تاريخنا وضرورة التصحيح

 

عباس السيد
تصحيح التاريخ النضالي والسياسي في اليمن بات ضرورة ملحة كي ننطلق نحو المستقبل على أسس وحقائق سليمة غير مشوهة ولا مفبركة، وما لم يتم هذا التصحيح ، ستظل خطواتنا تائهة ومترددة وأفكارنا مشوشة، وبالنظر إلى حجم التزوير الذي تعرض لها تأريخنا اليمني منذ مطلع القرن العشرين ، تبدو مهمة التصحيح صعبة ، لكنها ضرورية ، أولا ليتم بناء المستقبل على أسس سليمة ، وثانيا لأن عملية التصحيح مسؤولية وأمانة تجاه الأجيال السابقة واللاحقة .
تفصلنا أيام عن حلول الذكرى الـ 57 والخمسين لثورة الـ 14 من أكتوبر ضد المحتل البريطاني ، وهي إحدى المحطات التاريخية التي شابها التزوير والتزييف ، حيث جرى تأميم التاريخ النضالي ضد الاحتلال و احتكاره زمنيا وسياسيا وفئويا .
السلطتان في الشمال والجنوب شاركتا في تزوير تاريخ انطلاق الثورة في الجنوب، واتفقتا على أن يكون الرابع عشر من أكتوبر 1963م هو اليوم الذي بدأ فيه الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني .
هذا التزوير فيه إساءة للشعب اليمني في الجنوب والشمال ، فأي شعب هذا الذي يسكت على احتلال بلده ، و ينتظر قرن وربع القرن قبل أن يحمل بندقيته لمواجهة المحتل ؟! .
الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني بدأ منذ اليوم الأول ، عند اقتراب السفن البريطانية من شواطئ عدن ، وسقط في تلك المواجهة غير المتكافئة نحو 140 شهيدا من اليمنيين المدافعين عن عدن .
واستمرت المقاومة ضد الاحتلال البريطاني على موجات وفترات ، تارة يقودها سلاطين الجنوب ، وأخرى يقودها أئمة الشمال، لكن الأوضاع السائدة حينها كانت لصالح المحتل ، القوة الأكبر في العالم آنذاك، ومع ذلك لم يتوقف نضال اليمنيين شمالا وجنوبا ضد الاحتلال .
على الرغم من سياسات شراء الذمم التي عمدت إليها سلطات الاحتلال البريطاني بهدف تأمين بقائها وتمكين سيطرتها وضمان سلامة قواتها ، فقد شهدت مناطق الجنوب العديد من الانتفاضات الغاضبة والرافضة في مختلف أرياف الجنوب اليمني المحتل ومن أهم وأبرز تلك الانتفاضات:
انتفاضة بن عبدات الكثيري في حضرموت من عام 1938م ـ 1945م – انتفاضة ردفان في الأعوام 1936م ـ 1937م ـ 1946م ـ 1949م ـ 1954م – انتفاضة حضرموت في الأعوام 1944م ـ 1951م ـ 1952م ـ 1955م ـ 1961م – انتفاضة بيحان في عامي 46 ـ 1947م – انتفاضة الصبيحة في عام 1942م – انتفاضة الفضلي في الأعوام 1945م ـ 56 ـ 57م – انتفاضة الحواشب عام 1950م – انتفاضة دثينة عام 1958م – انتفاضة يافع في عامي 1958م ـ 1959م.
كما شهدت ما كانت تعرف بـ ” المحميات الغربية ” وحتى فبراير 1957م أكثر من خمسين عملية ضد المحتل وأعوانه ، معظمها إطلاق نار على المراكز البريطانية وعلى المسؤولين المحليين الموالين للاحتلال في كلٍ من ردفان وحالمين والضالع، منها عملية 24 فبراير 1957م حين قام 16 رجلاً من قبيلة الأزارق بنصب كمين لدورية عسكرية بريطانية تتكوّن من 22 فردا من قوات ” الكاميرون مايلاندر ” أسفر عن قتلى وجرحى، وعلى إثرها شنت قوات الاحتلال حرب شرسة ودمرت بقاذفاتها قرى بأكملها في ردفان .
ويكفي أن نشير هنا إلى أول بندقية حصل عليها الشهيد علي عنتر ، كانت هدية من الإمام أحمد، تقديرا لشجاعته في المعارك التي خاضها مع جنود الإمام ضد الجيش البريطاني وعملائه في الضالع ، وكان ذلك منتصف الخمسينات من القرن الماضي ، أي قبل قيام الجمهورية في الشمال بسبع سنوات .
فلماذا يتم طمس التاريخ النضالي لليمنيين خلال تلك العقود ؟! . الإجابة على هذا السؤال واضحة، إذ أرادت سلطة الجمهورية في الشمال أن تمحو كل إيجابيات العهد الملكي ، وزج مؤرخوها بالاحتلال والأئمة في سلة واحدة .
وبالمثل ، تعاملت ” الجبهة القومية ” التي تولت زمام الحكم في الجنوب بعد رحيل المحتل ، إذ عملت على محو كل نضالات الأشخاص والمكونات خارج إطار الجبهة القومية .. تم طمس كل التاريخ النضالي لعقود ، ووضع الجمهوريون في الشمال والقوميون في الجنوب تقويما خاصا للثورة ضد المحتل ، بدأ من اجتماع دار السعادة في صنعاء في فبراير 1963م بين الطرفين ، تلاه إعلان الثورة من جبال ردفان في الـ 14 من أكتوبر من نفس العام ، وسجل راجح لبوزة كأول شهيد للثورة، رحم الله الشهيد لبوزة ، ولكن أين آلاف الشهداء الذين سقطوا في مقاومة المحتل طوال أكثر من قرن من الزمان ؟ أين موقع الشهيد الشيخ سيف مقبل عبدالله القطيبي الذي قاد النضال في ردفان منذ الأربعينات واستمر يقود المقاومة في جبهة ردفان بعد استشهاد لبوزة ، وكان المطلوب الأول لسلطات الاحتلال، ومع ذلك تم تجاهل هذه الشخصية في كتب الجمهوريين والقوميين ، بما فيها كتاب التأريخ العسكري لليمن لمؤلفه سلطان ناجي ، الذي لم يكن أمينا في ترجمته أحد التقارير الإنجليزية ، وتم شطب إسم الشيخ القطيبي وآخرين من الترجمة العربية في الكتاب بناء على ضغوط من السلطات .
ومن الواضح أن القطيبي لم يكن ينتمي إلى الجبهة القومية بعكس رفيقه راجح لبوزة الذي كان مسؤولا عن الجناح القبلي في الجبهة، هذه الحالة مجرد نموذج وغيض من فيض التزوبر والتزييف لتأريخنا النضالي والسياسي في اليمن .

قد يعجبك ايضا