خليل المعلمي
يُعدُّ كتاب «عبقرية محمد» أشهر ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد الذي عاش خلال الفترة مابين (1889 – 1964) في باب «الإسلاميات» ضمن مجموع ما ألّفه، وفيه من حسن البيان وقوة الحجة وسعة الثقافة وصدق الإيمان وشواهد المحبة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما يجعلك تتأكد أن سعة الاطلاع والاغتراف من الثقافات المختلفة يفتح أمام العقل آفاق الحق، لأن «الحكمة تشهد للحكمة» كما يقول القاضي أبو الوليد ابن رشد الأندلسي الحفيد.
ولا يزال الكتاب الصادر في طبعته الأولى عام 1942م في القاهرة يشكل أحد المراجع الرئيسة في دراسة المرحلة الأولى من نشوء الإسلام وذلك من خلال قراءة تجربة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وممارسته خلال فترة النبوة وحتى وفاته، والكتاب بهذا المعنى يظل محتفظاً بقيمته الفكرية كما يظل معلما في تاريخ العقاد وفي مجمل ما أنتجه في شتى الميادين الفكرية، سياسية كانت أم أدبية أم دينية.
تقدير وتعظيم
في مقدمة الكتاب أوضح الأستاذ العقاد أن كتابه ليس «شرحاً للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعاً عنه، أو مجادلة لخصومه»، لكنه «تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان.
ويقول: سيرى القارئ أن كتاب «عبقرية محمد» عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة ولا يتعداها فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة تضاف إلى السير العربية والافرنجية التي حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن، لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار في هذا الموضوع ثم لا يقال أنه استنفد كل الاستنفاد.
ويتابع: فمحمد هنا عظيم لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس، عظيم لأنه على خلق عظيم، وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة وبين كل قبيل ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد أحدهما أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة، ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط حق معرض للجفوة والكنود، والسبب الآخر أن الناس قد اجترأوا على العظمة في زماننا بقدر حاجاتهم إلى هدايتها، فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناساً من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التمييز وتظلمهم المساواة والمساواة هي شرعة السواد الغالية في العصر الحديث.
علامات مولد
يشير العقاد في هذا الجزء من الكتاب إلى العلامات التي تؤكد على ظهور ومولد شخص عبقري، يحمل رسالة الله وتحملها الأمة العربية، ويقدما شرحاً على حالة العالم في ذلك الوقت، وقد فقدوا العقيدة وطمأنينة الضمير، الدولة البيزنطية وفارس، والأحباش وبينهم العرب ليس لهم دولة وإنما هم قبائل، وفي قبيلة من تلك القبائل لها شعبتان إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم كما كان قائماً على هواها، والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ومن بين تلك القبائل يظهر بيت عبدالمطلب، وهو رجل قوي الخلق قوي الإيمان حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، ومنه يأتي الأب الذي يحمل الصفات الحميدة، ومنه يأتي الرجل الذي لا يشركه فيه أحد في صفاته ومقدماته ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة وفي الجزيرة وفي العالم بأسره، إنه محمد الذي اختاره الله لرسالته الخاتمة إلى البشر، فهو نبيل عريق النسب، ويتيم بين رحماء، وخبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحضر، أصلح رجل من أصلح بيت، في أصلح زمان، ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم، قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه، والجزيرة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه.
عبقرية الداعي
يؤكد الأستاذ العقاد في هذا الجزء أن محمداً كان مستكملاً للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ، حيث اتفقت الأحوال على انتظار رسالة واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة، فكانت له فصاحة اللسان واللغة، وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة، وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغيرته البالغة على نجاحها، وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول، ولكنها هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.
وللصفات التي يحملها هذا الداعي يسرد العقاد عدداً من الوقائع التي تشهد لعبقريته في جذب الناس ودعوته إلى الإسلام.
العبقرية العسكرية
ومن خلال سرده عدداً من الحقائق يبين أن الإسلام لم يكن دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون ولكنه نجح لأنه دعوة لازمة يقوم بها داع موفق، ولم يكن النبي رجلاً مقاتلاً يطلب الحرب للحرب أو يطلبها وله مندوحة عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة الاستشارة، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار والإنشاء، لأن القيادة الحسنة هي القيادة التي تستفيد من خبرة الخبير كما تستفيد من شجاعة الشجاع وهي التي تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام.
واستعرض عدداً من الأحداث التي توضح قيادة وعبقرية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في المعارك التي خاضها، وتطرق إلى خصائص العظمة فيه صلى الله عليه وسلم.
العبقرية السياسية
من خلال السيرة العطرة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يخرج لنا الأستاذ العقاد مواقف ومشاهد من الحنكة السياسية أثناء إدارته للكثير من الأمور، وتجنيب المسلمين القتال، ويستدل على ذلك في مهادنته لقريش في صلح الحديبية، وقد كان المسلمون يظنون أن بنود الصلح ليست في صالحهم، ولكن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم والأهداف البعيدة التي رسم لها، جعلته يقبل بتلك الشروط، واتضحت الأمور أنها سارت في صالح المسلمين.
العبقرية الإدارية
يشير العقاد إلى العبقرية الإدارية لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من خلال إداراته لشؤون الدعوة ولشؤون الناس من خلال اختيار الأشخاص للقيادة، ومن خلال إدارته لعدد من القضايا، وإيجاد حلول التوفيق واتقاء الشرور، ويتضح ذلك من خلال إيجاد الحل الأنسب عندما اختلفت القبائل على من يضع الحجر الأسود بعد إعادة بناء الكعبة، وكذلك عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فتسابقت القبائل من يستضيفه، فترك لناقته خطامها تسير حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك، وأحداث كثيرة تؤكد عبقريته الإدارية في إيجاد الحلول المناسبة، واختيار القادة المناسبين.
سجايا وصفات
إضافة إلى العبقرية التي اتصف بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يحدثنا الأستاذ العقاد عن مجمل الصفات والسجايا التي حملها، منها البلاغة، فقد كان بليغاً في حديثه وكان دائماً ما يردد «اللهم هل بلغت» فكانت هذه الكلمة ذات دلالة على أن السمة الغالبة على أسلوب النبي في كلامه المحفوظ بين أيدينا هي سمة الإبلاغ قبل كل سمة أخرى.. بل هي السمة الجامعة التي لا سمة غيرها، لأنها أصل شامل لما تفرق من سمات هي منها بمثابة الفروع.
وقد سمي النبي محمد قبل البعثة بالصادق الأمين، وإضافة إلى ذلك فقد كان عطوفاً ودوداً يحمل من الصفات أكرمها وأجلها وأفضلها، وذا خلق عظيم مع أصحابه وأهله وأولاده وعشيرته ومع جميع المسلمين، استعرض العقاد هذه الصفات في حياته، وتحدث عن محمد الصديق والريس، وعن محمد السيد ومحمد العابد، وتلخصت فيه الطبائع الأربع (طبيعة العبادة، وطبيعة التفكير، وطبيعة التعبير الجميل وطبيعة العمل والحركة)، ومع ذلك كان يقبل الدعابة وكان أريحياً بشوشاً ذا آداب اجتماعية، نظيفاً يحب الطيب والتطيب.
نجد أن الأستاذ محمود العقاد قد طاف بنا مع حياة سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين لنتعلم منه الإيمان، وكيف نعيش وكيف نحيا، وقلما نجد مثل هؤلاء الكتاب، الذين يحملون نفس المشعل ويتفاعلون مع البيئة الثقافية الجديدة وعصر التقنيات الرقمية، مع أن الداعي إلى التعرف عليهم أشد وأكبر وأيسر، والمحزن في هذه العلاقة بيننا وبين نبيّنا أننا نزعم نُصرته فنرتكب في سبيل ذلك كل ما نهى عنه، ولهذا تبدو إعادة قراءة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من ضرورة لنا كمسلمين، قبل أن يقرأها غيرنا.