الثورة نت/..
كان يوم الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2015 استثنائيا وغير معتاد بالنسبة لدولة لا تتوقف عن الاحتفالات تقريبا كالإمارات، حيث أُضيئت الأبراج الفارهة في أبوظبي ودبي إحياء لذكرى كانت الدولة الخليجية تحتفي بها للمرة الأولى في تاريخها، مطلقة على ذلك اليوم اسم “يوم الشهيد الإماراتي”، وهو يوم قرر النظام الحاكم أن يخصصه لتمجيد ذكرى رموزه وجنود الإمارات الذين قضوا نحبهم أثناء أداء “المهام الوطنية المختلفة” داخليا وخارجيا، سواء كانوا من القوات المسلحة أو الأجهزة الشرطية أو حتى من طواقم الفرق البيروقراطية المدنية.
وقد جاء اختيار ذلك التاريخ تحديدا لإحياء المناسبة الجديدة نظرا لموافقته ذكرى سقوط أول “شهيد” في تاريخ الإمارات: “سالم سهيل خميس”، أحد أفراد قوات الشرطة في إمارة رأس الخيمة والذي قضى نحبه في معركة مصغرة ضد القوات الإيرانية، في جزيرة طنب الكبرى، حين رفض إنزال علم بلاده من فوق الجزيرة، قبل يومين فقط من تأسيس الاتحاد الإماراتي رسميا في الثاني من ديسمبر/كانون الأول عام 1971.
تبدأ فعاليات ذلك اليوم عادة في وقت مبكر من الصباح بتنكيس العلم الإماراتي في جميع المؤسسات الحكومية في الإمارات السبع وفي سفارات الإمارات على مستوى العالم، فيما تتخلله دقيقة الدعاء الصامت للشهداء قبيل الظهيرة، قبل أن تبدأ مراسم رفع العلم مجددا، وهي فعاليات تُعقد بشكل رسمي فيما يُطلق عليها “واحة الكرامة”، المخصصة في أبوظبي لتلك المناسبة.
ولكن ما يبدو في ظاهره مجرد مناسبة وطنية جديدة ومستحدثة، يعد في جوهره حدثا رمزيا بالغ الدلالة على مستويات عدة، خاصة وأن الإمارات، وعلى مدار تاريخها القصير الذي لم يجاوز خمسة عقود، لم تعر الكثير من الاهتمام لذلك النوع من المناسبات التي تعكس هوية وطنية موحدة، وباستثناء يوم الاستقلال الذي يوافق الثاني من ديسمبر/كانون الأول من كل عام وهو تاريخ تأسيس الاتحاد الإماراتي، لا يعرف الإماراتيون أي أعياد وطنية جامعة، في الوقت الذي احتفظت فيه كل إمارة بإرثها وانتمائها القبلي الخاص، وإن توحدت اسميا تحت مظلة علم واحد في نهاية المطاف.
كان “يوم الشهيد” المستحدث شاهدا جديدا إذن على التغيرات الكبرى والمتسارعة التي تضرب قلب الإمارات الصغيرة، خاصة وأن الاحتفال الأول بالمناسبة جاء بعد أسابيع قليلة من خسارة عسكرية هي الأكبر في تاريخ البلاد، حيث لقي 45 جنديا إماراتيا حتفهم دفعة واحدة في كمين عسكري في “مأرب” اليمنية، مُشكّلين العدد الأكبر من القتلى العسكريين في أي مواجهة عسكرية أو أمنية في تاريخ الإمارات، ومع صدور شهادات وفاتهم فإنهم كتبوا رسميا شهادة لبلد عسكري جديد غير ذلك البلد الهادئ الذي عرفه الجميع لحد كبير قبل أقل من عقد على ضفاف الخليج.
كانت اليمن هي الحرب العسكرية الحقيقية الأولى في تاريخ الإمارات القصير، وكانت الخسارة البشرية المبكرة على ما يبدو أكبر من أن يتحملها مواطنو وقيادة الدولة على حد سواء، فالشعب الذي طالما نظر للدولة باعتبارها مجرد مورد للمنافع المالية والاجتماعية في مجتمع طالما غلبت فيه القبلية على القومية، وجد ذلك الشعب نفسه مُطالبا بأداء الالتزامات العسكرية المفروضة على المواطنين في الدول الوطنية، ليس فقط عبر أداء بضعة أشهر أو حتى سنوات من تجنيد إلزامي روتيني فرضه النظام الإماراتي الحاكم بالفعل عام 2014، وإنما عبر المشاركة في عمليات عسكرية فعلية وبالغة العنف وبكل ما تحمله من أخطار حقيقية، فيما اكتشفت القيادة الإماراتية أن العقد الاجتماعي الذي يعتمد على توفير الحياة الرغيدة مقابل الإذعان السياسي لم يكن كافيا وحده لضمان ولاء المواطنين في ظل متطلبات المواطنة التي تفرضها الدولة بشكلها الجديد.
في واقع الأمر، كان ذلك العقد الاجتماعي الخليجي يثبت يوما بعد يوم أنه يصبح أكثر صعوبة في الحفاظ عليه، خاصة مع زيادة نسب الشباب وارتفاع المطالبات بالتمثيل السياسي، وفي المقابل انخفاض عائدات تصدير الطاقة التي مكّنت الحكومات الخليجية لفترة طويلة من شراء ولاء شعوبها، وبالإضافة إلى ذلك كانت الإمارات بالأخص تواجه تحديا فريدا نسبيا، تمثّل في قلة عدد مواطنيها وتنوع انتماءاتهم القبلية والأيديولوجية، في الوقت الذي يبقى فيه أغلب سكان البلاد من المغتربين المرتبطين بمجتمعات أخرى، والذين يعتزمون العودة لديارهم في نهاية المطاف.
رويدا رويدا، اكتشف حكام الإمارات -خاصة الإمارات الكبرى في دبي وأبوظبي- أنه في الوقت الذي تتجه فيه إماراتهم شيئا فشيئا نحو الحداثة، فإنهم يحكمون ما يشبه شركات متعددة الجنسيات أكثر من كونها دولة حقيقية بالمفهوم العالمي، وإذا كان بإمكان الشركات أن تمارس السياسة، فإن موظفيها لا يمكنهم خوض الحروب، وأن إرسال الجنود إلى الخارج يتطلب ما هو أكثر بكثير من الأسلحة المتطورة باهظة التكلفة، وأن المغامرات العسكرية الخارجية تأتي دوما مع عواقبها السياسية والشعبية حتى وإن وقعت على بُعد آلاف الأميال من الحدود، وأن أحلام “محمد بن زايد” لامتلاك قوة عسكرية ضخمة منذ ثلاثة عقود مضت -وإن أصبحت واقعا مرئيا اليوم- فإنها يمكن أن تتحول بين عشية وضحاها إلى كوابيس عسكرية وسياسية لا نهاية لها.
أمير في الظل
مع استقلال إمارات الساحل المتصالح عن سلطة بريطانيا أواخر الستينيات، كان اندماج هذه الإمارات مدفوعا بالضرورة السياسية لحماية نفسها من أطماع القوى الإقليمية الأكبر مثل إيران، وهي ضرورة دفعت القبائل المتناحرة -وعلى رأسها آل نهيان وآل مكتوم والقواسم- لنسيان خلافاتها التاريخية وقبول الاندماج في كيان سياسي واحد، ونتيجة لذلك البناء السياسي المتعجل نسبيا؛ لم يكن المجتمع الإماراتي أكثر من مجتمع متخيل وُلد من رحم دولة تشكّلت بدافع الضرورة، وكان ذلك ما فطن إليه من يملكون مفاتيح النظام الحاكم الإماراتي، والذين اعتبروا منذ اللحظة الأولى أن تأسيس “هوية وطنية جامعة” هو المفتاح الأكبر ليس فقط للاستقرار السياسي، ولكن أيضا للأمن القومي
كانت الخطوة الأولى والأكثر إلحاحا في هذه الجهود هي بناء جيش مشترك يتغلب على إرث الخلافات القبلية والعسكرية بين الأسر المسيطرة على الإمارات، وقد تحقق ذلك بالفعل في عام 1976 بعد خمسة أعوام كاملة من تأسيس الاتحاد، لكن الأمر تطلب(2) 20 عاما إضافية من أجل توحيد جميع قوات الدفاع التابعة للإمارات -بشكل كامل- ضمن قوة وطنية موحدة، وهي قوة ظلت رمزية وبلا فاعلية إلى حد كبير، وعاد ذلك إلى المخاوف الكامنة في الإمارات الخليجية من أن قوة عسكرية محترفة وأكثر استقلالا يمكن أن تهدد عروش الأسر الحاكمة، والتي قررت الاعتماد في أمنها على حفظ توازن القوى الذي أقرته الدول الكبرى (بريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة)، وعلى الرعاية الأمنية لهذه القوى بوصفها الضامن الرئيسي للاستقرار في الخليج.
ونتيجة لذلك، فإن دولة الإمارات لم تلعب أي دور عسكري كبير في المنطقة منذ تأسيسها، فيما ظل التطور العسكري لقواتها المسلحة شديد البطء على المستويين التقني والفلسفي، حيث ورثت الإمارات التفكير الإستراتيجي العربي الذي كان ينظر إلى إسرائيل وإيران (ما بعد الثورة الإسلامية) بوصفهما التحديين الأمنيين الرئيسيين، وقد ساعد نزاع الإمارات التاريخي مع إيران على الجزر الثلاث، طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى، على تعزيز فكرة أن طهران تُمثّل التحدي الرئيس للأمن الإماراتي.
وسرعان ما تحول هذا الشعور إلى إطار واقعي للفعل السياسي مع إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981، وهو مجلس تشكّل في جوهره كرد فعل على تحول أكبر دولة إقليميا وقتها (إيران) إلى المعسكر المناوئ للغرب وحلفائه، خاصة مع تنامي الشعور أن إيران الخمينية كانت عازمة على بسط نفوذها وفرض هيمنتها في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج على وجه الخصوص، من خلال تصدير ثورتها، وهو شعور تعزز بشكل أكبر مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي اصطف خلالها مجلس التعاون داعما لبغداد صدام في مواجهة طهران
لكن هذا التفكير الإستراتيجي الإماراتي تلقى التحدي الأول له مع الغزو العراقي للكويت عام 1990. وكانت الإمارات شأنها شأن دول مجلس التعاون داعمة للعراق بقوة أثناء صراعه مع إيران في الثمانينيات، حيث نظرت دول المجلس إلى بغداد بوصفها حصنا حاسما ضد التهديدات الإيرانية، غير أن الغزو العراقي للكويت غيّر من خريطة التهديدات من وجهة النظر الخليجية إلى الأبد، فلم تعد هذه الدول تنظر إلى طهران وحدها بوصفها تهديد أمنها الرئيسي، ولكنها صارت(3) تنظر أيضا إلى غيرها من الدول الإقليمية الكبرى -بما في ذلك مصر وسوريا- بوصفها تهديدات محتملة، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الدول خبرت بوضوح التكلفة الشعبية للاعتماد الواضح على مظلة الحماية الغربية، حين استضافت أراضي وأجواء الخليج أكثر من نصف مليون جندي أميركي لطرد العراقيين من الكويت متسببة في تداعيات سلبية شعبية لأنظمة تلك الدول.