ونحن نعيش أجواء الذكرى الأليمة لاستشهاد الإمام العظيم زيد بن علي “عليهما السلام ” لا شك أن هناك الكثير من الحقائق تتكشف في ضوء دراسة خلفية هذه الثورة والتعمق بإمعان في أبعادها الكبيرة، والدور الذي لعبه هذا الإمام العظيم في سبيل إذكاء الثورة ووضع معالمها الحقيقية المنطلقة من روح منهج الإسلام القويم، ومعانيه السامية التي اشتملت على كل جوانب الحياة، وإن كان البعض قد حاول الانتقاص منها ووضع محددات ضيقة جداً لمعنى الإسلام بحيث حاول أن يجرده من كل نص يتعلق بنظام الحكم وخلفياته، لكن الإمام زيد جاء ليكشف هذه الحقائق ويؤكد بشكل عملي أن الإسلام ثابت وصالح لكل زمان ومكان، ويشتمل على روح الثورة المتمثلة في جواز الخروج على الإمام الظالم في أي زمان أو مكان، وهذا هو المبدأ الذي كرسه هذا الإمام وجعله أصلاً من أصول المذهب ليقينه أن هذا هو الإسلام وأن هذه هي محدداته فيما يتعلق بنظام الحكم .
فالظالم أينما كان موقعه لا بد أن تتصدى له الأمة على القاعدة الذهبية الممثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي غيَّر مسارها الحُكام وأصبحت تُسمى بالفريضة الغائبة، وهذه هي المعضلة الكبرى التي أصابت الأمة في زمن مبكر، جاء الإمام زيد “عليه السلام” لإحيائها وقال عبارته المشهورة (والله لو لم أكن إلا أنا وابني يحيى لقاتلتهم) أي حُكام الظلم والجور، وها هو ما جرى بالفعل وإن كانت تتصل بالموضوع حكايات ومواضيع كثيرة، لكني أكتفي بأولى معاني فلسفة الثورة عند الإمام زيد وهي مبدأ الخروج على الحاكم الظالم والتي أنكرها الكثير من المسلمين واستبدلوها بالحديث المدسوس على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم “أطع ولي الأمر وإن سلخ جلدك أو كسر عظمك ..إلخ” .
لاحظوا كيف أراد الإمام زيد أن يُحيي هذه الفريضة المغيبة وكيف يتحدث هؤلاء بدعوى تكريس الظلم والجبروت واعتبارهما من المسلّمات المقرة في الإسلام، وهذا هو الظلم بعينه.
أما القاعدة الثانية التي أرساها هذا الإمام العظيم فهي الإبقاء على باب الاجتهاد وعدم إغلاقه كما فعل أئمة المذاهب الأخرى، فعبر من خلال هذه القاعدة عن إلمام كبير بمعاني الدين وقدرته على فهم مضامين القرآن الكريم بعدم اللجوء إلى التأويل المُذل والمُهين للدين وأحكامه.
وكما قال الشيخ محمد أبو زهرة “رحمة الله عليه” فإن الإمام زيد تفرد بهذه القاعدة استناداً إلى منهج القرآن الكريم، فهذا المنهج الخالد عندما نتحدث عنه فإنما نتحدث عن دستور أزلي يُدير شؤون الناس إلى أن يبعث الله الأرض ومن عليها، بحيث تضمن فيما يتعلق بالأحكام الثابتة مثل (الصلاة، الحج، الزكاة) وغيرهما على أصول قطعية الدلالة والثبوت لا تتغير ولا تتبدل، بينما في الشؤون الأخرى استند إلى أصول ظنية تقبل الاجتهاد باعتباره أهم مصدر من مصادر التشريع، كما جاء على لسان سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأل الصحابي الجليل معاذ بن جبل وهو في طريقه إلى اليمن قائلاً (يتم تحكم فيهم) أجاب (بكتاب الله وسنة رسوله)، قال الرسول عليه الصلاة والسلام (فإن لم تجد) أجاب (أجتهد رأيي).
وهذا هو النص الذي دل على الاجتهاد وضرورة الاحتكام إليه، خاصة كما قلنا في الأحكام التي تتجدد بفعل الزمان والمكان والتطور الذي يطرأ على شؤون الحياة، ومن ذلك نظام الحُكم وشؤون إدارة الناس وكل ما يستجد من ابتكارات يصل إليها البشر، وكيف يجب أن يتعامل معها المسلمون استناداً إلى قواعد الشرع القويم، وهذا هو المعنى السامي الذي ترجمه الإمام زيد “عليه السلام” عملياً عندما أبقى على باب الاجتهاد مفتوحاً، بل وحث أصحابه عليه قائلاً ما معناه (من بلغ من أتباعي درجة كبيرة في العلم ولم يجتهد فليس مني)، أي أنه أقر الاجتهاد وحث أتباعه عليه، وما ذلك إلا للحفاظ على حيوية المذهب والإبقاء عليه بنفس الوهج الذي أراده الإمام زيد، وبذات المعنى المترجم للإرادة الإلهية في إدارة شؤون الناس الثابتة في القرآن الكريم .
ومن خلال هاتين القاعدتين يمكننا أن نستشف أهم ركن من فلسفة الإمام زيد في هذا الجانب المتصلة بنظام الحكم وشؤونه، وإدارة الحياة برؤية إسلامية دقيقة بعيدة عن الاستسلام أو الاستنساخ أو التأويل، ولكن بما ينسجم مع معاني القرآن الكريم والنهج المُكمل الممثل بالسنة النبوية الشريفة.
هذه المعاني للأسف الشديد ربما البعض لم يستوعبها إلا حينما احتاج إليها كما حدث عند اندلاع ما سُمي بثورة الربيع العربي، فالإخوان المسلمين أدوات تلك الثورة أمريكية الأصل، لجأوا إلى قاعدة الإمام زيد في مبدأ الخروج على الحاكم الظالم وأقروها، بينما كانوا يعتبرونها بدعة وضلاله، وهذه للأسف هي المعضلة التي تواجه المسلمين في كل زمان ومكان، فكل تابع لأي مذهب يحاول الانتقاص من مكونات الآخر إلا حينما يحتاج إليها فإنه يعظمها ويعتبرها عنواناً من عناوين الإسلام، أي أنهم لا يفتأون عن المتاجرة بهذا الإسلام واعتباره مطية لترجمة الرغبات والمقاصد الذاتية وإن كانت تتعارض مع المنهج القويم للدين، بينما الإمام زيد كان واضحاً من البداية، ولست بحاجة هُنا لأن أستعرض مواقفه مع هشام بن عبدالملك واليهودي أو المواقف الأخرى التي تعرض لها، إذ يكفي أن نخوض بعمق في معاني الثورة التي أطلق شرارتها وحدد أبعادها قبل أن ينطلق إلى الميدان ويواجه أولئك العتاة المجرمين بسيفه ومع قلة من أصحابه، وهو يثق كل الثقة أنه على الحق وأن منهجه هو المنهج الذي حدده رسول الهداية محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم منذ انطلاق الرسالة السماوية، وهذا ما قاله لابنه يحيى “عليه السلام” وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أصابه المجرمان بسهم في جبينه الطاهر، حيث قال (قاتلهم يا بُني ولو لم تكن إلا لوحدك، واعلم أنك على الحق وهم على الباطل، وشهداءك في الجنة وقتلاهم في النار )، أي أنه خرج إلى الثورة وقادها وهو يعلم كل العلم أن مآله الشهادة ولكنه يعلم المكان الذي سيذهب إليه بعد أن تصعد روحه الطاهرة إلى بارئها .
وهنا تكتمل الفلسفة التي أرادها الإمام العظيم للثورة، ويجب أن تظل مشتعلة وقائمة حتى يبعث الله الأرض ومن عليها، ولا نبالغ هُنا إذا قلنا أن نصرة القيادة الثورية للمظلومين في غزة تأتي امتداداً لهذه الثورة المباركة، ونسأل الله النصر والتأييد لكل المجاهدين، إنه على ما يشاء قدير، والله من وراء القصد ..