الأسباب السياسية والاقتصادية والعسكرية لارتكاب آل سعود مجزرة تنومة

الحلقة السابعة

  • مجزرة الحُجاج الكبرى..كتاب للباحث حمود الاهنومي يوثق جريمة آل سعود بحق حُجاج اليمن.. “ٹ” تنشر الكتاب في حلقات
  • في أبها جمعت عيون إبن سعود معلومات عن الحجاج وعتادهم ونصب الكمائن الغادرة
  • احاط جيش إبن سعود بالحجاج في تنومة من جميع الجهات وباشروا بإطلاق النار بشكل مكثف
  • من لم يمت بإطلاق النار أجهزوا عليه ذبحا بالسكاكين والخناجر
  • في سدوان أجهزت عصابات إبن سعود على مجموعتين من الحجاج اليمنيين بنفس الطريقة
  • التكفيريون الوهابيون كانوا يتعاملون مع الضحايا من الحجاج اليمنيين كمشركين

جرت عادة الــحــجــاج الــيــمــنيين أن تكون لهم قافلة واحدة، تحت إمرةِ أميرٍ واحد، وكان أحدُ عائلة السادة بيت الكبسي هو الذي يرأس قافلة الــحــجيج، واعتاد الكثير من الــيــمــنيين السفر إلى مــكــة عن طريق السلسلة الجبلية المجتازة لعسير إلى الــحــجاز.
كان أمير الــحــج يكلَّفُ في صنعاء، وقد حضرها الــحــجــاج من المناطق التي تقع جنوبها، فتتحرك القافلة من صنعاء عادةً في 6 شوال أو في تاريخٍ مُقارِب، ولاشتهارِ مواعيدِ حركة الــحــجــاج ومحطاتهم في الطريق ودقة مواقيتها، كان الــحــجــاج من المناطق الواقعة بين صنعاء ومــكــة ينتظرون قدوم القافلة في تلك المواعيد المتواطأ عليها سلفا لينضموا إليها(1)، ولكونهم كانوا يذهبون مجتمعين لا يتفرَّقون كان يُطْلَق عليهم اسم (العصبة).
جديرٌ بالذكر أن النجديين لما استولوا على أجزاء من عسير، أرسل حاكم عسير عبدالعزيز بن إبراهيم، إلى الإمــام يــحــيـى كتبا تفيد باهتمامه بتأمينِ طريقِ الــحــجــاج وتيسير مرورهم، وسفرِهم، بل وأنه لا خوف عليهم مما يجري في أطراف عسير، وقد علم الــحــجــاج بذلك(2).
ومع ذلك فإن أمير الــحــج في ذلك العام السيد العلامة محمد بن عبدالـلـه شرف الدين ما إن وصل إلى أطراف صعدة حتى بعث كتابا إلى حاكم أبها النجدي، الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم، مُستوضِحا منه حالةَ طريقِ الــحــجــاج، وإمكانَ اجتيازِهم فيها بأمان، من باب التثبُّت في الأمر، وإلا فالعلاقات بين الإمام وحاكم نجد “لا يُشَمُّ منها رائحة الإرادة لأي عدوان”، على حد قول سيرة الإمــام يــحــيـى(3).
وعاد الجواب عليهم مؤكِّدا ما سبق منه إلى الإمام من أن الطريقَ آمنة، وأن يكون سلوكُ الــحــجــاج من الطريقِ المعتادة، وأنه لا يوجَد أيُّ مانعٍ من مرورهم منها، وأنه قد سبق منه البيان حول ذلك، “وهم واثقون باندفاع الأخطار في سلوكهم تلك الجادة”(4).
بل كان الــحــجــاج يتمتعون بالاحترام والحرية والإكرام من قبل أهالي القرى والمدن التي يجتازونها، ويمرون عليها، وكان من يتعرَّض لهم من اللصوص وقطاع الطرق يعاقِبُهم أهالي تلك القرى والمناطق أشد العقوبة، ولو كان المتعرِّض من أبنائهم وإخوانهم(5).
بل أيضا وبمجرد وصول الــحــجــاج الــيــمــنيين ذلك العام إلى أطراف مناطق عسير المحتلة تلقاهم بعضُ النجديين “تلقي المسالمة”(6)، وعلى مشارف (أبها) أكرمهم حاكمُها عبدالعزيز بن إبراهيم، وأضافهم، ولم يحذِّرهم من شيءٍ، بحسب المصادر الــيــمــنية.
ويبدو أن قرارَ تصفية الــحــجــاج وصل بينما كانوا يجتازون الطريق بين أبها وتـنـومـة، فهناك من الوقت ما يكفي في التواصل بين حاكم أبها النجدي، وأميرِه في الرياض عبدالعزيز ابن سعود، وإذا كان قد وصل علم قدومهم إلى أطراف عسير منذ أيام، وهناك سيقضون أياما إلى (أبها)، ثم يحتاج مرورهم من أبها إلى تـنـومـة الوقوف في عدد من المحطات ولعدد من الأيام أيضا(7)، فهذا يعني أنه كان هناك وقتٌ كافٍ للتواصل مع عبدالعزيز في الرياض وسؤالِه عن اللازم فِعْلُه تجاه حــجــاج يعتقدونهم “مقاتلين متنكرين في زي حــجــاج” على حد قول الاتهامات النجدية.
إن ابن سعود وحده هو الشخص الذي يمكنه اتخاذُ قرار بحجم تصفية حــجــاج بعدد كبير، وهو الشخص الذي عرفنا أنه: “كان يعتمد على الاستخبارات قبل الملاقاة، وقلما أغار على أرضٍ يجهلها، أو ليس له عين فيها، يبعث إليه بأخبارها، ويكثر من الاحتياط إذا هم بالزحف، ويفترض في خصمه أضعاف ما هو فيه”(8)، على حد وصف مؤرِّخه الأستاذ الزركلي. وهو الآمر الناهي لجميعِ فِرَق جيشه، ومنها فرق هجر الإخوان الوهابيين.
ويترجَّح أن قرارَ إبادة الــحــجــاج لم يكن ليُنَفَّذ في أبها؛ إذ كان السيناريو يَفْتَرِض أنه لا بدَّ من كمينٍ يتولَّى المهمة في منطقة مضطرِبة، ومن طرفٍ أشبه ما يكون بطرف ثالث يمكن تحميله المسؤولية التي تُخْلِي ابنَ سعود من طائلتها، على نحوٍ يحقِّق أهدافَه اللئيمة، وليكن الإخوانُ ذراعَه المتشددة ووجهَه القبيح المتوحِّش هم الأداة الوَسِخة وهم المشجَب الرديء الذي سيُحَمَّل المسؤولية.
ومن دون شك ففي أبها تم التعرُّف على عديدِ الــحــجــاج وعتادهم، وأموالِهم وبضائعهم المغرية والمسيلة للعاب الغنيمة، وتم اكتشاف نقاط ضعفهم، وأفضل الطرق لإبادتهم، وتصوُّر الطريقة المثلى للتنصُّل عن المسؤولية بطريقةٍ تضيعُ دماء أولئك الأبرياء بشكلٍ شيطاني، يوفِّر لابن سعود إظهارَ نفسه ككلِّ مرة بمظهر الباكي الشاكي ذارفِ الدموع الحرَّى والثكلى، ولم يكن هناك أكفأ من تلك الكتائب المتوحِّشة التي صنعت الرعب في الجزيرة العربية لتحميلها هذا العملَ وهذه المسؤولية، ليصل خبرُ رُعبهم إلى الــيــمــن وحاكمها وجنودها، فتتحقق الإفادة والأهدافُ المرجوة من وراء ذلك نجديا، وتتحقق الأهداف المرجوة أيضا إنجليزيا.
تحرَّك الــحــجيج مجتازين مناطق كثيرة وصولا إلى أطراف بني الأسمر (سدوان)، وإلى حدود بني شهر في (تـنـومـة)، فحطَّت القافلة الأولى والكبيرة في تـنـومـة، والتي تبعد عن أبها حوالي 125 كيلو متراً(9)، وحطَّت قافلتان في سدوان الأعلى وسدوان الأسفل، واللتين تبعُدان عن تـنـومـة بحوالي 10 إلى 15 كيلو متراً، إلى الجنوب الشرقي منها، وكان أميرُ الــحــاج في الفرقة الأخيرة التي نزلت في سدوان الأسفل(10).
كان اليوم هو الأحد 17 من ذي القعدة 1341هـ / 1 يوليو 1923م، في وقت الظهيرة، وقد حطَّت الفرق الثلاث لصناعةِ طعامِ الغداء ظهرا، وهم آمنون لا يدرون عما قد دُبِّرَ لهم بليلِ الشياطين، وما قد حيك لهم من مؤامرةِ إبادةٍ شاملةِ، وهم بلا سلاح، ولا تأهُّب، ولا شعورٍ لهم بشيء، ولما شدَّ بعضُهم أثقالَه بعد الغداء، وبعضهم كان لا يزال في حال الغداء، وبعضهم في حال الشد، إذا بجيشِ ابنِ سعود الكامن لهم قد أحاط بهم من كل الجهات، وإذا به يصليهم نارا، ويباشر بإطلاق النار في جباههم ورؤوسهم وصدورهم بشكل كثيف(11).
لقد أحاطوا بمن في تـنـومـة وهي الفرقة الأكبر، وطلعوا عليهم من أعلى الوادي وأسفله وهم على خيولهم وإبلهم، وهجم المشاة عليهم من رؤوس الجبال، فتابعوا الرمي عليهم ببنادقهم من كل جهة، فاستُشْهِد معظمُ من كان بهذا الوادي من الــحــجــاج، وقتِل أكثرُ دوابهم، وأُخِذَتْ أموالُهم، ولم يفِرَّ منهم إلا القليل(12).
حاول بعضُهم المدافعة بما أمكن، وكانت قلة قليلة جدا منهم لديها سلاحٌ ناري وذخيرة فقاتلوا به حتى كمُل ما معهم، فقُتلوا(13)، وكان بعض الــحــجــاج ينتظر الموت لحظة بلحظة، وكانوا يقرأون سورة ياسين، ولكن كان رصاص جنود ابن سعود أسرع إلى أرواحهم منهم إلى إكمال تلاوة سورة ياسين(14).
بدأوا هجومهم عليهم برميهم بالبنادق من رؤوس الإكام، ثم نزلوا إليهم يقتلون من عرفوا أنه لا يزال حيا(15)، فكانوا يمرون من بين جثثهم، فمن أصابه عيارٌ ناري وبه رمَقٌ من حياة جاؤوا ليذبحوه أو يطعنوه بحادٍّ للتأكد من فراقه للحياة، وإجماعُ حديث النـاجــين بأنهم جميعا ممن غاصوا بين الدماء تظاهرا بالموت يدل على بشاعة سلوكِ هؤلاء مع الجرحى إجهازا وفتكا؛ فهذا السيد ضيف الـلـه المهدي على سبيل المثال من محل العرينة عمار محافظة إب، أحد النـاجــين من هذه المــذبــحــة، نجا؛ لأنه رمى بنفسه في مكان فيه دماءٌ كثيرة، وامتدَّ بينها كالميت(16).
رئيس الــيــمــن الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني ذكر أن مقاتلي ابن سعود كانوا يتنادون فيما بينهم بقولهم: (اجتلوا المشرج)، أي اقتلوا المشرك(17)، وسمع أحدُ النـاجــين من آل الذويد من مدينة صعدة وكان قد تظاهر بالموت بين الجثث، سمع أولئك النجديين وهم يطوفون بين القتلى، وأحد قادتهم يسأل جنوده: كم قتلتَ؟ فإذا قال: واحد، قال له: لك قصر في الجنة، وإذا قال له: اثنين، قال له: لك قصران، وهكذا كان يبشرهم بقصورٍ في الجنة بعددِ من قَتَلوا من حــجــاج بيت الـلـه الحرام(18).
طوافُهم بين جثث القتلى ليس مستبعدا؛ بل كان ضروريا لقومٍ يتهافتون على القتل ثم الغنيمة التي كان بعضُها مخبوءا في أكمام وجيوب الــحــجــاج، وعليه فلا بد من تفتيش الــحــجــاج، فمن وجدوه جريحا قتلوه، ثم سلبوه، وبهذا يُمْكِنهم الجمع بين فضيلتي قتلِ أولئك الجرحى المشركين الآمِّين بيتَ الـلـه الحرام!!، وأخْذِ ما بحوزتهم من غنائمَ حلالٍ!! براحة بال، وطمأنينة نفس.
كان قائدهم (خالدُ بن جامع) أحدُ زعماء عتيبة بحسب جريدة القبلة وبحسب روايات الوهابيين أنفسهم(19)، وعليه فقد اشتبه على الأكوع حين قال: إنه (خالد بن لؤي)(20)، وكذلك على الرئيس الإرياني حين سماه (خالد بن محمد).
وبعد أن أبادوا الفرقة الكبيرة في تـنـومـة عطفوا على الفرقتين في سدوان واللتين كانتا تبعدان عن الأولى بحوالي 10 إلى 15 كيلومتراً، وفعلوا بهما كما فعلوا بالأولى، إلا أن القتل في الأولى كان أوسع وأعظم(21)، وهذا يشير إلى أن النـاجــين كان أكثرهم من فرقتي سدوان، الفرقتين الأخريين، وأن عامل الوقت كان سببا من أسباب نجاة الكثير منهم.
بيد أن الوهابيين النجديين لم يكفِهم ذلك، بل انطلقوا لمطاردة الهاربين فمن أدركوه قتلوه صبرا، ثم بعد ذلك استولوا على غنائم أولئك المشركين!! الــحــجــاج!!، فاستولوا على كل ما كان في أيديهم وأثقالهم ودوابِّهم(22)، من المال والقراش(23) والبضاعة(24)، وأخذوا جميع أمتعة أولئك الـشــهــداء(25).
كثير من النـاجــين تظاهروا بالموت بين الدماء، ويحكي السيد زبارة كيفية نجاة أمير الــحــج في المخطوط من كتابه نزهة النظر(26)، بأنه أظهر أنه مقتول، فلما جاء الليل مشى على رجليه، وترك جميعَ أدواته، إلا الثوب الذي فوقه، وواصل سفره إلى مــكــة. ويبدو أن ذلك الثوب لم يسلم من النهب كما هو مقتضى رواية السيد ضيف الـلـه المهدي الآتية.
أما الذين طالتهم سكاكين دواعش ابن سعود وفصلت رؤوسهم عن أجسادهم من أولئك الـشــهــداء فعددهم 900 شهيد، كما سيأتي ذلك.
ومع ذلك كله فإن مَنْ نجا منهم بعد تلك الأهوال تلقاهم أهل القرى القريبة من محل المــجــزرة، كما تقول سيرة الإمــام يــحــيـى، فسلبوهم ما بقي معهم من أموالٍ محمولة، “وسلبوا ما عليهم من الثياب”(27)، وبحسب رواية السيد ضيف الـلـه المهدي أحد النـاجــين من المــذبــحــة فإنهم لم يتركوا عليهم سوى السراويل، وأن جمعا من الــحــجــاج من بينهم أميرُ الــحــج وصلوا إلى أحد المراكز الحكومية وليس عليهم إلا السراويل، وقد ترجَّح للباحث أن ذلك المركز هو مركز بارق في تهامة المحاذية لبني شهر من جهة الغرب، وهو مركزٌ كان حينها يخضع لحكم الشريف حسين ملك الــحــجاز، ومنه أبرق أمير الــحــج إلى شريف مــكــة.
وحين نتأمل القرى القريبة من محل الوقعة وبمراعاة أن الــحــجــاج سيهربون في الاتجاهِ المعاكس لعدوهم المطارد لهم، فإنه يتضح أنها قرى تابعة لقبائل بني الأسمر والذين كانوا قد دخلوا تحت حكم ابن سعود.
ونهبُ الثياب بتلك الصورة المشينة سلوكٌ مفاجئ ومنافٍ لما كان يُفْتَرَض بأولئك القبائل من احترام الــحــجــاج، وهو يشير إلى أن استباحة أموال وأعراض وأرواح الــحــجــاج على ذلك النحو كان خلقا نجديا وسمة بدوية وهابية، ولهذا فقد كانت وِجهة الــحــجــاج النزولَ إلى تهامة التي كانت لا تزال خارجَ سيطرة النجديين.
جدير بالذكر أن رجلَ خيرٍ – كما يروي السيد ضيف الـلـه المهدي – في إحدى تلك القرى كان قد تكفل بستر بعض الــحــجــاج الذين صادفوه، ومنهم السيد ضيف الـلـه المهدي، فقطع فراشَه لهم، وصنع لهم عشاء، وأمَّنهم ليلتهم، وفي الصباح أرسلَ أولادَه لحمايتهم وإيصالهم إلى أحد المراكز الحكومية(28).
شكل ذلك الرجل نموذجا استثنائيا حيث لم تؤثِّر على سلوكه ووعيه همجيةُ التكفيريين النجديين؛ إذ كان لا تزال فيه بقية من أخلاقِ المروءةِ والشهامةِ وآدابِ الإســـلام، بخلاف أولئك الذين تأثروا بهمجية الوهابيين إزاء إخوانهم من الــيــمــنيين، فلم يكتفِ الرجل بتقطيع فراشه لستر عورات الــحــجــاج، بل وأرسل أولادَه لحمايتهم حتى وصولهم إلى منطقة آمنة(29)، ولعلها كما قلت مركز بارق في تهامة.
وهكذا يتبيَّن أنه كان على من نجا من تلك المــذبــحــة أن يغادِر تلك الجبالَ المشؤومة – التي وطأتها أقدامُ أولئك المتوحِّشين وحطَّت فيها أخلاقهم الذميمة – إلى تهامة(30)، والتي كانت لا تزال صامدة في وجوههم، وهناك وجدوا الشريف راجح حاكم مركز بارق المحاذي لجبال تـنـومـة، كما أوضحت ذلك برقية خطابٍ أبرق بها أمير الــحــج السيد محمد بن عبدالـلـه شرف الدين إلى الشريف حسين عند وصوله مدينة جدة(31).
جدير بالذكر أنه لما وصل الــحــجــاج إلى تهامة قرَّر بعضهم مواصلة سفرهم نحو مــكــة عن طريق الساحل، لأداء فريضة الــحــج، وبعضهم عاد إلى الــيــمــن(32)،وكان ضمن المصمِّمين على مواصلة مشوار الــحــج أمير الــحــج السيد العلامة محمد بن عبدالـلـه شرف الدين، وتذكُرُ جريدةُ القبلة أنَّ عددَ أولئك الذين وصلوا معه من النـاجــين من المــذبــحــة كانوا حوالي 150 حاجا(33).
إن تصميم بعض أولئك المنكوبين على الــحــج بعد تلقيهم تلك الأهوال دليلٌ على تمسُّك الــيــمــنيين بهذه المشاعر المقدَّسة وتعظيمِهم لها إلى حدِّ التضحية بأرواحهم وأموالهم وتجاهُل ونسيان كلِّ ما أصابهم.
وجاء دور ابن سعود الشيطاني الذي يأكل مع الذئب ويبكي مع الراعي، ليذرِفَ دموع التماسيح، ويعطيَ لنفسه مكانا قصيّاً من تلك المــجــزرة، ويتبرأ من تلك الحادثة الشنعاء ذرا للرماد في العيون، وتنصلا من تحمل مسؤولية الجريمة الجنائية، وهو الذي كان قد وصل إلى هدفه السياسي والعسكري والعقائدي، ووصلت رسالته الشنعاء إلى كل يمني.
فبعد المــجــزرة مباشرة، أرسل حاكم أبها عبدالعزيز بن إبراهيم متبرئا من ذلك العمل القبيح، كما هو السيناريو المرسوم، ونسبه إلى أحد الأمراء النجديين، ثم جاء وفدٌ من أمير نجد ابنِ سعود يخبر بأنه أمر بإرجاع ما أُخِذ على الــحــجــاج، وطلب من الإمام رُسُلا لقبضها، وما زالوا مصرين على “استنكارِهم لما حصل، وتنصُّلهم من تبعة ما جرى”، ونسبتهم ذلك إلى مقاتلي هجرة الغطغط الإخوانية، وأنهم باذلون للإنصاف(34).
وبالتأكيد ذرف ابن سعود دموع الحزن والأسى، تلك الدموع التي ذرفها في ترَبة، وفي الطائف، وفي مــكــة، وهكذا هنا فقد “تأسف للحادث وكتب لسيادة الإمــام يــحــيـى كتابا رقيقا!! يظهر أسفه”، “وأمر حالا بجمع ما وُجِد من متاع”، “وردِّه إلى سيادة الإمــام يــحــيـى”، وحمَّل الإخوانَ المسؤولية مع شيءٍ من التبريرِ لفعلتهم كما تصوِّر ذلك وثيقةٌ سعودية منشورة(35)، والتي ستأتي مناقشتها لاحقا.
وبالفعل فقد وصل رسلُ الإمام، ولكن ببعض المنهوبات من “دوابَّ ومنقولاتٍ وبعضِ قيَم السمن”(36)، وقد أخذ منهم ابن سعود صكا بذلك(37)، والتي بالتأكيد لم تكن تمثِّل شيئا من قيمة المنهوبات الحقيقية، وإنما كانت مجردَ تعبيرٍ سياسيٍّ وقِح يتظاهر بالإنكار والتبرُّؤ من المــذبــحــة، وكان يراد منها أخذُ صكٍّ بيَّتَ النيةَ من خلاله على التنصل والاستدلال به مؤخرا بعد أن قضى وطره وولَغ كما يشاء في دماء الــيــمــنيين، وكانت أيضا محاولة خبيثة للتنصُّل من الواجبات المالية المترتِّبة على جرائمِ جيشِه بحقِّ الــحــجــاج وأموالهم.
الهوامش:
(1) جريدة القبلة، العدد 703، ص1.
(2) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص419.
(3) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص418.
(4) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص419.
(5) جريدة القبلة، العدد 703، ص1.
(6) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص419.
(7) الأكوع، دروب الــحــج طريق الــحــاج الــيــمــني، منازل الــحــاج الــيــمــني إلى مــكــة، ط1، 1433هـ/ 2012م، الجيل الجديد ناشرون، صنعاء، ص177.
(8) الزركلي، الوجيز، ص71.
(9) بحسب ويكيبيدا، الموسوعة الحرة.
(10) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص419؛ والأكوع، هجر العلم ومعاقله في الــيــمــن، ج2، ص666؛ وقياس المسافة مأخوذ بمسطرة قوقل، التي لا تراعي المنحدرات والجبال والتعرجات على طبيعة الأرض، بما يعني أن المسافة على الأرض أكبر من ذلك القدر.
(11) مجهول، بــحــث مفيد، 114/ أ.
(12) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص420.
(13) من إفادة السيد العلامة عبدالرحمن بن حمود الوشلي النائب الثاني لمفتي الجمهورية الأسبق، كتبها إلي بخطه الجميل، بتاريخ 14/ 8/ 1436هـ – الموافق 2/ 6/ 2015م، وقد سمع روايتها في أيام شبابه من السيد ضيف الـلـه المهدي نفسه أحد النـاجــين من مــذبــحــة تـنـومـة، وعمر السيد العلامة الوشلي اليوم يقارب السبعين أطال الـلـه عمره.
(14) منهم الــحــاج الطبيب حمادي بن سعد التركي، الذي وصل إلى قوله تعالى: (سلام قولا من رب رحيم)، فأصيب بطلق ناري في جبهته، كان بها استشهاده. من إفادة حفيد الشهيد عبدالـلـه بن أحمد بن حمادي التركي، يرويها عن أبيه عن الــحــاج الأستاذ غالب الحرازي، أحد النـاجــين من المعركة ترجمة أرسل بها لي بتاريخ 18 سبتمبر 2015م.
(15) زبارة، محمد بن محمد بن يحيى (ت1380هـ)، نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر، خ، بخط ولده السيد العلامة أحمد بن محمد زبارة رحمه الـلـه، انتهى منه في 11 رمضان، 1404هـ، (نسخة خطية في المركز الوطني للمعلومات)، ج3، ص346. ويلاحظ أن النسخة الخطية فيها معلومات كثيرة عن مــجــزرة تـنـومـة، لم تحظ بالقبول عند ناشري المطبوعة.
(16) إفادة السيد العلامة عبدالرحمن الوشلي، رواية عن السيد ضيف الـلـه المهدي.
(17) الإرياني، هداية المستبصرين، ص22، مقدمة المحقق.
(18) من إفادة الأخ محمد أحمد سهيل، من صعدة يرويها عن أبيه عن أحد النـاجــين من آل الذويد بصعدة.
(19) العدد 703، ص1.
(20) هجر العلم ومعاقله في اليمن، ج1، ص76.
(21) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص420.
(22) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص420.
(23) يعني البهائم، من الدواب والحمير، وما شاكلها.
(24) مجهول، بــحــث مفيد، ق114/ أ-ب.
(25) العظم، رحلة في العربية السعيدة، ص228.
(26) نزهة النظر – خ -، ج3، ص346. أما المطبوع فقد حذف ذلك منه.
(27) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص421؛ ومجهول، بــحــث مفيد، ق114/ ب.
(28) من إفادة السيد العلامة عبدالرحمن الوشلي، رواية عن السيد ضيف الـلـه المهدي.
(29) من إفادة السيد العلامة عبدالرحمن الوشلي، رواية عن السيد ضيف الـلـه المهدي.
(30) مجهول، بــحــث مفيد، ق114/ ب.
(31) حرر الخطاب بتاريخ 4 ذي الــحــجة، 1341هـ، ونشرته جريدة القبلة المكية العدد 705، الخميس 5 ذي الــحــجة 1341هـ/ 19 يوليو 1923م، ص4.
(32) مجهول، بــحــث مفيد، ق114/ ب؛ وجريدة القبلة، العدد 705، ص4.
(33) جريدة القبلة، العدد 705، ص4.
(34) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص421. ويقارن مع ما ورد على لسان الحكومة النجدية في جريدة أم القرى بتاريخ رجب 1352هـ، ونشرته مجلة المنار، مج33، ص21، مقالة: ما بين الإمامين في جزيرة العرب.
(35) مجلة المنار، مج33، ص21، مقالة: ما بين الإمامين في جزيرة العرب
(36) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص421.
(37) سالم، مراحل العلاقات الــيــمــنية السعودية، ص448، نقلا عن وزارة الخارجية السعودية، بيان عن العلاقات، ص144.

قد يعجبك ايضا