة تطبيق نظريات وأفكار مستوردة نشأت في بيئة مختلفة عن البيئة اليمنية..
وبالرغم من أهمية التطور ومواكبة الحياة العصرية إلا أن النتائج قد تكون عكسية إذا تم مسايرتها دون مراعاة النواحي الثقافية والحضارية والبيئية فكان لدخول مواد جديدة كالحديد والأسمنت والخرسان والبلاط والزجاج والألمنيوم وغيرها واستخدام التقنيات الجديدة بأفكار ونظريات مستوردة دافع أو حافز نحو التغيير بالإضافة إلى تدفق العمالة غير الماهرة في سوق البناء التقليدي و الشركات التي لا تهتم بالطابع المحلي للبلد فنهضت مبان متعددة ومتنوعة غريبة عن البيئة ليس لها جذور أو أصول.. حيث تبين تأثيرها ومشاكلها بصورة مركزة ابتداء من التشكيل الخارجي للواجهات وانتهاء بالتصميم والتوزيع الداخلي للمبنى ما أدى لضياع الهوية المحلية وفقدان التوازن خلال فصول السنة ..

قد يعجبك ايضا