المحامي/ عدنان محمد قاسم المتوكل
لقد تعددت الأساليب المختلفة في إدارة الحكم بحسب اختلاف المدارس الفكرية التي درست ظاهرة الإدارة العامة في المجتمعات المعاصرة, والتي كانت نتاجاً لتطور فكري اهتم بهذه الظاهرة عبر العصور.
وكلمحة تاريخية على ظاهرة الإدارة فأن بناء سد مارب في اليمن, كواحد من المآثر التاريخية, ليس إلا دليلاً ناصعاً على قيام الحضارة اليمنية القديمة على أسس إدارية وتنظيمية راسخة لا تزال تثير إعجاب العالم . وتظهر القيمة الإدارية لهذه الأعجوبة الأثرية الخالدة من خلال القول بأنه لم يكن بالإمكان تشييد هذا الصرح العظيم من دون وجود آلية محكمة لتنظيم جهود آلاف من البشر والاستفادة القصوى من أطنان من المواد التي استغرقها بناء هذا السد, والتي تجسدت من خلال عبقرية هذا الشعب في مجال الإدارة والتنظيم.
إن موضوع إدارة الشؤون العامة قد أحتل مكانة هامة ومحورية في نظرية الحكم والإدارة في دولة الإسلام, والذي يتضح من خلال الفكر الإسلامي الذي واكب تلك الفترة الزاهية من حياة الأمة.
ونشير في هذا المقام إلى عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر, وهي أشهر وثيقة سياسية ظلت دستوراً على مر العصور لما يزخر به من الفوائد التي يحتاجها القادة السياسيون في تدبير أعمالهم ورسم مسارهم الصحيح, وقد وصف ابن أبي الحديد ذلك العهد بقوله “إنه نسيج وحدة ومنه تعلم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة”.
إن أهم ما يميز الظاهرة الإدارية أنها نشاط إنساني هادف حسب تعبير علماء ومفكري الإدارة الحديثة ويترتب على ذلك أنها تمتد إلى جميع مستويات الإدارة العليا والوسطى والتنفيذية وأن جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها تدخل في نطاق الظاهرة الإدارية وبالتالي نستطيع أن نتحدث عن الإدارة السياسية وإدارة التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية وإدارة الحرب , كما أن النشاطات الإدارية تستهدف زيادة رفاهية الإنسان ورفعته وتقدمه في جميع المجالات.
وعودا على بدء، فإن هذا التقرير البحثي يستعرض أهم الاتجاهات الأساسية لتعريف الإدارة العامة كمدخل للموضوع , ودراسة للمدارس الفكرية التي درست ظاهرة الإدارة العامة في المجتمعات المعاصرة ومن ثم تطبيقاتها في النظام السياسي الحالي في اليمن بعد تشكيل المجلس السياسي الأعلى , ووضع (تصورات تحويلية على أرض الواقع), وفي الختام عرض موجز للنتائج المستخلصة والملاحظات حولها والتوصيات بشأنها.
الاتجاهات الأساسية لتعريف الإدارة العامة من خلال التعريفات العديدة التي ساقها الكثير من العلماء والمفكرين حول مفهوم الإدارة حسب خلفياتهم الفكرية نستعرض أهم الاتجاهات الأساسية في اعتبارها كفن من الفنون الإنسانية, كعلم من العلوم التجريبية, كعلم وفن أو كنشاط أو كعملية إدارية, كنشاط إداري لتحقيق أهداف السياسة العامة, كنشاط سياسي يساهم في صناعة السياسة العامة, كنشاط سياسي – إداري يساهم في تحقيق منظومة الحكم الرشيد, وهو الاتجاه المتعلق بموضوع الدراسة لذلك سنستعرض الاتجاهات التالية:
الإدارة العامة كنشاط إداري لتحقيق أهداف السياسة العامة يجري التركيز في ظل هذا النوع من التنظير الدستوري والقانوني على اعتبار الإدارة العامة بمثابة أداة لتحقيق أهداف السياسة العامة التي تضعها الحكومة وينظر إلى الإدارة العامة في ظل هذا المفهوم على أنها الآلية أو الأداة الإدارية المخولة دستوريا بتطبيق القوانين والتشريعات والأوامر والسياسات العامة الصادرة عن السلطات الدستورية الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) الإدارة العامة كنشاط سياسي يساهم في صناعة السياسة العامة نتيجة لتطور المجتمعات المعاصرة وتعقد المشاكل التي تواجهها نشأت الحاجة إلى أجهزة الإدارة العامة المختلفة والتي يعول عليها ترجمة الطموحات الشعبية المتجسدة في السياسة العامة للدولة إلى خطط وبرامج يجري تنفيذها على أرض الواقع.
ولقد أصبح نشاط الإدارة العامة لا ينحصر على عملية تنفيذ السياسة العامة التي تقرها السلطات السياسية والدستورية, بل لقد أصبح المسؤولين الحكوميين, وخصوصاً في المناصب الإدارية العليا للحكومة يساهمون بصورة مباشرة أو غير مباشرة في صناعة السياسة العامة.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم التعريف الذي جاء على لسان كلاً من برنستين و أوهير, واللذين أشارا إلى الإدارة العامة بوصفها الجهة أو المنظمة التي: تقرر وتحدد الأسلوب الذي نعيش به من خلال أفراد يعملون في منظمات عامة تضع وتنفذ قرارات في ظل قوانين تعكس حاجات وقيم اجتماعية.
كذلك يمكن فهم التعريف الذي أورده الدكتور موفق حديد والذي أشار فيه إلى أن الإدارة العامة تمثل: العلاقة بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) والتي تشتمل على عملية رسم السياسات العامة وتنفيذ القرارات الحكومية.
من جهته, لفت عالم السياسة المصري الدكتور إسماعيل صبري مقلد, في كتابه “دراسات في الإدارة العامة” إلى أن تعريف علم الإدارة العامة يجب أن يتضمن جميع العوامل المؤثرة على نشاط الأجهزة والمنظمات العامة في المجتمعات المعاصرة, والتي لم تعد الإدارة العامة مجرد منفذ للسياسة العامة, وعلى هذا الأساس فقد قدم الدكتور مقلد تعريفاً, للإدارة العامة جاء فيه:
الإدارة العامة هي العلم الذي يعنى ببحث وتحليل مختلف الجوانب الديناميكية المتعلقة بعمل الإدارة التنفيذية في الدولة. آخذاً في الاعتبار طبيعة الأيديولوجية السياسية المسيطرة, والمقومات الأساسية التي يتركز عليها النظام السياسي والدستوري, ومستوى النمو البيروقراطي, والكيفية التي تتوزع بها علاقات القوى الاجتماعية والطبقية, وأيضاً كل ما يحيط بيئية هذه الإدارة الحكومية من قيم وتقاليد وأنماط ثقافية وحضارية وتجارب تاريخية(1).
الإدارة العامة كنشاط سياسي – إداري يساهم في تحقيق منظومة الحكم الرشيد ظهر في السنوات الأخيرة, وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط تجربته الشمولية في الحكم والإدارة, مفهوم الحكم الرشيد (الجيد أو الصالح) والذي يتضمن مفهوماً واسعاً للإدارة العامة والتي تعتبر إحدى الوسائل أو الآليات لتحقيق رفاهية وسعادة ونماء الشعوب. وتؤكد الأدبيات الخاصة بالأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها وفي مقدمتها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, على مسألة اعتبار منظومة الحكم الرشيد بمثابة: ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية لإدارة شؤون بلد ما على جميع المستويات. وبمعنى أدق, ينصرف مفهوم الحكم الرشيد إلى: منظمة الحكم على جميع المستويات المركزية والمحلية, العامة والخاصة, والتي من شأنها تعزيز وتدعيم وصيانة رفاه الإنسان, بالإضافة إلى قيامها بتوسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقراً وتهميشاً على الريف والمدينة.
وعلى ذلك يمكن تعريف الحكم الرشيد الذي يستهدف تحقيق مصلحة عموم الناس في المجتمع على أنه “نسق من المؤسسات المجتمعية, المعبرة عن الناس تعبيراً سليماً, تربط بينها شبكة متينة من علاقات الضبط والمساءلة بواسطة المؤسسات, وفي النهاية بواسطة الناس”.
وفي ظل هذا المفهوم الشامل للحكم الرشيد, يمكن فهم تعريف العالم الأمريكي سي جيرالد للإدارة العامة والتي اعتبرها بمثابة المؤسسة السياسية – الإدارية التي:
تهتم بالشؤون العامة وإدارة أعمال الجمهور, فهي تتضمن أي شيء يمكن اعتباره بمثابة استجابة الدولة للمشكلات الاجتماعية والتي تتطلب حلاً جماعياً من خلال القيام ببعض أشكال التدخل الذي يعد خارج نطاق القطاع الخاص أو السوق.
ومن هذا المنطلق, يمكن القول بأن جميع التعريفات السابقة قد أكدت على أن مفهوم الإدارة العامة في أي بلد من البلدان ينصرف إلى منظومة الأجهزة الحكومية المنوط بها تنفيذ أو إدارة السياسة العامة للدولة, وكما ذكر الفيلسوف الصيني كونفوشيوس بأن الإدارة العامة عبارة عن “وسيلة الحكم الصالح, وأنها العلم الذي يعنى ببحث وتحليل مختلف الجوانب المتعلقة بعمل الإدارة التنفيذية في الدولة”(2).
المدارس الفكرية التي درست ظاهرة الإدارة العامة في المجتمعات المعاصرة شهدت مسيرة الفكر الإداري ظهور عدد من المدارس الإدارية وكذلك المداخل والاتجاهات القانونية والسياسية التي تحاول كل واحدة منها تفسير ظاهرة الإدارة العامة, وقد نتج عن هذا التراكم المعرفي أن اتسم الفكر الإداري بسمات ميزت كل مرحلة من حيث المداخل والاتجاهات التي وجه إليها هؤلاء العلماء اهتماماتهم على اعتبار أن لكل منها مفاهيم ومبادئ وقواعد وأساليب ترى من خلالها ظاهرة الإدارة العامة.
ويمكن تصنيف تلك المدارس أو المناهج إلى (المدرسة القانونية – المدرسة العلمية –مدرسة العلاقات الإنسانية – المدرسة السلوكية – ومدرسة الحكم الرشيد):
1. المدرسة القانونية: اتسمت بالمنهج القانوني الذي يتصف بالتركيز على الجوانب القانونية للإدارة العامة, من خلال النظر إليها من زاوية الأسس والقواعد القانونية التي يجب أن تحكم الأجهزة الحكومية والعاملين فيها والتركيز على مهام وواجبات الحكومة والأجهزة الحكومية, وما يرتبط بها من حقوق وسلطات وصلاحيات دستورية وقانونية, ويعود الفضل في تبني هذا المنهج إلى ويدرو ويلسون الذي أكد على الفصل الدستوري بين السلطات (القضائية, التشريعية, التنفيذية), وقد اقترح مؤيدو هذا المنهج أن تتبنى السلطة التشريعية سياسة إصدار قوانين وإجراءات تحدد العلاقة بين السلطات السياسية والأجهزة الحكومية, وكذا قوانين تحدد الدور السياسي للموظفين الحكوميين, وكذلك قوانين وتشريعات واضحة تحد من الاجتهادات والتفسيرات.
2. المدرسة العلمية:يمكن الحديث على ثلاثة تيارات رئيسية الإدارة العلمية والمبادئ الإدارية والتنظيم البيروقراطي.
أ. الإدارة العلمية؛ والتي من مبادئها العامة “إحلال الطرق العلمية, والاختبار العلمي للمهارات والقدرات وتدريبها, وتعاون كلاً من الإدارة والعمال طبقاً للطريقة العلمية.
ب. المبادئ الإدارية أو العملية الإدارية؛هي مبادئ عامة للإدارة في كل المجالات وقد أكد العالم الفرنسي هنري فايول الذي ساهم في تكوين نظرية الإدارة العلمية أن تلك المبادئ تتصف بالمرونة في التطبيق وفي ضوء الظروف المتغيرة والخاصة بكل تنظيم.
ج. التنظيم البيروقراطي؛ هو التنظيم الاجتماعي الساعي لتحقيق هدفه بصورة عقلانية “Goal-oriented Organization”, وهذا التنظيم يتبع الهيكلية الرسمية في تدفق المعلومات والقرارات, ويخضع لمقاييس ونظم لتوزيع المسئوليات بصورة هيكلية واضحة المعالم والأهداف, وقد تطورت هذه الحالة مع الأيام لتصبح البيروقراطية “أو الخدمة المدنية” التي نشهدها اليوم, والتي تقوم من خلال مكاتبها وأجهزتها بتعميم الأوامر والإجراءات.
3. مدرسة العلاقات الإنسانية؛ نشأت هذه المدرسة كرد فعل قوي للافتراض الذي قامت عليه المدرسة العلمية للإدارة, ففي حين ركزت مدرسة الإدارة العلمية على الجانب المادي والفني فقد ركزت مدرسة العلاقات الإنسانية؛ على البعد النفسي والاجتماعي للإنسان وتوصلت إلى أحسن طريقة لأداء العمل هي القيادة الديمقراطية, كما أن للحوافز المعنوية تأثيرها البالغ على العاملين.
4. المدرسة السلوكية؛ يمكن الحديث فيها عن ثلاثة تيارات رئيسية وهي “المنهج النظمي, والمنهج البيئي (الثقافة التنظيمية), ومنهج القوة (السلوك السياسي)”.
أ. المنهج النظمي؛ تتسم أنظمة المنظمات العامة في ظل هذا النوع من التنظير بعدد معين من الخصائص الرئيسية وهي (المدخلات, والعمليات التحويلية, والمخرجات, والإدارة, والأثر المرتد “التغذية الاسترجاعية”, والبيئة).
فالمدخلات هي مصادر الطاقة اللازمة لنشاط المنظمة الإدارية الحكومية وحركتها, وتتمثل في الموظفين والخدمات والمعدات والميزانيات.. إلخ. أما العمليات التحويلية، فهي استخدام وتحويل المدخلات لتقديم الخدمات الحكومية المختلفة (المخرجات). لذلك فالمخرجات عبارة عن ناتج النشاط التحويلي الذي تقوم به المنظمات مثل الخدمات أو المنتجات أو المعلومات. أما ما يتعلق بالإدارة فهي التي تهتم بتحديد وتنفيذ أنشطة العمليات التحويلية لتحقيق المخرجات المستهدفة, أما الأثر المرتد؛ فهي المعلومات المتعلقة بالجودة والتكلفة والوقت اللازمة لإنتاج الخدمات العامة, أما البيئة؛ فإنه من المعروف أن المنظمات العامة تتلقى مدخلاتها من بيئتها وتقوم بتحويلها إلى مخرجات تعود ثانية إلى البيئة.
ب. المنهج البيئي (الثقافة التنظيمية): يركز هذا المنهج على دور وتأثير البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية على الجوانب القانونية والتنظيمية والإدارية السلوكية داخل الأجهزة الحكومية, أو ما يسمى بالثقافة التنظيمية.
ج. منهج القوة (السلوك السياسي): هناك حقيقة تشير إلى أن القوة والسلوك السياسي هي صورة من صور السلوكيات الموجودة فعلاً داخل الأجهزة الحكومية, وبالتالي فإن تجاهل الظاهرة يعني أننا لن نكون قادرين على فهم وتحليل ما يدور داخل الأجهزة الحكومية, ومن ثم فلن نكون قادرين على تصحيح الأوضاع الشاذة, كما أن القوة والسلوك السياسي قد يستخدم أو يجب أن يستخدم لإحداث التغيير أو الإصلاح الإداري في الاتجاه المنشود الذي ترغب به القيادات السياسية والجماهير الشعبية.
وتظهر أهمية دراسة هذه الظاهرة فيما نراه اليوم من تعثر لبرامج الإصلاح الإداري التي تسعى إليه الحكومات المختلفة وخصوصاً في العالم النامي, كما يعود في جوانب كثيرة منه إلى عدم استخدام القادة الإداريين في الأجهزة الحكومية لمصادر قوتهم وصلاحيتهم ونفوذهم بشكل سليم وفعال في الاتجاه الذي يحقق التنمية الإدارية المنشودة. أما ظاهرة السلطة التي هي نوع من أنواع القوة الرسمية فيمكن تعريفها على أساس أنها الحق المشروع أو القانوني للمدراء والقياديين في توجيه أداء الموظفين والتأثير عليهم باتجاه تحقيق الأهداف التي تسعى الأجهزة الحكومية لتحقيقها على صعيد تنفيذ السياسة العامة.
5. مدرسة الحكم الرشيد؛ ظهر مفهوم الحكم الرشيد Good Governance في السنوات الأخيرة, (حسب ما ذكرنا سابقا) , ولعل أفضل ترجمة لمفهوم Governance الواسع هي “إدارة شؤون الدولة والمجتمع”. لقد أصبح استخدام مفهوم “إدارة شؤون الدولة والمجتمع” شائعاً في أدبيات الإدارة العامة, والسياسات العامة, والحكومات المقارنة.
وقد ظهر المفهوم منذ عام 1989م في منشورات وتقارير البنك الدولي عن كيفية تحقيق التنمية الاقتصادية ومحاربة الفساد, حيث تم الربط بين الكفاءة الإدارية الحكومية والنمو الاقتصادي؛ فوفقاً لهذه الأدبيات فإن الأدوات الحكومية للسياسات الاقتصادية ليس من المفروض فقط أن تكون اقتصادية وفعالة, ولكن أيضاً لا بد أن تكفل العدالة والمساواة, ولقد نما المفهوم بعد ذلك ليعكس قدرة الدولة على قيادة المجتمع في إطار سيادة القانون.
وفي بداية التسعينيات أصبح التركيز على الأبعاد الديمقراطية للمفهوم من حيث تدعيم المشاركة وتفعيل المجتمع المدني وكل ما يجعل من الدولة ممثلاً شرعياً لمواطنيها؛ ففي اجتماع اللجنة الوزارة لمنظمة التنمية الاقتصادية OECO الذي عقد في باريس في مارس1996م تم الربط بين جودة وفعالية وأسلوب إدارة شؤون الدولة والمجتمع, ودرجة رخاء المجتمع, والتأكيد على أن المفهوم يذهب إلى أبعد من الإدارة الحكومية؛ ليتضمن إشكاليات تطبيق الديمقراطية لمساعدة الدول في حل المشاكل التي تواجهها.
ومن هذا المنطلق فإن مفهوم “إدارة شؤون الدولة والمجتمع” يتعرض لما هو أبعد من الإدارة العامة والأدوات والعلاقات والأساليب المتعلقة بها ليشمل مجموعة العلاقات بين الحكومات والمواطنين؛ سواءً كأفراد أو كأعضاء في مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية, وركز على أن الحقل الدلالي للمفهوم لا ينصب فقط على فعالية المؤسسات المتعلقة بإدارة شؤون الدولة والمجتمع, ولكن يركز أيضاً على القيم التي تحتويها تلك المؤسسات مثل المساءلة والرقابة والنزاهة(3).
مفهوم الحكم الرشيد:
قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تعريفاً مختصراً لمفهوم الحكم والذي ينصرف إلى: العملية التي يتم بمقتضاها اتخاذ القرارات وتنفيذها على نطاق الدولة. ومن هذا المنطلق, فقد قدم البرنامج تعريفاً للحكم الرشيد يشير إلى أنه: ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون الدولة على كافة المستويات, من خلال آليات وعمليات ومؤسسات تتيح للأفراد والجماعات تحقيق مصالحها.
يفترض برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن منظومة الحكم الرشيد لا تنحصر في نطاق الدولة أو المؤسسات السياسية الرسمية, على اعتبار أن ظاهرة الحكم في أي مجتمع تتأثر في واقع الأمر بالنظام الاجتماعي كله وليس فقط بالحكومة أو المؤسسات الرسمية.
ومن ثم فإن مفهوم Governance كما عرفه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يقوم على ثلاث دعائم أساسية هي:
1. الدعامة الاقتصادية: وتتضمن عمليات صنع القرارات التي تؤثر على أنشطة الدولة الاقتصادية وعلاقاتها بالاقتصاديات الأخرى.
2. الدعامة السياسية: وتتضمن عمليات صنع القرارات المتعلقة بصياغة وتكوين السياسات العامة في المجالات المختلفة, كالتعليم والصحة.
3. الدعامة الإدارية: وتتضمن النظام الخاص أو منظومة الإدارة العامة المتعلقة بتنفيذ السياسات العامة.
تطبيقات المدارس الفكرية في النظام السياسي في اليمن بعد تشكيل المجلس السياسي الأعلى إن الاتفاق الموقع بتاريخ 28 يوليو 2016م بين أكبر القوى السياسية في الجمهورية اليمنية بشأن تشكيل مجلس سياسي أعلى بهدف توحيد الجهود لمواجهة العدوان السعودي وحلفاؤه ولإدارة شؤون الدولة في البلاد سياسياً, وعسكرياً, وأمنياً, واقتصادياً, وإدارياً, واجتماعياً وفقاً للدستور.
يشير إلى اتجاه اليمن نحو منظومة الحكم الرشيد كأسلوب متقدم من أساليب الحكم والإدارة الجيدة أو الرشيدة وكهدف إستراتيجي(لتحقيق المصلحة الوطنية بجوانبها السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك, وللحفاظ على وحدة الوطن وأمنه واستقراره وسلامة أراضيه والذود عن حياضه, وتنسيق الجهود, ومضاعفتها للدفاع عنه وعن الدولة اليمنية والمجتمع ورفع مستوى التنسيق والتخطيط لتحقيق ذلك) والذي يمثل الأهداف الأساسية للاتفاق؛ مما يشكل نقلة نوعية ومتقدمة لوضع اليمن الحالي وثمرة للنضال السياسي في تاريخ اليمن المعاصر.
وقد اكتسب تشكيل المجلس السياسي الأعلى شرعية دستورية وقانونية بموافقة أغلبية مجلس النواب اليمني في 13/8/2016م, وبأداء اليمين الدستورية أمام مجلس النواب من قبل أعضاء المجلس السياسي الأعلى في 14/8/2016م.
وقد أتى الاتفاق من ناحية كإنقاذ وضرورة حتمية وحل سليم ومتكامل لسد الفراغ السياسي في البلاد, وما نتج عنه من وضع كارثي في الجوانب السياسية والأمنية والإدارية والاقتصادية, والذي تم افتعاله بمؤامرة قوى ارتهان وعدوان محلية و إقليمية ودولية شعرت بفقدان الارتهان والهيمنة الاستعمارية على اليمن, بعد أن كادت اليمن تصل إلى بر الأمان بعد التوافق بين جميع الأطراف والقوى والمكونات السياسية والاجتماعية اليمنية على مخرجات الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة وبرعاية أممية.
ومن ناحية أخرى فقد أتى الاتفاق نتيجة العدوان السعودي وتحالفه الهمجي على اليمن أرضاً وإنساناً على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي, وفي مقدمته الأمم المتحدة, واستخدامه لأسلحة محرمة دولياً, ناهيك عن حصاره البري والبحري والجوي, وخرقه للمواثيق والاتفاقيات الدولية وتدخله في المشاورات التي ترعاها الأمم المتحدة وكل ذلك لإبقاء وضع اليمن في شلل تام من كل النواحي.
لكل ذلك جاء الاتفاق كنتيجة طبيعية وحكيمة في ظل تصدي الشعب اليمني العظيم بجيشه ولجانه الشعبية وقبائله الحرة بقوة وبسالة ونصر في مواجهة قوى العدوان والبغي, وأهدافها الرامية إلى إخضاع اليمن أرضاً وإنساناً وفرض هيمنتها عليه.
لذلك فالمتأمل يرى من خلال أهداف تشكيل المجلس السياسي الأعلى ومهامه الرئيسة توافقه مع مفهوم الحكم الرشيد ( ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون الدولة على كافة المستويات) كمؤشرات واضحة من الناحية النظرية, ولا يوجد أي توصيف آخر وفقاً للمدارس الفكرية الأخرى باعتبار الشكل الجديد الذي يتخذه خلال هذه الفترة من تاريخ اليمن المعاصر, إلا انه يمكن ان يحصل مزيج من التطبيق وفقا للمدارس الاخرى من الناحية العملية وسيتضح ذلك أكثر في “تحديد ما هو كائن” الواقع الفعلي .
(الواقع الفعلي)
من خلال قراءة أهداف الاتفاق المذكور في المبحث السابق وتشكيل المجلس السياسي الأعلى وتحديد مهامه العامة واكتسابه للشرعية الدستورية والقانونية بموافقة أغلبية أعضاء البرلمان على تشكيله, وأداء أعضائه لليمين الدستورية تحت قبة البرلمان, وما رافقه من تأييد شعبي واسع, واستلامه للسلطة وإصداره لقرارين بشأن اختصاصاته ومهامه ولائحته الداخلية؛ يتضح التوجه نحو منظومة “الحكم الرشيد” في الخطوط العامة والرئيسية لتشكيله وأهدافه ومهامه الرئيسية والتي تحتوي على عناصر التجديد التي ظهرت نتيجة متغيرات عديدة.
ونظراً لأن المجلس السياسي الأعلى ما زال في طور التأسيس, إلا أن المؤشرات المستقاة من خلال نصوص الاتفاق على تشكيله والقرارات الصادرة بشأن اختصاصاته ومهامه ولائحته الداخلية تؤكد اتجاه هذا الأسلوب في إدارة الحكم إلى منظومة “الحكم الرشيد” نظرياً على الأقل باعتبار أنه في مرحلة التأسيس وتحقيقه على الواقع الفعلي سيكون من خلال آليات وعمليات ومؤسسات تتيح للأفراد والجماعات تحقيق مصالحها. كما أنه لابد من الاستفادة من أساليب المدارس الأخرى الذي تأسس النظام السياسي عليها عند بناء الدولة اليمنية مثل المنهج القانوني و التنظيم البيروقراطي باعتبار أن النظام السياسي في اليمن قد انتهج هذه الأساليب في إدارة الحكم لعقود من الزمن , ومازال النظام قائما عليها , إلا أنه يمكن الاستفادة من هذا الأمر والمضي نحو الحكم الرشيد بتفعيل وجودة الأسلوب الجيد لإدارة شؤون الدولة والمجتمع, والعمل على الاهتمام بالمحددات الهامة لهذا النوع من أساليب الحكم الجيدة أو الرشيدة والتي تشمل الديمقراطية, والاستقرار, واحترام حقوق الإنسان, ووجود جهاز خدمة مدنية قوي وكفؤ, والشرعية والتعددية المؤسسية, والمشاركة والشفافية, ومكافحة الفساد, والرقابة, وسيادة القانون.
ما يجب أن يكون وفقا لمدرسة الحكم الرشيد بعد أن قمنا بتحديد الواقع الفعلي لما هو كائن للنظام السياسي الحالي في الجمهورية اليمنية, المتمثل في المجلس السياسي الأعلى من خلال تشكيله وشرعيته الدستورية والقانونية, واستلامه للسلطة وإصداره لقرارين بشأن اختصاصاته ومهامه ولائحته التنفيذية, والتي يتبين معها القول أنه يمكن تصوره ضمن مدرسة “الحكم الرشيد”.
ومن هذا المنطلق نستطيع تصور ما يجب أن يكون عليه وفقاً لمنظومة الحكم الرشيد. ,
ولعل من أهم الوسائل لتحقيق أهدافه التي يسعى إليها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع هي أولاً؛ تحقيق التنمية الاقتصادية ومحاربة الفساد, من خلال الربط بين الكفاءة الإدارية الحكومية والنمو الاقتصادي, ثانياً؛ تدعيم المشاركة وتفعيل المجتمع المدني وكل ما يجعل من الدولة ممثل شرعي لمواطنيها, ثالثاً؛ المساءلة والرقابة والنزاهة.
وكذلك فمن المناسب أن نذكر هنا المحددات الرئيسية لمخرجات الحوار الوطني المتعلقة بالحكم الرشيد وهي: [سيادة القانون – توازن السلطة والمسؤولية – تطبيق المساءلة والمحاسبة والشفافية – تحقيق العدالة والمساواة – محاربة ظاهرة الفساد – تكافؤ الفرص بين المواطنين – توسيع المشاركة الشعبية – كفاءة الإدارة العامة – دور منظمات المجتمع المدني – دور الأحزاب – أسس السياسة الخارجية].
الاتجاه نحو اللامركزية
من الملاحظ في السنوات الأخيرة تزايد الاهتمام بموضوع اللامركزية بأبعادها السياسية والإدارية والمالية, وقد جاء هذا الاهتمام في إطار التوجه نحو توسيع نطاق مشاركة المواطنين ودورهم في ظل منظومة الحكم الرشيد Good Governance وتقليص الأدوار التي تقوم بها الدولة في الإدارة ومجالات الإنتاج المختلفة, ومنح القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني دور أكبر في إدارة وتمويل عملية التنمية الشاملة.
وقد ظهر الاهتمام بموضوع اللامركزية في تقارير المنظمات الدولية المهتمة بمسيرة التنمية على مستوى العالم. ويسود الاعتقاد لدى الكثير من المهتمين بشؤون الإصلاح والتغيير المؤسسي في الإدارة العامة بأن تبني اللامركزية في صورها المتقدمة يساهم بصورة كبيرة في الدفع بجهود الإصلاح السياسي والإداري التي تقوم بها كثير من دول العالم في الآونة الأخيرة.
ويرى الدكتور السيد غانم أنه يمكن تقسيم الأسباب التي دعت إلى الأخذ باللامركزية على مستوى العالم في الآونة الأخيرة إلى ثلاثة عوامل هي:
عوامل أيديولوجية: وتتمثل في القناعة الأيديولوجية بعدم الثقة بالحكومة المركزية أو غياب الوثوق بها, والإيمان بقيمة الفرد والمسؤولية المحلية والاستقلال المحلي, ورد الفعل السلبي إزاء صور الحكم المركزية أو السلطوية.
عوامل سياسية: وتتمثل العوامل السياسية في تبني اللامركزية الإيمان بقضية الاستقلالية أو التمثيل الشعبي, الأخذ بالديمقراطية (المشاركة السياسية), ضرورة تخلص الحكومة المركزية من الوظائف المكلفة أو المرهقة لكاهل جهازها الإداري.
عوامل إدارية – اقتصادية: وتتمثل تلك العوامل في توفير الخدمات العامة والبنية التحتية بكفاءة وفاعلية أكبر, تفصيل الخدمات تبعاً للحاجات والظروف المحلية, تحسين صيانة البنية التحتية, زيادة التنافس في توفير الخدمات بين وحدات الحكومة, وبين الحكومة والقطاع الخاص, جعل البيروقراطية أكثر استجابة لحاجات ورغبات المستهلكين (المواطنين) (4).
(تصورات تحويلية على أرض الواقع)
يمكن استنباط خطة تطويرية من خلال تعريفات مفهوم “إدارة شؤون الدولة والمجتمع” تتلخص في الأتي:
1. دراسة العلاقة بين آليات السوق من جانب والتدخل الحكومي من جانب آخر فيما يتعلق بالخدمات العامة؛ ويتمثل ذلك في:
أ. الحد من التدخل الحكومي وضغط النفقات العامة.
ب. الاتجاه نحو الخصخصة, وهو ما يسمى بدولة الحد الأدنى.
2. التركيز على المنظمات الخاصة ومنظمات إدارة الأعمال, ويتمثل في:
أ. مطالب المساهمين وكيفية إرضاء العميل.
ب. كيفية عمل نظام داخل الشركة يحقق مصالح المنتفعين بها.
3. إدخال أساليب إدارة الأعمال في المنظمات العامة مثل: “المنافسة – قياس الأداء – التمكين… الخ”.
4. الربط بين الجوانب السياسية لمفهوم إدارة شؤون الدولة والمجتمع في منظومة القيم الديمقراطية من جانب, ومؤشرات شرعية النظام والمساءلة من جانب آخر,ويمثل هذا المحور تبني سياسات مثل:
أ. الإصلاح الإداري.
ب. تقليص حجم المؤسسات الحكومية.
ج. تشجيع الاتجاه نحو القطاع الخاص.
د. تشجيع اللامركزية الإدارية.
ه. توسيع دور المنظمات غير الحكومية.
5. الاهتمام بدراسة إدارة مجموعة الشبكات المنظمة في عدد من الأجهزة والمنظمات.
الخاتمـــــــــــــــة
إن نتائج الدراسة يمكن استخلاصها فيما أوردناه وناقشناه من تصور اتجاه اليمن نحو منظومة الحكم الرشيد في التطبيق العملي والواقع الفعلي وما يجب أن يكون والاتجاه نحو اللامركزية وأخيرا في التصورات التحويلية.
وفي الختام نلاحظ أنه عادة ما تشير الأدبيات إلى قائمة من المؤشرات تشمل الديمقراطية والاستقرار واحترام حقوق الإنسان ووجود جهاز خدمة مدنية قوي وكفؤ والشرعية والتعددية المؤسسية والمشاركة والشفافية لمكافحة الفساد والرقابة وسيادة القانون وتؤخذ هذه المؤشرات كتعبير عن الأسلوب الجيد لإدارة شؤون الدولة والمجتمع.
* تقرير بحثي مقدم لبرنامج الماجستير التنفيذي في الإدارة العامة