الرأسمالية.. وحرب الأصوليات
عبد الرحمن مراد
بعد سنين عشر من انهيار الاشتراكية العالمية كفكرة وكنظام، وجد النظام الرأسمالي العالمي نفسه في أزمة وجود، فقد تفرد في إدارة العالم، وتفرد في صياغة أزمات العالم، ووجد نفسه عاجزا عن ابتكار الحلول للأزمات والمشاكل، ولذلك كانت فكرة 11سبتمبر التي أبدع صناعتها واخراجها هي محور الارتكاز التي من خلالها استعاد توازنه الدولي، إذ توالت الدراسات والابتكارات التي كانت في الغالب تركز على استغلال المساحات الفارغة عند العرب والمسلمين واستغلال ثرواتهم لمواجهة الصعوبات التي تواجه النظام العالمي الجديد ولذلك – ووفق الكثير من الرؤى التحليلية – كان أحد اهداف الدراسة التي أعدتها مؤسسة “راند ” – وهي مؤسسة رائدة في الدراسات الاستراتيجية في أمريكا – لمصلحة سلاح الجو الامريكي، وكان عنوان الدراسة ” العالم الاسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر ” وتضمنت تركيزا وتوجيها مكثفا على واقع العرب والمسلمين وسبل التعرف على الانقسامات وخطوط الصدع الطائفية والعرقية على المستوى الاقليمي والوطني للدول الاسلامية، وطرحت الدراسة رؤى في التحرك في مساحات التصدع والانشقاق لخلق التحديات والفرص للنظام الرأسمالي الذي تتزعمه امريكا في الحفاظ على نفسه من الانهيار.
والثابت وفق الكثير من الشواهد أن البعد النظري قد تحول إلى واقع عملي، فقد بدأت الاجهزة الامريكية المختلفة بالتواصل مع الجماعات التكفيرية عن طريق “الدوحة ” بهدف توظيف الجماعات للقيام بعملية التفتيت والتفكيك تطبيقا لخطة الشرق الأوسط الجديد التي وضعها ” برنارد لويس ” – وهو مفكر يهودي بريطاني احتوته المخابرات الامريكية واستخلصته لنفسها وكان يرى أن ثمانية قرون من الحرب لم تخرج المسلمين من الأندلس ولكن عندما قاتلوا بعضهم البعض انتهت دولتهم ولابد من إعادة هذا السيناريو في منطقة الشرق الاوسط – ومثل ذلك التوجه تؤكده تصريحات بعض مسؤولي البيت الابيض الامريكي ومنهم هيلاري كلينتون التي تولت منصب وزيرة الخارجية حيث قالت في واحد من تصريحاتها :
“إن أمريكا لن تدفع أموالا في حرب المسلمين، فهم سيتولون ذاك بأنفسهم”.
وقد شهدت المنطقة العربية بزوغ حركات وجماعات تكفيرية إرهابية تنشط متى كانت هناك حاجة لنشاطها, وتخمل متى كان الواقع السياسي يتطلب ذلك، فهي قطعة من شطرنج تحركها آيادٍ استخبارية عالمية، ومثل ذلك الأمر لم يعد بخافٍ على كل متابع حصيف لمسارات الأحداث في الواقع العربي.
لقد تولت الجماعات التكفيرية مهمة تفكيك وتمزيق الأمة الاسلامية وحولتها إلى طوائف وشيع وجماعات، وعمقت من الجروح، وأشاعت فيها البدائية والتوحش والتفكير الاسطوري، ورأينا في حال العرب والمسلمين بدعا وأمرا عجبا لا يقبله عقل كما هو الحال في العراق وفي غيره من البلدان.
يقول بريجنسكي في كتابه ” بين عصرين ” :
” تواجه الرأسمالية هزيمة ايديولوجية وفكرية كبيرة ويرأى أن الحل الوحيد لإنقاذ الرأسمالية هو احياء الاصوليات الدينية ودفعها للصدام مع الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرر في العالم عندها – كما يرى – تهزم الشيوعية والاشتراكية بقوة الاصوليات الدينية وسوف توفر مناخا ملائما للرأسمالية الامريكية وتوفر فرصا استراتيجية كبرى لإعادة تنظيم العالم تحت قيادتها “.
ومنذ عقد الثمانينات من القرن العشرين سارت السياسة الامريكية في هذا الخط حيث تبنت دعم الأصوليات الدينية ليس حبا في الدين وإنما رغبة في الانتصار على النظام الاشتراكي، ورغبة في حماية المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، وكان لتعاظم الاصوليات الدينية (الإسلامية، واليهودية، والمسيحية، والهندوسية ) دور في التمهيد للسيطرة على العالم وبالتالي التفرد في إشغال واستنزاف وشرذمة حركات التحرر في العالم وفي الوطن العربي على وجه الخصوص، وفرض مبدأ الاستسلام للصهيونية في فلسطين الذي لم يعد خافيا اليوم على أحد، فقد كان في الماضي يتستر تحت غطاءات مختلفة أما اليوم فقد أعلن عن نفسه على لسان قادة النفط في الخليج بكل تجلٍ ووضوح.
لقد تحقق للرأسمالية في نهاية المطاف ما كانت تصبو اليه وهو التفرد في قيادة العالم والتحكم في الصراعات الدينية والطائفية والحضارية، والرأسمالية ومن ورائها الصهيونية تهدف من وراء كل ذلك – كما تقول الاستراتيجيات الصادرة عنهما وتدل عليه حركة الواقع في العالم اليوم – تفتيت الأمم وتفكيك عراها العقائدية والثقافية على أسس ما قبل الأمة والدولة حتى تتمكن من السيطرة عليها والتحكم بمستوى المصالح في العالم، وقد رأينا ما قامت به “داعش ” وما تقوم به بعض الاصوليات من غير المسلمين، فقد أصبح كل شيء واضحا ومقروءا في واقعنا ومن حولنا لكن قليل منا من يفقه ما يدور بدليل أن ما يحدث في الجزائر وفي السودان بعد كل التجارب التي مرت بها بعض الدول في الوطن العربي – دون أخذ العظة والعبرة – هو التيه بعينه الذي وصلت اليه أمتنا العربية والاسلامية.
في المستوى الحضاري الذي نعيشه اليوم خيار الفناء موجود في مقابل خيار البقاء والبقاء فيه ليس وفق المعادلة القديمة للأقوى بل للأكثر فهما وتوظيفا لسيل المعلومات التي كانت تصنع ,وأضحت في مراتب التوظيف لها من خلال القدرة على إدارتها وتحقيق مصالح الشعوب من خلال حسن الدراية والوعي المتفاعل مع مجريات الاحداث.
الاستثمار اليوم أضحى في الافراد وفي الأشخاص من خلال تنمية القدرات وتفجير الطاقات، والتفاعل مع قيم الإنتاج، وليس من خلال حالة الترهل في مؤسسات التكاثر الثقافي لابد من الوعي بالمرحلة وصياغة مجموعة أهداف والقيام بالتحديث في بناء الكيانات والمؤسسات حتى تواكب المرحلة من أجل التحكم بمسارات المستقبل.