
توفيق الشنواح –
ستة أيام لا تكفي لتروي ناظريك ببهاء “اسطنبول” تطل كل صباح وهي تقطر ماء خرجت للتو من بحيرة “مرمرة” العذبة بجسدُ ممشوق ُ باذخ الجمال .. ويومان لا تكفي لرؤية العاصمة أنقرة وهي تغتسل كل مساء بمطرها ـ اللا منقطع ـ من غبار يومُ عاصمي ناجز وشاق .. وهي المدة التي قضاها كوكبةَ من شباب وشابات ثورتنا السلمية بين جنبات مضيق ” البسفور” الذي يطل شامخا ماسكا اسطنبول من شقين آسيوي وأوروبي ويجمعهما معا في توحد يشبه ـ إلى حدُ بعيد ـ ذلك التماهي البديع الذي يجمع الأتراك بمختلف مشاربهم العقائدية والفكرية والأيدلوجية في بوتقة العطاء والنهوض التركي الفريد الذي يضاهي دول كثيرة سبقتهم في التنمية والديمقراطية ..
لا نجد بدا من الاستمتاع ببحيرة “مرمرة” الآسرة وهي تبتلع قرص الشمس في كومة من الذهب التركي النفيس .. حيث تبدأ زوارق وسفن ومراكب السياح والمواطنين تمخر عبابه ليلاٍ تقيس جماله تعلم عيونها معنى الدهشة في حضرة هذا الجمال التركي الآسر والجفون مارة على رمز العظمة التركية ممثلاٍ بجسر “مضيق البسفور” وكذلك جسر مضيق “الدردنيل” الذي يشمخ ـ هو الآخرـ شموخ الفلاح التركي في حقل البندق والفستق .. أو العامل في مصانع السيارات وأرصفة ميناء ” أزمير ” الدائب حيث الكلام القليل والإنتاج الكثير ..
كل الأماني التركية تصعد للروح كل صباحُ باكراٍ كصحوتهم التي تتم مع ديوك الفجر وعصافير حدائقهم مترامية الخضرة و الأطراف.. تارة تطل من الأحياء الشعبية في “قاسم باشا” ـ مسقط راس العظيم اردوغان ـ أو “طب كوبي ” أحد أشهر الأحياء في اسطنبول .. وتارة أخرى من المدن والموانئ الكثيرة حيث الحركة دائبة طوال الساعة كميناء ” ازمير” الذي يتوسط اسطنبول وأنقرة وهو الشاهد الآخر ـ وليس الأخيرـ على النهوض التركي الفريد..حيث كان هذا الميناء بلا هوية بلا ملامح خامل كسول فأحاله أردوغان وحكومته ـ الخالدة في الوعي والوجدان التركي ـ إلى ميناء تجاري عالمي بامتياز يرفد الخزينة التركية ـ التي لا يوجد بها فأر واحد ـ بملايين الدولارات بحركةُ دائبة على مدار الساعة التركية ثمينة الدقائق والثوان..!
هذه المشاهد لم نحص تفاصيلها المدهشة على هامش الدورة التعريفية التي أقامتها إدارة ” جسر الشباب اليمني التركي ” التابعة لرئاسة الوزراء التركية لـ خمسة وثلاثين شابا وشابة من شباب الثورة السلمية الذين نهلوا من بحيرات العظمة التركية واطلعوا ـ خلالها ـ على جزءُ من التجارب التركية الرائدة ممثلة بالتطور النهضوي وآلية السياسات والبرامج والخطوات العملية ـ قولا وممارسة ـ التي جعلت من تركيا دولة عظمى استطاعت أن تنهض بها من حضيض العوز والفقر والديون إلى مصاف الدول الصناعية الاستثمارية المتطورة في شتى مناحي الحياة في زمن قياسي جدا..
لماذا شباب الثورة¿!!
إن مختلف السياسات التي تنتهجها تركيا على كافة المستويات والأصعدة تقوم على خطوات علمية مدروسة بعناية وبما أنها دولة تسير في طريق الكبار على مستوى العالم وتعرف جيدا ما الذي تريده تدرك أن الشباب الذين صنعوا وقادوا أجمل ثورات الربيع العربي سيكونون قادة المستقبل وسيكون المستقبل المشرق حليفهم بلا شك لأنهم يحملون على عواتقهم مشعل التغيير للأفضل مراهنين على وعي شعوبهم التي تؤمن بسمو ونبل مبدأهم وهي من تقف خلفهم وتساندهم ولهذا فتركيا بات موقفها واضحا ويتمثل في انحيازها لصوت الشعوب المضطهدة وخياراتها العادلة وهي بذلك تدعمها انطلاقا من مبادئها الإسلامية العظيمة التي تحض على إنصاف المظلوم والوقوف إلى جانبه ومد يد العون له حتى يستقيم عوده ويقوى عضده .. وهي بذلك ترى أن الشباب الذين اعتصموا سلميا وقتلوا وهم يحملون الورود يستحقون المناصرة والمؤازرة والأخذ بأيديهم للطريق الصحيح ..
ماهية الدورة¿
الدورة في مجملها كانت مفيدة جدا للشباب المشاركين والسبب
أن الأتراك كانوا على قدر كبير من الصدق والتعاون في تبيين السياسات التركية الناجعة التي مكنت تركيا من النهوض والوقوف على أقدامها بعد أن وصلت لحالة صعبة من الفقر والفساد والبطالة كما أن الدورة ركزت على الجانب الاقتصادي بشكل أكبر وهو الجانب الذي ركز عليه حزب العدالة والتنمية إثر توليه مقاليد الحكم في البلاد العام 2002م بزعامة حبيب الأتراك رجب طيب اردوغان والهدف من الدورة أيضا التعرف عن كثب على تجربة تركيا لنقلها لليمن لتتم الاستفادة منها ..
قول وفعل
خلال زيارتنا لوزارة التنمية التركية تحدث السيد صالح كوسا مدير تنمية المشاريع في الوزارة عن خطط تركيا للنهوض الاقتصادي الشامل وأهمها النمو الذي تسعى تركيا لتعزيزه وتطويره رغم شحة الموارد الطبيعية التركية ..
مدير التنمية قال أن الوزارة تعمل على ثلاث خطط رئيسية :
ـ خطة المدى الطويل
ـ خطة المدى المتوسط
ـ وخطة المدى القصير ( السنوي) ..
وجميع ذلك يتجه نحو أهم هدف منشود تعمل من أجله وزارة التنمية وهو ” محاربة الفقر والعوز ”
وسألناه : كيف استطعتم محاربة الفساد والقضاء عليه فأجاب مدير التنمية :
قمنا بعمل جبار في هذا الاتجاه وأبرز الخطوات العملية التي قمنا بها في هذا الجانب تتمثل في :
إصدار القوانين الرادعة
الشفافية في المشاريع
محاسبة القطاعات وإخلاء ما عليها من التزامات بشكل دوري ومنظم وصارم
تقليص الفائدة على القروض الأمر الذي شجع الاستثمار وإقبال الناس على العمل.
إنشاء مشاريع كثيرة تعنى بمحاربة الفقر
عملنا على إكساب الشباب المهن والصناعات المختلفة
وبمقارنة مع ما يتم عندنا فلدينا تشريعات وهيئة لمكافحة الفساد وبرامج كثيرة لمحاربة الفقرغير أن جميع ذلك لا يتعدى كونه حبراٍ على ورق فقط.. أما الأتراك فيمتلكون النية الصادقة والعزم الحقيقي لمحاربة الفساد والبطالة ورئيس حكومتهم ورائد التنمية التركية مثالا رائعا للنزاهة ..
طموح مدروس
معظم المحاضرين الاقتصاديين الأتراك الذين استمعنا إليهم غالبا ما يرددون في أحاديثهم عبارة ” نحن نطمح لنصبح من بين أفضل عشر دول اقتصادية في العالم “!!
هذا دليل أن لديهم خطط مدروسة يلتزم بها الجميع ويسيرون على نهجها أما نحن ماذا لدينا ¿¿!
لدينا هِم كيف نخزن قات ونمضغ حبات السيجارة فقط .. ولهذا فقد قال أحدهم : لن تتطوروا وأنتم لازلتم تمضغون القات !!
كما يوجد لدى وزارة التنمية التركية خطة لإعطاء الصناعات الالكترونية أهمية قصوى وتسهيل مهامها ودعمها لما يمثله ذلك من عامل دعم للاقتصاد الوطني ..
لا توجد لدينا ثروات!
لا يوجد لدى تركيا لا نفط ولا غاز ولا ثروات طبيعية ولكنها تمتلك الإرادة والتوجه الحقيقي والصادق للنهوض الاقتصادي.. وهذا ما أكده لنا كثير من المحاضرون الاقتصاديون .. فمن المدهش أن تجد بلدا بلا ثروات يضاهي الدول العظمى في اقتصاده وتطوره .. وتندهش أكثر وأكثر عندما تجد بلدا يمتلك من الثروات الطبيعية: النفط والغاز والأسماك والذهب والمعادن المختلفة ومقومات سياحية واقتصادية نادرة وتجده يقبع في حضيض الفقر والجوع والمرض كما هو الحال ببلدنا..
هنا تتجلى الإرادة التركية المذهلة في خلق اقتصاد متطور جدا من مقومات صعبة وشبه منعدمة من خلال دعم الصناعة والاستثمار وتطوير المقومات السياحية التي شكلت رافدا هاما وأساسيا يرتكز عليه الاقتصاد التركي ومحاربة الفساد والفقر والبطالة وإشراك الشباب في التنمية وتشجيع إبداعاتهم ومواهبهم وجميع ذلك تم في فترة قياسية جدا..
التعليم .. ببلاش!!
من الصف الأول وحتى الدكتوراه جميع ذلك مجاني أمامك .. فما عليك إلا أن تنوي إكمال تعليمك ورفد معارفك ومعلوماتك وحكومة تركيا ستتكفل بكل شيء.. بل أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فحكومة تركيا تدعم الطلاب الدارسين برواتب تكفل لهم العيش بطمأنينة وتعدى ذلك الأمر اعتماد رواتب للطلاب الأجانب (الدوليين) كما يحب الأتراك أن يسمونهم احتراما وتقديرا لهم حتى لا يشعر الطالب الوافد أنه أجنبي أوغريب في تركيا .. الأمر لم ينته هنا في سبيل دعم وتطوير التعليم بل أن الحكومة التركية أصدرت تشريعات صارمة تحرم المتاجرة في التعليم أو فتح جامعات ذات طابع تجاري أو ربحي فالتعليم مجاني للجميع ..
عرفنا ذلك عند زيارتنا لجامعة “اسطنبول شهر” واطلعنا على التطور المذهل في الجامعات التركية من خلال هذه الجامعة.. وأكثر ما أذهلنا التسهيلات الكبيرة التي يحظى بها الطالب الوافد قبل التركي هناك والحفاوة والترحاب والتجهيزات الرائعة للتعليم الأكاديمي من مراكز بحوث متطورة ومعامل مجهزة حديثا ومراجع متاحة للجميع ومكتبات تحوي ما يحتاجه الدارس هناك وكله بالمجان في جميع المجالات والتخصصات الأمر الذي يجعلك تتمنى أن تعود للدراسة هناك ..!
